يُعد سؤال التسامح اليوم مطلبًا أساسيًّا وحاجة ضرورية، من أجل تأسيس وبناء ثقافة جديدة للسلام العالمي، خاصة بعد أن خرج العالم من دائرة ما عُرف بالحرب الباردة. إلا أن الحقبة المعاصرة التي تتميز بانهيار القطبية الثنائية، عرفت انبعاث نزعات عرقية، وصعود العديد من الحركات اليمينية والدينية المتطرفة في أوربا وفي العالم العربي والإسلامي، تشترك في التعصب ورفض قيم التسامح والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومعاداة الآخر وكراهية الأجنبي. دفعت هذه الأشكال الجديدة من اللاتسامح بالمجتمع الدولي، لاستعادة بناء منظومة التسامح واكتشاف فضائلها، مما أدى إلى إثارة سجالات فلسفية ونظرية بين مختلف النخب الثقافية والسياسية حول مظاهر وحدود التسامح.
لم يقف المثقف العربي المعاصر بعيدًا عن هذا الاهتمام والسجال نظرًا لبروز مشاكل راهنة في المجتمعات المعاصرة، جعلت سؤال التسامح لديه موضوعًا للتفكير في أبعاده المتعددة. إلا أن المثقف العربي وبحكم انتمائه الحضاري، سيجد فكره محاصرًا بأسئلة إشكالية مغايرة وخاصة، تدور حول مفهوم التسامح في حد ذاته، تجلَّى أبرزها في السؤال: كيف بلورت المنظومة الثقافة العربية الإسلامية مفهوم التسامح؟ هل كان مفكرًا فيه داخل هذه الثقافة، أم أنه يندرج ضمن اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي؟ من ثم انخرط العديد من المثقفين العرب في هذه الإشكالية، نذكر منهم على سبيل المثال، محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وعلي أومليل.
تأصيل مفهوم التسامح في التراث العربي
تختلف الرؤيا التي انطلق منها محمد عابد الجابري عن رؤية مجموعة من المثقفين العرب، لكونها تسير في اتجاه القول بضرورة تأصيل مفهوم التسامح في الحضارة العربية والتراث الإسلامي، انطلاقًا من أطروحته التي تقول بـ “تبيئة المفاهيم الحديثة في ثقافتنا”. مما جعل عملية تبيئة المفاهيم الحديثة المنقولة من الفكر الأوربي، من ضمن الآليات التي اشتغل بها محمد عابد الجابري في جل ما كتبه عن التراث. حيث يعتبر أن اللجوء إلى تبيئة مفهوم ما من المفاهيم في حقل معرفي أجنبي عن حقله المعرفي الأصلي، إنما تمليه الحاجة إليه في ذلك الحقل.
فما هي الحاجة التي أملت على محمد عابد الجابري تبنّيه مفهوم التسامح الحديث؟ ولماذا حاول البحث له عن مرجعية إسلامية يستند إليها؟ يرى محمد عابد الجابري في هذا الشأن، أن ثمة قضايا ومعضلات معاصرة تدفع إلى ذلك، تجعل من التسامح اليوم إحدى الشعارات التي تطرح بحدة. تجلت أبرز هذه القضايا/المشاكل حسب تصوره فيما يلي: التطرف الديني باسم الدين أو ضد الدين، التطهير العرقي، التفكير الأحادي الذي يطمح للسيطرة على العالم، انتشار الأيديولوجيات القائلة بصراع الحضارات ..إلخ.
وانطلاقًا من تعريفه للتسامح باعتباره يقوم على ضرورة فهم الآخر وإعطائه الأسبقية، مع التماس الحجة له -بقدر ما نلتمسها لأنفسنا- وتوفير الحق له؛ أكد على أن “إعطاء الأسبقية للآخر هو جوهر التسامح”. بهذا، سيجد محمد عابد الجابري ضالته في مفهومي الاجتهاد والعدل.
أما عن التجليات الأولى للتسامح، فيجدها الجابري لدى الجيل الأول من المثقفين في الإسلام. ويعني بهم ما عرف في كتب الفرق الكلامية بـ”المرجئة والقدرية”. حيث كانت أفكار هؤلاء تدور حول محورين رئيسيين: التسامح من جهة والتأكيد على حرية الإنسان من جهة ثانية. أما مظاهر التسامح فتجلت في تحديدهم لمعنى الإيمان. ذلك أن المعروف تاريخيًّا أن هذه المسألة كانت موضوع خلاف زمن الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. حيث اعتزلت جماعة من المسلمين هذا الصراع (المرجئة والقدرية)، وقالت بفصل الإيمان عن العمل، وعدم تكفير أي واحد من المتصارعين. خلافًا لجماعة الخوارج التي تطرفت وحكمت بالتكفير انطلاقًا من ربط الإيمان بالعمل.
انتهى محمد عابد الجابري إلى إعادة بناء مفهوم التسامح بالصورة التي تجعله يعبر داخل الثقافة العربية عن المعنى الذي أعطى له داخل الفكر الأوربي كمفهوم ليبرالي. لكنه بهذه النتيجة، يضع أطروحته في تعارض من مفكرين آخرين عرب، الذين انطلقوا مقيدين بمعنى سابق، ومفهوم محدد للتسامح استوحوه من الثقافة الأوربية. لذا، فليس من الغرابة في شيء ألا يعثروا عما يبحثون عنه. بينما لو انطلقوا من واقع التجربة الإسلامية الغنية وتطوراتها في شتى المجالات الفكرية والفلسفية والصوفية والإبداعية، لوجدوا أن هذه التجربة تتقاطع مع مفهوم وتقليد في مستوى التسامح الأوربي، ولكن بكلمة وبمفاهيم أخرى، نابعة من واقع المجتمعات العربية الإسلامية وثقافتها الخاصة. ذلك أن روح التسامح هذه حاضرة في التجربة الفلسفية العربية الإسلامية بدءًا من الكندي، واستمرارًا مع ابن رشد الذي كان حريصًا على بيداغوجية التسامح في مؤلفاته. حيث كان يؤكد على ضرورة احترام آراء وأفكار مَن تَقدَّم (إشارة منه إلى اليونان)، سواء كان ذلك الغير مشاركًا لنا أو غير مشارك في الملة.
تتضمن هذه الآراء دعوة للتسامح باحترام ثقافة الآخر، والقبول ضمنيًّا باختلاف الثقافات وتنوعها، وضرورة التعايش والحوار فيما بينها، أي ما يسمى راهنًا بثقافة السلم. كما نجد هذه الروح أيضًا عند صاحب “الفتوحات المكية” محي الدين بن عربي (1164،1240م)، حيث نلمس لديه نزعة التسامح الديني من خلال قصيدته الشعرية “تناوحت الأرواح”:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة | فمرعىً لغزلانٍ ودير لرهبان |
كما يقول كذلك:
أدين بدين الحب أنّى توجهتْ | ركائبُهُ فالحب ديني وإيماني |
إن توظيف ابن عربي لكلمة “حب”، تحمل دلالة التسامح. ذلك أن بعض التصورات الحديثة التي تفضل توظيف كلمة الاحترام والحب بدل كلمة التسامح -كما هو وارد في معجم لالاند- مرتبط بطبيعة وواقع المجتمع الإسلامي في الأندلس، وحاجته إلى التسامح والتعايش الديني بين المسلمين والمسيحيين آنذاك. لعل هذا ما يؤكد ضرورة التفكير في التسامح، ومدى حضوره أو غيابه في الثقافة العربية الإسلامية، انطلاقًا من المجتمع وحاجاته وتجاربه وتطلعاته، وعدم الاقتصار على التحليل اللغوي، أو البحث في تلك القواميس عن وجود هذه الكلمة التي تقود إلى المفهوم، حتى وإن كنا نسلم بأن اللغة تعكس ثقافة المجتمع، وتؤثر في بناء فكره ومفاهيمه ومقولاته في كل حقبة من حقبه التاريخية؛ لأن التاريخ العربي والتجربة الإسلامية في غناها وتنوعها واتساعها قادرة على أن تقدم للباحث المهتم بإشكالية الإسلام والحداثة، تربة خصبة لتأصيل واستنبات الكثير من قيم ومفاهيم الحداثة، لتصبح هذه الأخيرة حاملة لمعنى إيجابي.. لا يجعلها فقط رديفة للغرب ومرتبطة بزمن معين، بل تفهم باعتبارها موقفًا للروح أمام مشكلة المعرفة.
لعل هذا ما يتيح إمكانية الإمساك بلحظات حداثية في تاريخ الفكر العربي والتراث الإسلامي، كما هو الشأن مع لحظة المعتزلة بعقلانيتهم وقولهم بالحرية، وكذا لحظة ابن رشد بعقلانيته وتسامحه الفكري، وكذلك لحظة المفكرين ذوي النزعة الإنسانية في القرن الرابع الهجري، من قبيل مسكويه والتوحيدي والجاحظ ..إلخ.
إذا كان هذا هو التصور الفكري الذي قدمه محمد عابد الجابري عن سؤال التسامح في التراث العربي، فما هي الرؤيا التي أقامها علي أومليل؟
التسامح وشرعية الاختلاف
تجلت فكرة التسامح في فكر علي أومليل في كتابه”الإصلاحية العربية والدولة الوطنية”، حيث انطلق من سؤال محوري مفاده، هل كان مفهوم التسامح مفهومًا محايدًا، أم هو وليد ظرفية الضغط الاستعماري الأوربي على العالم الإسلامي؟ بمعنى، هل كان الهدف من مفهوم التسامح في نظر علي أومليل، يرتبط بتحليل مفاهيمي معين، أم يتعلق الأمر -بالدرجة الأولى- بمحاولة التذكير بظرفية تاريخية تَشكل فيها هذا المفهوم، ليتضح كيف أنه استمد مدلولاته الأصلية منها؟ لكن لكي يتضح أيضًا أنه خارج هذا الظرف، يصبح هذا المفهوم غير إجرائي. بالإضافة إلى ما يلحقه من قلق في توظيف العبارة (التسامح) كما عبر عن ذلك القدماء. الأمر الذي يؤدي بكل مفهوم يتغرب أو يريد التغريب عن مجاله الأصلي، إلى الانقراض أو الذوبان في الآخر.
كما نلمس أيضًا التسامح باعتباره فكرة وسلوكًا، من خلال عمله الثاني “في شرعية الاختلاف”، الذي أظهر من خلاله مرحلة تاريخية كانت المجتمعات الإسلامية في موقع قوة. فقد كان المثقف المسلم واثقًا من حضارته ودينه وعلومه على غيره من الأمم أو الشعوب. بمعنى، أن الآخر كان معجبًا بسلوكه وإنجازاته، لذا سعى لأجل بلوغها أو العمل على تقليدها. الأمر الذي جعل علي أومليل يحفر في التراث الإسلامي بمراحله التاريخية القديمة والحديثة وحتى المعاصرة.
فقد عاد الباحث علي أومليل -شأنه في ذلك شأن محمد أركون، ومحمد عابد الجابري- للإجابة على سؤال محوري، مفاده هل التراث العربي الإسلامي كان عاملاً مساعدًا، أو عائقًا على تكون عقلية قابلة بشرعية الاختلاف والتسامح؟ إلا أنه بعد البحث في البنية الاصطلاحية الإسلامية الحديثة، أدرك أنها واقعة تحت تأثير الظروف التاريخية الاستعمارية التي كانت تهدد وحدة الأمة. بمعنى أنه من غير المتوقع أن يُفهم التسامح من طرف مثقفي هذه الفترة التاريخية الحرجة، التي كان يعانيها المجتمع العربي الإسلامي بصفة خاصة. لأن التسامح باعتباره اعترافًا بالاختلاف في مجتمع مهدد من الخارج، لا يعني سوى الخلاف والتشتت والتمزق وضرب وحدة الأمة. وبالتالي، فإن الموقف السائد في ظرفية الضغط الاستعماري هو موقف الرفض لهذه السلوكيات التسامحية بمعناها الليبرالي الحديث، التي لا تمت بصلة إلى الواقع الحقيقي الحرج التي تعيشه المجتمعات الإسلامية، لكونها تعيش تحت الضغط، مسلوبة الحرية والإرادة.
لم يكن ذلك -كما أكد علي أومليل- راجعًا فقط إلى عدم فهم مفكري هذه الحقبة للأفكار الأوروبية الحديثة، لكن لأن هذا الفكر -كأي فكر آخر- له إشكالاته الخاصة. فلا بد أن يصدر عن تأويل لما يتداوله من أفكار إسلامية كانت أم غربية، سواء قصد إلى ذلك أم لم يقصد، مما يجعل التأويل قائمًا بحكم إشكالية حددتها ظرفية العالم الإسلامي الحديث، منذ وقوعه تحت إلزامية مراعاة المبادئ الإسلامية، وكذا عدم الخروج عنها.
إنه ليس في استطاعة رجل الإصلاح المسلم أن يجتهد في ظل أجواء غير ملائمة ولا مناسبة للتأويل الذي يريده، مما يبين أثر الظرفية التاريخية التي عاشها الفكر الإصلاحي العربي الحديث، واضطراره إلى تأويل الأفكار الغربية التي وصلته، والذي أصبح ملزمًا بانتهاجها وسلوكها. أي لا بد من التعامل مع الظرف.
لعل هذا ما جعل علي أومليل يبدي اهتمامًا في مؤلفه “شرعية الاختلاف”، بما كتبه القدماء خاصة في المواضيع المتعلقة بالعقائد والمذاهب، قصْدَ إيجاد تلك الآليات المناسبة للتعامل مع المفاهيم المستحدثة، شأن مفهوم التسامح والحرية وغيرهما من المصطلحات التي أصبحت تفرض نفسها عل المجتمعات.
على الرغم مما أشرنا إليه، فإن إشكالية مفهوم التسامح في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، من بين الإشكالات الفكرية التي يصعب الوصول إلى تحديد معناها الأصلي وأبعادها. لكن بالإمكان -في المقابل- أن نتوقف عند معناها من خلال دراسة الواقع، باعتبار أن التسامح عملية إلزامية، تستدعي الحوار والتعايش، وتقبل الآخر الذي لا نستطيع بدونه تحقيق ما نأمل بلوغه. بهذا، يقوم التسامح في أبعاده المختلفة على حق الاختلاف، وإدراك معاني التعددية، والإيمان بالعلاقات المتوازنة بين الأفراد والمجتمعات. كما يؤمن بأن الاختلاف، لا ينبغي أن يقود إلى الصراع، ليصبح التسامح ذلك الموقف الذي يبيح لشخص ما قبول أساليب الآخرين في التفكير وطريقة معيشتهم الحياتية، ضد كل ما يمكن أن يعكّر صفوها، ومكافحة أدران العنصرية والكراهية المتزمّتة، والاستعاضة عن كل ذلك بقيم الاندماج والاعتراف والاحترام، وليس العزل والإقصاء والتقوقع على الذات، الذي لا نستطيع معه أن نفهم الآخر، مما يجعل التسامح يضمن محاربة الإقصاء الاجتماعي والنّزاع والعزلة.
(*) كاتب وباحث مغربي.
المراجع
(1) المثقفون في الحضارة العربية، محمد عابد الجابري، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995.
(2) فصل المقال، ابن رشد، ط1، دار الشروق، بيروت 1986.
(3) الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، علي أومليل، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت 2005.
(4) شرعية الاختلاف، علي أومليل، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب 2005.