المرجعية القرآنية  في تأسيس قيم المواطنة

يكتسي موضوع قيم المواطنة أهمية كبيرة في عصرنا الراهن، في ظل الانفجار المعلوماتي غير المرشَّد، والتكنولوجيات القابلة للاستعمال في مختلف الاتجاهات، و”الاكتشافات العلمية المتيممة شطر الربح، والمنفلتة من كل كبح، يشكل كل ذلك اليوم، مصادر تأثير كبير على الحياة فوق كوكبنا وما حوله، وباتت تهدد بانهيار العديد من النظريات القيمية والأنساق المعيارية”، باعتبار أن القيم هي المُوَجِّه الأساس للسلوك الإنساني، لكونها ترسم الطريق وتنبثق عنها الأهداف.

القيم القرآنية شاملة لجميع شؤون الحياة، وتركز على بناء التصور الشامل للإنسان والكون والحياة، وتراعي جانب الروح والعقل والجسم، ولا تترك مجالاً لطغيان حاجة على أخرى، بل تراعي جميع تلك النواحي، ما ينعكس إيجابًا على المواطنة وقيمها. ولتوضيح ذلك قدر الإمكان، نقترح تحليل المحاور الآتية:

1- خصائص قيم المواطنة في القرآن الكريم

تتميز منظومة القيم في القرآن الكريم بخصائص عديدة تميزها عن القيم في الرؤية الوضعية الغربية. فالقرآن الكريم جمع المحاسن كلها والمصالح التي تُسعد الإنسان في الدنيا والآخرة”.

ومن هنا تبرز القيم القرآنية التي تحقق للفرد والمجتمع السعادة والاستقرار ومقومات المجتمع المثالي. من أهم خصائص القيم القرآنية:

أ- الشمول: القيم القرآنية شاملة لجميع شؤون الحياة، وتركز على بناء التصور الشامل للإنسان والكون والحياة، وتراعي جانب الروح والعقل والجسم. فالقيم في القرآن الكريم لم تدع جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية بجميع مجالاتها روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية.. إلا رسمت له الطريق الأمثل للسلوك الرفيع. فمنها ما يتعلق بالفرد في كافة جوانبه؛ جسمًا، له ضروراته وحاجاته، وعقلاً، له مواهبه وآفاقه، ونفسًا، لها مشاعرها ودوافعها وأشواقها.. وما يتعلق بالأسرة كالعلاقة بين الزوجين والعلاقة بين الأولاد، والعلاقات بين الأقارب والأرحام.. ومنها ما يتعلق بالمجتمع في آدابه ومجاملاته، وفي اقتصاده ومعاملاته، وفي سياسته وحكمه.. ومنها ما يتعلق بغير العقلاء من الحيوان والطير.. ومنها ما يتعلق بالكون الكبير.. وقبل ذلك كله، ما يتعلق بحق الخالق العظيم الذي منه كل النعم وله كل الحمد والثناء سبحانه وتعالى، وبهذا يتجلى شمول القيم القرآنية من حيث موضوعها ومحتواها.

بـ- ربانية: تمتاز القيم القرآنية بأنها ربانية المصدر، ومرتبطة بالوحي من الله عز وجل قال تعالى: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138). القيم في القرآن الكريم ربانية المنشأ، أي أنها من عند الله سبحانه وتعالى، فمصدرها الأول القرآن الكريم الذي قال الله عنه: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الحاقة:43)، وهذه الخاصية من أعظم مزايا القيم القرآنية وخصائصها على الإطلاق، بمعنى “أن الوحي الإلهي هو الذي وضع أصولها، وحدد أساسياتها التي لا بد منها لبيان معالم القيم القرآنية، حتى تبدو متكاملة متماسكة متميزة عن غيرها في مخبرها وظهرها”، فهي بكل خصائصها ومقوماتها، مستمدة من كتاب الله تعالى، فالواجب على الإنسان أن يتكيف معها ويطبقها في حياته، وذلك لأنها توجه حركة الإنسان إلى خالقه، وتحيل الأهداف الدنيا إلى وسائل لتحقيق هذه الغاية العظمى. فالقيم عندما تكون ربانية المصدر، فإنها حينئذ تستقر في أعماق النفس فتحرر الإنسان من العبودية لأنانيته، وشهوات نفسه، ولذات حسه، ومن الخضوع والاستسلام لمطالبه المادية، ورغباته الشخصية.

فالقيم ترتفع بالإنسان وتسمو به إلى أفق أعلى، “أفق الإنسانية المتحررة التي تتصرف بوعيها وإرادتها، لا بوحي شهواتها وغريزتها الحيوانية”. والقيم القرآنية تحترم وتُطاع طاعة اختيارية تنبع من ذات الفرد، لأنها تقوم على الإيمان، فكلما ازداد إيمان الفرد عمقًا ورسوخًا كملت أخلاقه وازداد تمسكًا بقيمه. ولذا، فإن تمسك المسلم بقيم دينه، دليل على إيمانه، وهو مظهر تعبدي يرتضيه الله سبحانه وتعالى من عباده، وما دام المؤمن في عمل يرتضيه الله، فهو في عبادة، وبه نحكم على السلوك الإنساني ونقيمه. “أما القوانين الوضعية التي لا تنبع من ذات الفرد، فليس لها مثل هذا التقدير والاحترام والهيبة التي تتمتع بها القيم القرآنية في نفوس المؤمنين”.

إن القيم مستمدة من كتاب الله تعالى تؤدي إلى شعور عميق بالثقة الكاملة بتلك القيم، وذلك لأن “هذا الكتاب محله ثقة الناس، لأنه مبرأ من كل نقص أو هوى قد يصاحب العمل الإنساني أو يؤثر في الفكر البشري”. وعلى هذا، انبثاق القيم من المنهج القرآني الرباني، يعطينا مطلق الثقة الكاملة بها، ويجعلها موضع الإيمان والتسليم.

جـ- العموم: ليست القيم القرآنية قاصرة على بعض الأفراد والمجتمع وفي زمن دون زمن، ولا هي مرتبطة بأشخاص مثاليين يرقى الواحد منهم بنفسه وروحه ليكون في عداد الأخيار الأطهار القلائل، “ولكنها في حقيقتها مقدورة وميسورة، يمارسها الإنسان في اقتدار ميسر وفي رغبة ذاتية نشطة. وهي بذلك تتسم بالعموم الذي يتحقق في الأمة كلها أفرادًا وجماعات في جميع الأوضاع والأحوال، وفي مختلف الأمكنة والأزمنة بغير تفريق أو تمييز”.

د- الملاءمة للفطرة: جاءت آيات القرآن الكريم بما يلائم الفطرة والطبيعة البشرية ويكملها لا بما يضادها ويصدمها. ومن المعلوم أن القيم القرآنية تراعي حال الإنسان وظروفه، وترفع عنه الحرج، وهذا أمر يعطي الدلالة القاطعة على التوافق مع الفطرة، كيلا يكون هناك شيء من تخالف أو تصادم.

ومما يؤكد ملاءمة القيم للفطرة، أن القيم تقوم على أساس هو كتاب الله عز وجل، وهذا الأساس ملائم للفطرة الإنسانية الأصيلة، ومن ثم ظلت هذه القيم في حركتها منسجمة مع فطرة الإنسان، “خلافًا لقيم ومبادئ أخرى ترتكز على أيديولوجيات أو فلسفات منحرفة مخالفة للفطرة، فتكون قيمتها في حركتها وواقعها العملي بعيدة عن الفطرة”.

هـ- الإيجابية: وهي أن يتعدى الخير للآخرين. والقيم منفتحة على أبواب الخير، وكون الحامل للقيم صالحًا في نفسه لا يكفي، بل يكون صالحًا ومصلحًا، ولا يكون خيرًا في نفسه، بل يوصل الخير للآخرين، ومع ذلك يتفاعل مع مجتمعه، وينشر الخير، ويصلح بين الناس، ويعلم الجاهل، ويرشد الضال، ولا ينطوي على نفسه ويعتزل المجتمع، بل يتفاعل مع أفراده ويؤثر فيه ويصلح ويدعو للخير.

وعلى ضوء ذلك، فخصائص القيم في القرآن الكريم متوازنة، تحرص على إقامة التوازن بين حاجات الإنسان، وتراعي جميع الجوانب في آن واحد، سواء النواحي العقلية أو العاطفية، وتقيم التوازن بين حاجات الروح والعقل والجسد.

2التأسيس القرآني للمواطنة

تفرض المواطنة على المواطن مجموعة من الواجبات التي عليه القيام بها والالتزام بمقتضاها رعاية لحق الوطن وسلامته، لأنه إذا لم يوفِّ أبناء الوطن بما عليه من حقوق لوطنه، ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها.

القرآن الكريم جعل حدود المواطنة أوسع من الحدود الجغرافية الإقليمية الضيقة للوطن.. يكون كل فرد مسلم أو معاهد مواطنًا، لأنه عضو من الأمة الإسلامية، له كل الحقوق، وعليه كل الواجبات.. فالمسلم ليس له وطن مخصوص، وكل البلاد الإسلامية هي وطن المسلم، وأن حبه للوطن بالمعنى الإقليمي الضيق، لا يمنع من حبه للأمة الإسلامية بصفة عامة. فالمواطنون في الوطن الضيق، متساوون في الحقوق والواجبات وهي الدائرة الأولى، ثم تتسع الدائرة من أجل تحقيق وحدة المسلمين وقوتهم وصون عزتهم وكرامتهم، لتشمل جميع الأمة الإسلامية. وجاء القرآن الكريم بتأييد قيم المواطنة في مواضع متعددة منها ما يلي:

•قوله تعالى حكاية عن قوم شعيب: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) (هود:91)، فكلمة “فينا”، تدل على معايشة شعيب عليه الصلاة والسلام لهم وتوطنه معهم رغم كفرهم. قرر القرآن الكريم من خلال هذه الآية وغيرها من الآيات القرآنية، أن كل الناس متساوون في أصلهم وجنسهم وميولهم الفطرية التي تقتضي التمسك بالمواطنة وحب الوطن. ومن الأمثلة على المواطنة في القرآن الكريم، نجد كذلك:

•لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، نظر صلى الله عليه وسلم إلى وطنه الذي ولد فيه (مكة) وقال: “والله إنك أحب أرض الله إليَّ، ولولا أهلكِ أخرجوني منك ما خرجت” (رواه البخاري)، فأنزل الله تعالى مطمئنًا له: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ((القصص:85).

لفظ القيمة استعملت في مجال العبادة الخالصة لله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5). وقوله تعالى: (أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (يوسف:40). وفي مجال الأحكام والقضاء يقول الله تعالى: (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة:2-3)، وقد بين الله في تلك الصحف أحكامًا قيمة صدرت من الله إلى العباد، وفي مجال وصف الإسلام كله كدين: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ((الروم:43).

ومن هذا كله يتبين لنا أن كلمة القيم قد استعملت في وصف الخصال الحميدة والأفعال النبيلة، وما تؤدي إليه هذه الخصال من المنافع التي تصلح لتربية الفرد والجماعة صلاحًا تتحقق به سعادة الدنيا والآخرة، ومبادئ سليمة وهادية ومرشدة للناس في هذه الحياة. وهي ليست من وضع البشر ولا هي مختلفة من جماعة إلى أخرى، بل هي مثالية عامة يرجع إليها كل سلوك بشري مهما كان مجاله وميدانه.

3الأسس القيمية للمواطنة في القرآن الكريم

إذا كان القرآن الكريم قد خلا من ذكر مصطلح المواطنة، إلا أن آيات القرآن الكريم تدل على بعض مصطلحات أخرى، تدل على معاني المواطنة بجميع أسسها وأركانها ونظمها من حقوق والتزامات متبادلة بين المواطن والسلطات الحاكمة للوطن.

يمكن القول، إن المفهوم الأساسي لقيم المواطنة في القرآن الكريم، يتأسس من الصلة التي تربط بين المسلم كفرد، وعناصر الأمة والمسلمين، وتتوج هذه الصِّلات جميعًا، التي تجمع المسلمين وحاكمهم من جهة، وبين الأرض التي يقيمون عليها من جهة أخرى. فالأسس القيمية للمواطنة من المنظور القرآني هي، مجموعة العلاقات والروابط والصلات التي تنشأ بين المسلمين، وتكون هي الضابط للفكر والسلوك والعلاقات الاجتماعية، مثل قيمة الصدق، والإحسان، والتعاون، وغيرها من القيم الإيجابية التي حث عليها القرآن الكريم.

وعلى ضوء ذلك، فإن الأسس القيمية للمواطنة في القرآن الكريم تتحدد في محددَين أساسيَّين، المحدد الأول تحقيق كرامة الإنسان: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء:70)، والمحدد الثاني تحقيق مقصد وجود الإنسان في الأرض: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30)، باعتبار هذين المحددَين تتأسس منهما كل القيم الإنسانية التي حثت عليها آيات القرآن الكريم.

خاتمة

مفهوم القيمة في القرآن الكريم هو المعيار النابع من القرآن الكريم الذي يحدد سلوك الأفراد بشكل عام. القيم القرآنية شاملة لجميع شؤون الحياة، وتركز على بناء التصور الشامل للإنسان والكون والحياة، وتراعي جانب الروح والعقل والجسم، ولا تترك مجالاً لطغيان حاجة على أخرى، بل تراعي جميع تلك النواحي. القرآن الكريم أسس لقيم المواطنة من خلال الصلة التي تربط بين المسلم كفرد، وعناصر المجتمع ككل، بذلك تتشكل معالم المواطنة بأسس قرآنية، تحقق قيم الإخاء والتسامح والتعارف.

قيم المواطنة في القرآن الكريم، هي معتقدات المسلم حول نماذج السلوك المثالي، التي شرعها الله تعالى، وأمر عباده باتباعها في مواقف الحياة المختلفة، يكتسبها المسلم من خلال فهم القرآن الكريم. ومن خلال فهم السيرة النبوية كذلك باعتبارها الجانب العملي التنزلي لهذه القيم. بذلك تتشكل معالم قيم المواطنة التي تنعكس إيجابًا على الفرد والأسرة بصفة خاصة، والمجتمع ككل بصفة عامة.