على المؤمن أن يتوجه إلى الله بالتوسل والتضرع، مستشعرًا الندم من أعماق قلبه على أبسط الأخطاء التي ارتكبها في حقه سبحانه وتعالى. فإذا ما رفع يديه إلى السماء بالتوبة والاستغفار، أو وضع جبهته على الأرض ساجدًا، بَدَا وكأنه يحمل آثام البشرية بأسرها. ولا ريب أن أعظم مرشد لنا في هذا الأمر هو المرشد الأكمل وقدوة العالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة. ولكن يا تُرى هل كان ذلك بسبب ذنبٍ اقترفه؟ حاشا لله! فهذا الظن يُفضي بالإنسان إلى الشكّ وعدم اليقين.. لقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم بما تتطلبه عبوديته من جانب، ويدعو إلى ما تقتضيه دعوته وإرشاده من جانب آخر، وكان باستغفاره ودعائه كأنما يخاطب أمّته قائلاً “أيها المسلمون! استغفروا الله وتوبوا إليه على كل ذنب اقترفتموه عمدًا أو خطأ أو سهوًا، وابكوا وتحسّروا وتوبوا إلى ربكم على كل الأفكار البغيضة التي لوَّثت أخيلتكم وتصوراتكم وعزائمكم ونواياكم”.
فمن أهم الخصال التي يتّسم بها المؤمن أن ينسَى كلّ خيرٍ فعله، ويتذكر دائمًا أدنى خطإ ارتكبه. أجل، مهما تعمّق المؤمن في عبوديته، ومهما استفرغ طاقته في سبيل تبليغ الدين إلى الصدور المتعطشة، ومهما قدم من خير لتلبية حوائج الناس المادية والمعنوية.. فعليه ألا يقنع بذلك وأن ينساه، حتى لا يُداخله الكِبر والغرور.
وحتى لو تذكر ذنبًا صغيرًا اقترفه قبل خمسين عامًا، فعليه أن يتلوّى ندمًا واضطرابًا وكأنه قد أتى بهذا الذنب حديثًا ويقول في نفسه “كيف تلطخَت يداي بمثل هذه اللوثيات مع أن الله تعالى قد وضع لنا مبادئ إلهية تنير طريقنا حتى لا نحيد عن الطريق المستقيم، وجعلها لنا شرعة ومنهاجًا”. وفي كل مرة يتذكر فيها الذنب يستغفر الله من ذنبه من جديد، وينزل بمطرقة الاستغفار والتوبة على رأس كل خطإ وذنب اقترفه، حتى لا تدنُو الذنوب من حِماه مرة أخرى.
إن ما يليق بالمؤمن الحقيقي هو أن يستصغر مزاياه ونجاحاته مهما كبرت، وأن يهوِّل من شأن أبسط خطاياه وذنوبه مهما صغرت.. أجل، عليه أن يهوّل من حجم انحرافاته الصغيرة والكبيرة كالنظر إلى الحرام أو الاستماع إلى الحرام، أو النطق بالفحش من الكلام، أو المشي إلى الحرام، أو مدّ الأيدي إلى الحرام، أو تلوث العقل بالأفكار البذيئة؛ كل هذه الانحرافات على المؤمن أن يهوّل من شأنها وينقصم ظهره وينحني صلبه أمامها، ويقول كما قال الشاعر:
لو وزنني بهذه الذنوب الديّانُ | لانكسر في أرض المحشر الميزانُ |
فالمؤمن الذي يعيش حياته بهذا الميزان الحساس، سيعيش دائمًا في جوٍّ من المشاعر الروحية العالية، ومَن يداوم على الاستغفار والتوبة، ستكون مشاعره في غاية التيقّظ والتنبه تجاه كل الأمور المنهي عنها، أما مشاعر التأنيب ومحاسبة النفس فستكون بمثابة الخندق الحاجز بينه خط الاستقامة وبين المحرمات، لتتشكل لديه مناعة مسبقة تجاه المعاصي. وإذا حدث العكس ولم يلتزم الشخص بهذه الدرجة من التيقّظ تجاه المحرمات، وتساهل قائلاً “ماذا يمكن أن يحدث من ارتكاب هذا الأمر الصغير؟!”؛ فسيتطور الأمر ومع مرور الوقت ستصبح هذه الصغائر المجمعة ضخمةً كالجبال وسيصيبه وبالها.
وإذا نظرنا إلى حال عظماء الناس، لوجدناهم دائمًا ساروا على طريق الاستقامة هذا، وسيدنا علي رضي الله عنه أحد هؤلاء يقول بصوت يملؤه الأنين والتضرع: “إلهي إذا لم تعف عن غير محسن.. فمن لمسيء في الهوى يتمتع”. وهنا أتعجب وأتساءل: هل نزلت المعصية بساحة خيال هذا الشخص الجليل؟! إن واجبنا تجاه قولهم هذا هو أن نقول: “حاشا.. معاذ الله”؛ لأننا لا ندري ما يعدّه هؤلاء المقربون من المعاصي.
ومن ناحية أخرى، على المؤمن أن يحترز من الظهور عبر أحواله وأطواره بمظهر المختلف المتميز على الآخرين، فعليه أن يولي اهتمامًا كبيرًا لإصلاح باطنه وظاهره، وأن يتصرف بالصورة الطبيعية في كل موقف، وأن يبقى على مسافة بعيدة من أدنى درجات الرياء والسمعة، وألا يُدخل نفسه في أفعال وأطوار متصنعة للإعلاء من شأن نفسه، وألا يلهث وراء طلب التقدير والتصفيق، وأن يكون صادقًا وصميميًّا لأقصى درجة.. وكما يعبِّر مولانا جال الدين الرومي في قوله النفيس: “إما أن تبدو كما أنت، وإما أن تكون كما تبدو”، فعلى الشخص ألا يدفع الآخرين إلى أن يعتقدوا به ما ليس فيه.
فكل واحدة من جملة هذه المسائل تشكِّل بعدًا عميقًا مختلفًا للعبودية، فلو قام الإنسان بما يجب عليه في كل هذه المسائل، فسيصل بإذن الله وعنايته إلى الذرى، أما الذي يقصر في بعض هذه الأمور فهو على خطر التعثر والتساقط على الطريق.
(*) نشر هذا المقال في كتاب “خط الاستقامة” من سلسلة الجرة المشروخة، ط1، دار الانبعاث للنشر، القاهرة 2022.