(امرأة بألف رجل)

ولدت في بيئة بائسة، وعاشت يتيمة، ثم أتى عليها الدهر وهي تملك مملكة كما تملك قلوب الأبطال والثوار الأحرار، تتجدد ذكرياتها كما هبت في الهند رياح الذكريات الندية التي تفوح من ذكريات الاستقلال، فلهويتها الإسلامية وكونها امرأة سبقت الرجال تعرضت لتعتيمات إعلامية حيث لم تظهر إلى النور حتى الآن قصص بطولاتها الخالدة لولا تلك الجهود التي قام بها محيي الدين مرزا حيث عمل فيلمًا وثائقيًّا قصيرًا طوله 26 دقيقة عن بيغم، والرواية التاريخية الآسرة التي ألَّفتها الإعلامية الفرنسية من أصول عثمانية “كنيز مراد” باسم “في مدينة الذهب والفضة” حيث يسلط إطلالات جميلة على تاريخ مدينة أود وأميرتها الثائرة، فمن مجرد مطربة في القصر إلى أميرة أغنى الولايات في شمال الهند، بل من حيث تسمع أصوات الأسورة والخلاخل، ومن حيث الأسرة والأرائك إلى قلب المعركة، إنها قصة الأميرة بيغم حسرت محل، جميلة كما كانت ذكية، تم بيعها إلى أسرة ملكية كانت تحكم منطقة أود في ولاية أتربرديش الهندية.

فحين تسعى معامل هندوتا لطمس الآثار التي خلدها المسلون في صفحات الثورة الاستقلالية الهندية تقف هذه الأميرة البطلة عصية على عواصف التزوير والتزييف، لم تتدرب على التدريبات العسكرية كما تدربت راني لكشمي بهايي تلك الأخرى التي مرغت كبرياء انجلترا في التراب لكنها حطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر وكبدت خسائر فادحة لإمبراطورية بريطانيا التي طالما حلمت لاحتلال الهند بأسرع وقت ممكن، فاضطرت للتمركز حول منطقة أود الصغيرة حتى يرى في تاريخ الهند ما اشتهر باسم حصار لكناو، وذلك مما يدل على قوة إرادتها ورباطة جأشها للدفاع ضد المحتلين، فما هي قصة البطلة بيغم حسرت محل، التي لا تذكر إلا مقترنة بالملاحم والمعارك؟

ولدت عام 1820م في أسرة تترنح تحت وطأة الفقر وتستميت ليل نهار لتبقى على قيد الحياة، وكانت الظروف قاسية للغاية والزمن أقسى وأصعب، ففي بداية الشباب كانت بيغم تعمل في بلاط أمير أود “واجد علي شاه” بعدما تم بيعها إلى الحريم الملكي لتختطف لفتة الأمير وتكون من إحدى خادماته المفضلة، وبعدها ارتقت من مجرد خادمة راقصة في البلاط إلى منصب “فاري” يعني “الجنية”، وهي عبارة عن مجموعة من النساء الحسناوات التي تتم تدريبهن على مهارات متنوعة لتوفر للملك قسطًا من الراحة والرفاهية، وكان ذلك منصبًا عظيمًا في تلك الفترة، بل تعد تلك النساء كزوجات مؤقته للملك، وسرعان ما أصبحت بيغم من أقرب الخليلات للملك، وسماها الملك بفخر النساء لأناقتها ورشاقتها لتصبح بعد الزوجة الثانية للملك، وولدت بعد ذلك برجيس قادر الذي أصبح بعد أمير أود، وقتها لقبت بلقب “بيغم حسرت محل” الذي يدل على كرامتها وسمو منصبها في القصر، ولكن بعد فترة قصيرة طلقها الملك شأن بقية الخليلات التي اتخذها الملك زوجات له.

شركة الهند الشرقية البريطانية وبيغم حسرت محل

في عام 1856م حين فرض اللورد “دلهاوسي” قانون منع حقوق التبني بهدف احتلال الممالك الصغيرة الهندية وضمها إلى شركة الهند الشرقية عنوة لم تكُ أود بمعزل عن هذا القانون المجرم إذ كانت مركز القطن والنيلي ومن أثرى المحافظات في شمال الهند، فإدراكا لأهميتها الاقتصادية ومكانتها التجارية احتلتها بريطانيا بادعاء أن المملكة تخالف قانون الضرائب، وتم نفي نواب واجد علي شاه وأفراد من عائلته إلى كلكتا تاركًا زوجاته المطلقة وخادماته مبعثرة في أود، إلا أن بيغم حسرت محل كانت ذكية ونجيبة فلم تلبث طويلاً لتأخذ زمام المملكة وتنصيب نجلها “بجريس قادر” الذي لم يتجاوز آنذاك سن المراهقة على عرش الإمارة إلا أن شؤون الإدارة والإمارة كانت منضبطة في أيدي بيغم حتى تمردت وثارت على انجلترا وكسرت جميع الصور النمطية المتعلقة بالنساء آنذاك، وشكلت جيشًا من الفلاحين بغض النظر عن أديانهم وطبقاتهم المجتمعية وقادت ثورة عارمة ضد انجلترا وضد قرارات الملكة إليزابات التي أصدرت قرارًا رسميًّا لنقل السلطة من الشركة إلى الإمبراطورية، وفي بداية الأمر كانت الثورة ثورة فلاحية لكنها سرعان ما تحولت إلى ثورة جماهيرية تضم جميع فئات المجتمع، وكانت شجاعة لحد أنها حضرت في الميدان بنفسها راكبة على ظهر الفيل تشجع الجنود وتستنهض هممهم وتذكرهم بأنها ثورة من أجل الاستقلال والكرامة، وكان لها علاقة قوية مع نانا صاحب أحد زعماء الثورة الاستقلالية في منتصف القرن التاسع عشر.

فلما سقطت أود نتيجة هجمات مسلحة مكثفة أطلقتها انجلترا بأسلحة متطورة لم تستسلم بيغم ورفضت بكل عزة وإباء كل العطاءات التي وعدتها الإمبراطورية من عيش هادئ ورفاهية مدى الحياة، بل انضمت إلى صف القائد مولوي فيضاباد لتشن بعد حرب العصابات التي أقضت مضاجع المحتلين وفككت خططهم، فمن أبرزها هجمات شاجهان بور التي دمرت معسكرات الجنود البريطانيين كما أذاقت هزيمة نكراء للقائد هنري لورانس زعيم منطقة أود في الحرب التي اندلعت في شنعاغات، ولجأت إلى نيبال حيث استقبلها هناك رئيس الوزراء رانا جانغ بهادر إلى أن وافتها المنية عام 1879م بعد عقدين من النضال والمقاومة.