تعتبر القصة القصيرة حديثة الولادة مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى، وهي لم تأت على حساب انحسار أو تراجع أحد الأجناس بقدر ما جاءت نتيجة لمتغيرات اجتماعية واقتصادية وما ارتبط بها من متغيرات عالمية.
بعد استهلال بمقال “نقد القصة القصيرة، مراحل تطورها وأدوارها” تقسّم الباحثة الجزائرية د “رحمة اللّه أُوريسي” هذه المراحل بدءًا من مقامات ل”بديع الزمان الهمداني”، ورسالة “الغفران” لأبي علاء المعري ورسالة “التوابع والزوابع” لابن الشهيد الأندلسي، ورسالة “حي بن يقضان” لابن طفيل، ورسالة “طير” للغزالي، وصولاً إلى ألف ليلة وليلة، ثم تستطرد: إلا أن القصة القصيرة ترعرعت بتأثير من الأدب الأوربي مباشرة منذ أن أخذ العرب يتصلون بالعالم الغربي، سواء المبشرين أو المحتلين، أو رجال المال والتجارة الذين وفدوا إلى بلاد العرب، أو من خلال البعثات العلمية التي أوفدتها البلاد العربية إلى البلاد الغربية.
ترجمة بلا معيار
وفي نفس السياق تقول رحمة اللّه: وقد ازدهرت القصة القصيرة بداية القرن العشرين دون أن يعني ذلك أنها كانت دقيقة، وقد تمت ترجمة أعداد هائلة منها إلى اللغة العربية، وتمصير جانب كبير منها.
وكان من بين المترجمين من يتصرف في القصة، وينحرف بها إلى ما يهوى القارئ، يخلق مواقف جديدة، أو يسقط مواقف كانت قائمة، أو يستولي عليها وينسبها إلى نفسه.
تشير الباحثة لأهم كتّاب هذه المرحلة “مصطفى لطفي المنفلوطي” بوصفه كان من أبرز هؤلاء الذين ترجم له أحدهم، وكان هو يتولى صياغتها، يضعها في قالب عربي، ويكتبها في أسلوب عربي فصيح!! وكتابه “العبرات” مجموعة من القصص القصيرة الفرنسية، المغرقة في الرومانتيكية، تُرجمت له وصاغها بأسلوبه الرشيق فجاءت مُغرقة في الحزن، تفجر الدموع في العين والقلب.
لا ترغب أُوريسي في وضع رتوش لتجميل صورة القصة عند المنفلوطي، حين تقول: إن القصة بعدت عن أصولها، في أسلوب تقريري لا يهتم بالسياق، أو ترابط الأحداث، وفقدت صورتها الجديدة خصائص القصة القصيرة، لكنها أسهمت في تهيئة المناخ، وترغيب القرّاء في مثل هذا اللون من الأدب.
وتضيف: وتذهب بعض الآراء إلى أن أول قصة قصيرة عربية بالشكل المتعارف عليه كانت قصة “في القطار” لمحمد تيمور، وجاءت ثمرة ناضجة لاتصاله القوي والمباشر بالثقافة الغربية.
توالت بعد ذلك كتابات قصصية ل “شحاتة” و “عيسى عبيد” اللذان تقدما بالقصة خطوة لا بأس بها، ومن بعدهما “طاهر لاشين”، ثم برزت مجموعة من الرواد في هذا المجال من أمثال “حسين فوزي” و “يحي حقي”، “نجيب محفوظ “، محمود البدوي، صالح موسى و “يوسف إدريس” و “زكريا تامر” و”غسان كنفاني”.
تأملات في أحوال القصة
لم تزل القصة القصيرة تحتل مقعدًا دائمًا بين صنوف الأدب الأخرى، لكونها محطات إنسانية لإعادة استرداد الذات قبل الانطلاق مجددًا نحو عملية تطوير.
ثمة تطور “مرحلي” للقصة القصيرة يظهر بميل حاد لدى بعض كبار كتّاب هذا الجنس الأدبي في الوقت الراهن (خاصة في مصر) استخدام في البناء السردي عبارات ذات كثافة عالية، يحشدها الكاتب بالصور البلاغية خاصة الكِناية والمَجاز، والتشبيهات، كعناصر رئيسة للحكي، حين يجتذبه الشكل بتلك التركيبات والمفردات اللغوية، ربما بسبب “الوعي السردي الزائد والدور الوظيفي للغة” ولما لها من جرس موسيقي رنّان، يتشكّل البناء المعماري للنص، ويكتمل في نسق باتت تحكمه “الصنعة”!! إن التعويل بإفراط على الصياغات اللغوية، وبلاغة التعبير وفقط من خلال أدوات التوصيل على حساب عناصر القص الأخرى، والسعي بدأب لإلباس الفكرة جسدًا من لغة غريبة عن الواقع المعيش، يتسبب بإشكالية؛ أن تصير اللغة هي الهدف والغاية في آن، وينضح تأثيرها السلبي على القيمة الفنية للعمل الأدبي.
اتصالاً بالحديث في اتجاه مغاير لإبراز الحاجة لتطوير اللغة؛ يرى “رجاء النقاش” من مواليد محافظة الدقهلية، شمال مصر(١٩٣٤م – ٢٠٠٨م ) أن إهمال النقاد لكتّاب روائيين كبار من مثل “إحسان عبد القدوس” كان أحد أهم أسبابه حرص إحسان على التبسيط الشديد في أدبه، وعدم اهتمامه بالتكثيف والتركيز، وعلى العكس من ذلك؛ تنبه إلى ضرورة التجديد، والتطوير في الشكل والمضمون، وفي أسلوب الأداء كتّاب من أمثال ”نجيب محفوظ، ويوسف إدريس”..
جاء التطوير إذن في مجال الفن والأدب استجابة للتغييرات المتلاحقة التي طالت مناحي الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وكان أمرًا حتميًّا انسحاب التطوير إلى القصة القصيرة.
جنس أدبي وثلاثة فضاءات زمنية
ربما كان الهدف التالي التمرد على الشكل “ما بعد التقليدي” للقصة القصيرة.. سيما وأن السؤال تجدد مع تطور وتعقد المجتمعات المعاصرة وتجسدت أحد ملامح هذا التمرد في الأقصوصة، ثم بولوج إلى فضاء زمني آخر، مُعبّر عنه في “القصة الومضة” ومحاولة تثبيت قَدَم لها في منتصف العقد الثاني من القرن ٢١ لإيصال للقارئ كتابات ذات أشكال طامحة للأحدث من هذا الفن، الأكثر اختزالاً للزمن والأقصر نَفَسًا، وأيضًا لكي تكون مغايرة في التقييم للسابقين من المحدّثين في عصرهم.
فخ الكتابة
في مسارٍ ثالث، وعلى خط متوازٍ؛ ليس من الصعب اكتشاف في كثير من التجارب القصصية لجيل الشباب في بدايات القرن الواحد والعشرين، وإلى الآن وقوعهم في شَرَك لغة السرد المباشر بتفصيلاته الزائدة، هي عوامل مساعدة على ترهل النص، أضف إليه الافتقار إلى جماليات التعبير، وعمق المعاني يطرح السؤال عن الوظيفة المزدوجة للغة (التعبير، والتوصيل) ومدى ملاءمتها للمحتوى، وبالمثل كيفية المعالجة بأسلوب غير تقليدي، و في حالة عدم استيفاء هذه الشروط تأتي النهايات المبهمة، وإذًا هيَ بعد مطالعتها لا تلبي حاجة القارئ لمتعة القراءة، وفاقدة لعنصر التأمل والتشويق.
غير معني المقال بذكر أسماء كتّاب قصة قصيرة معاصرين، ولا عناوين كتب كنماذج للاستشهاد بها، بل القصد رصد ملاحظات سريعة حولها، والخشية أن يتنامى لاحقًا لدى كتّاب آخرين مفهوم “التطوير” بهذا المعنى القاصر ويتحول إلى ظاهرة.
في الأخير: يظل الإبداع في أصدق صوَره مرهونًا ببساطة الكلمات مع عمق دلالاتها، وهو متطلب صعب، لكنه لازم التحقق.