في ظل هذه الظروف الصعبة التي يعيشها الأستاذ فتح الله كولن، وظروف مرضه، ورغم الهموم التي تحيط به، سمعت الأستاذ فتح الله كولن ينادي من بعيد: “تعالوا حلّقوا بالإيمان، ورفرفوا في الأعالي، ولا تحبسوا أرواحكم في المضايق”، ثم يوجه تلامذته إلى الحياة الأبدية، متحديًا الحواجز والمضايق لتجهيز أرواح محلقة بالإيمان؛ “أما أنتم فوجهتكم إلى الحياة الأبدية”.
في ظل هذه الظروف الصعبة والأزمات، رأيته يرسل رسائل الصداقة، ويستنشق الأفراح لينسج خيوط الألفة والصحبة، ويقول: “دعونا نضع يدًا بيد مرة أخرى، ونتكلم بقلوبنا، ونُسمع النجومَ ما يدور في صدورنا”.
مررت عليه وهو يعبِّد الطريق، ويجهِّز برامج للعيش مع كل أمم الأرض من دون كلل، ويبني لبنات المحبة، ويسلك طريق العشق لحل الأزمات والسير من الخلق إلى الحق، لأن هؤلاء -في نظره- الذين يسلكون “الدربَ بعشق واشتياق خلف دليلهم، تذوب الجبال لهم قيعانًا مستوية، ويصير الحَزن أمامهم سهلاً، ويجتازون لجج الدماء والصديد بسرعة البرق، وينطفئ فَيح جهنم إذا مرُّوا بها. لا مجال للحديث عن تعثُّرهم في الطرق، أو كفِّهم عن المسير ونكوصِهم عنه أو رجوعهم القهقرى، بل يسيرون من الخلق إلى الحق لا يحيدون، لا تطأ أقدامهم الأشواكَ حين يسلكون طرقها بل يطيرون.. لا يترددون ولا يستسلمون للشكوك ولا يرتبكون”، لأنهم عرفوا الطريق الصحيح، إنها طريق العشق التي رسمها لنا القرآن.
لقد رأيته ينبجس من جديد كالبرعم متحديًا الأوضاع، ويعقد العزائم ليؤكد أن هذا الأنين لن يستمر أبدًا. لن يستمر هذا الأنين حتى يوم القيامة، “رب مفاجأة يخبّئها القدر”.
سألت الأستاذ فتح الله كولن في صمت: ما مصدر الطاقة المتجددة التي تغذي روحك على الأمل المتواصل؟ وما سر هذه القوة التي تشحنكم بالتفاؤل الدائم؟ وذلك النسيم العليل الذي يجعلك تستنشق روح العشق في ظل الأزمات؟ وما تلك الأفكار المتناثرة التي تتساقط عليك مثل أوراق الشجر، فتنفخ فيك روح التجدد واليقين بالله؟ وكلماتك المتدفقة التي تفوح بالأمل وتزرع روح الصمود في شخصيته وتلامذتك، ما مصدر معجمك في كل ذلك؟
أجابني الأستاذ فتح الله كولن من بعيد عبر منبر إصدارة “نسمات” للدراسات الاجتماعية والحضارية: “لقد عثرت على الوصفة السحرية لعلاج هذه الأزمات ولتقوية روح الأمل في النفوس والعقول، بما وجدت في الاسلام مما يتوافق مع طبع الإنسان، نعم إن توافق روح الإسلام مع طبع الإنسان، ودفعه له نحو الرقيّ المادي والمعنوي.. هذا كله جعلَنا حتى في أحلك المراحل ظلمة، نتنسّم عبَقَ معاني “الحقُّ يعلو ولا يُعلَى عليه”، ونفتح أعيننا ونغمضها على حقيقة “وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (الأعراف:١٢٨)، ومن ثم فإننا لم نقع في اليأس والقنوط البتة. إنه القرآن الذي أسمع نداءه من بعيد: “إليَّ تعالَوا، ينابيع نورٍ أنا، إذا تفجَّرتْ أَطفأتْ، وإذا انبجست سقَتْ والطمأنينةَ نشرتْ، والسكينة أشاعت.. فما بالكم لا تسمعون، وإيّاي لا ترجون؟”.
نعم، فالأستاذ فتح الله كولن وجد في القرآن ما يفجر فيه طاقة للأمل، فتجعله يعيش من أجل أن يعيش الآخرون. وما يشق له ينابيع للعمل الدائم؛ ومنابع يستقي منها ليغدو كالشجرة الذي تظل شامخة وسط الأعاصير والرياح. فهو يرى أن هذا الكتاب الرباني نزل من نقطة ترى الماضي والحاضر والمستقبل، حيث وضع أفضل نظام للكون وهو قادر أن يصنع المستحيل. لهذا، فلا بد من الرجوع إليه للانتفاضة من جديد بمنهج سليم، وبوصفة سحرية وبمعادلات آمنة لحل كل هذه المشاكل ومقاومة الأزمات، للوصول إلى شاطئ الأمن والأمان. وقد أكد في كثير من المناسبات أن الإنسانية ستبقى “تتجرع الآلام وتعيش في الأزمات طالما كانت بعيدة عن أسس التربية القرآنية. ولكن عندما تتصادق الإنسانية مع القرآن ستفهمه وتدرك مراميه وتستسلم له، فتصل إلى شاطئ الأمن والطمأنينة. أي لن تجد القلوب ولا العقول غذاءها ولا سعادتها إلا عند توجيهات القرآن وأوامره”.
إن المتأمل في معالم هذه الوصفة السحرية التي استخلصها الأستاذ فتح الله كولن، سيجد أنه حدد المهمة التي ينبغي أن يقوم بها القرآن، رغم الظروف الصعبة التي تحيط به. ثم استطاع انطلاقًا من هذا الكتاب الرباني، أن يستخرج لنا نوع الحركة التي ينبغي أن يقوم بها في ظل الأزمة المحرجة، إنها حركة دائبة وفق منهج متجدد.
نعم كما أن المتمعن في هذه الوصفة، يلحظ أن الأستاذ فتح الله كولن استنبط لنا أسلوبًا ليِّنًا للرد على هؤلاء المخالفين، وكذلك استطاع العثور على مجموعة من المبادئ والأسس التي تحدى بها ظروف الأزمة والمرض والغربة. وسنحاول كشف بعض هذه الأمور في الفقرات الموالية:
- كولن يحدد المهمة التي ينبغي الانشغال بها
يؤكد الأستاذ فتح الله كولن في كتابه “أضواء قرآنية” أنه ليس “من حق المؤمن أن يقول لقد أديت ما عليّ ولم يبق أمامي عمل شيء آخر. لا يجوز أن يقول هذا وينسحب من الميدان. عليه أن يرتاح بالعمل وأن تكون راحته مقدمة لعمل آخر، وأن يعيش اليسر في العسر، وأن يقيم اليسر والعسر على ضوء المشاعر الغيبية والروحية” لخدمة الآخرين بمشاريع تمثل روح الإسلام وتقيم صروح الروح، وبفهم صحيح لنصوص القرآن.
فالأستاذ كولن يرى أن المهمة التي ينبغي الاشتغال بها، هي شرح وتوضيح المبادئ والحقائق السامية التي جاء بها القرآن في جميع مجالات الحياة، واستخراجها في شكل أدوية للأمة، وذلك عبر مشاريع عملية تخدم الآخرين، وتقرب منهم هذه المعاني التي جاء بها القرآن الكريم، وفق مبدأ “الآذان شبعتْ والعيون جائعة”. لهذا، فهو يؤكد على أن: “القرآن الكريم أفضل نظام اجتماعي لأفضل مجتمع قبل أربعة عشر قرنًا، ولكننا لم نفهم نحن هذا بعدُ، لذا لم نستطع شرح هذه الوجهة الاجتماعية للقرآن كما يجب أمام المبادئ الأخرى.. ووظيفتنا الآن ومهمّتنا، هي القيام بشرح كل هذه المسائل وتقديمها كوصفة علاج لأمراض الإنسانية وأدوائها”.
وفي قول آخر له يؤكد أن الإنسانية ستبقى “تتجرع الآلام وتعيش في الأزمات طالما كانت بعيدة عن أسس التربية القرآنية”. فلا سبيل للخروج من الأزمة إذن، إلا بالرجوع إليه (القرآن)، لأنه هو الكتاب الوحيد الذي استطاع أن يهذب لنا أحرف الكون، ويحدد لنا العلاقة الصحيحة بين الله والكون والانسان. ولا يمكن فهم حقيقة هذه المنظومة من دون اللجوء إليه، وهو القادر على إيجاد حلول لمشاكل مستعصية، بل هو كما أكد الأستاذ فتح الله كولن، قادر على صنع المستحيل، ومن يستغن عنه يضلّ في الطريق.. “من فهم القرآن حق الفهم تصبح البحار الواسعة كقطرة ماء أمام ما يرد إلى صدره من إلهام”.
- حركة دائبة تفضي إلى تجدد مستمر
وانطلاقًا من قول الله تعالى: “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ” (الشرح:٧)، حدد لنا الأستاذ فتح الله كولن نوع الحركة التي ينبغي على الإنسان أن يقوم بها لتخطي كل الصعوبات.. إنها حركة دائبة، وكما أشار في كتاب “أضواء قرآنية”: “يكون في حركة مستمرة ودائبة يترك مشغلة من المشاغل لمشغلة أخرى، أي يستريح وهو يعمل، ويعمل وهو يستريح”. وبعبارة أخرى فالأستاذ كولن نظَّم وقته بهذه الحركة، وفق خطة لا مجال فيها للنظر إلى السلبيات. وفي ظل هذه الأزمة والظروف الصعبة التي يعيشها، نجده يدعو من حوله إلى التجدد، وهذا ما يوضحه لنا قوله: “عندما يتم تناول القرآن الكريم من جديد، نرى كيف نفهم أشياء جديدة وجيدة، وكيف أن شبابه يتجدد بتجدد العلوم وتقدمها بمرور الزمن”.
لهذا، فهو يؤمن “بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعًا، إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان وتلقيات الإسلام، وشعور الإحسان والعشق والشوق والمنطق وطريقة التفكير..”.
نفحات الأمل في فكر ومنهج الأستاذ فتح الله كولن لا ساحل لها، وما أشرت إليه في هذا المقال إنما هو شيء يسير مما يثير في أسلوب ومنهج هذا العالم الكبير. والغريب في منهج الأستاذ كولن هو أن هذا السلوك مطرد عنده في كل الظروف والأحوال، ومع كل الناس والأجناس. لا يضره من أساء إليه كما لا يحابي من أحسن إليه، وكأنه -وكعادته- يتمثل قول الله تعالى: “وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى” (المائدة:٨).
- أسلوب الرد على الظالمين
ومن خلال تأمل الأستاذ فتح الله كولن في آيات القرآن، استنبط لنا أسلوبًا حكيمًا للرد على الظالمين والمخالفين له. وهو ما أشار إليه في إصدارة “نسمات” في إحدى المقالات: “دعوهم يقولون ما يشاؤون، كل يعمل على شاكلته، كل يعبر وفق طبيعته، لا تكترثوا بهم أبدًا، لا تبالوا، أغمضوا أعينكم عنهم”، امتثالاً للآيات: “وعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا” (الفرقان:٦٣)، “وإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا” (الفرقان:٧٢)، “وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ” (آل عمران:١٣٩).
- التوافق هو سر التوفيق:
انطلاقًا من الآية “يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ” (الفتح:١٠)، أكد لنا “أن أعظم وسيلة لجلب العون الإلهي والتوفيق الرباني، تأسيس التوافق وتحقيق التوحد بين أفراد المجتمع..والابتعاد عن كل نزاع وشقاق. فإذا أصبحنا كيانًا متوحدًا وكلًّا متوافقًا، فسوف تتنزل علينا من الألطاف ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. وسوف نمتلك القدرة على رفع أحمالٍ أثقلَ من جبل قاف”. لذا نجده يركز جهوده نحو التوافق والتآلف وكما أكد في مقاله “نكران الذات والمدد الرباني”؛ “يجب أن نركز جهودنا كلها لكي نبقى متماسكين تماسك الفولاذ، ومشدودين إلى بعضنا كالبنيان المرصوص. وها هو القرآن يعلن عن مرسومه الخالد بقوله: “يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ”.
هكذا نجد أن الأستاذ فتح الله كولن حثنا على ضرورة إنشاء جسور الألفة والتواصل لعدم الوقوع في الفرقة والاختلاف التي تحاول مصايد الأعداء بثها في النفوس والعقول. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد المفكر كولن يحث الأفراد على الابتعاد عن الأنانية والبغض والحقد، ليتم الوصول إلى نعمة وفضل الوفاق الاجتماعي كما ذكر في كتابه “الموازين”. وفي هذا السياق يبين لنا أن مشاعر البغض والحقد نقيصة كبيرة: “إن وجـود مشاعر الحقد والكره والعداء عند أي شخص، سـواء أكان هذا متدينًا أو رجـل علم أو رجـل إدارة أو رجـل فكر أو زعيمًا، يعد نقيصة كبيرة وعيبًا. وهـم بهذا يمثلون ناحية سـلبية في نظر الحق تعالى وفي نظر الخلق، وفي نظر هذا الجيل الناشئ”.
هكذا استطاع الأستاذ فتح الله كولن من خلال نظرته المتجددة لروح القرآن، وفهمه العميق لمعانيه، أن يحيي فلسفة الأمل المتواصل، ويزرع الأمل في النفوس والعقول، ويغذي القلوب على التفاؤل الدائم رغم ما يعترضه من مشاكل وأزمات.
________________________________________________________________________________________________________________
المراجع
(1) مقال لا تحبسوا أرواحكم (٢٠١٨/٠٤/٢٩).
(2) مقال أوان الرجوع إلى النفس (٢٠١٨/٠٤/٢٩).
(3) مقال الطرُق (٢٠١٦/١٢).
(4) مقال أنين الأرض، فتح الله كولن (٢٠١٨/١٠/٣١).
(5) مقال دنيا في رحم الولادة (٢٠١٦/١٠).
(6) مقال فجروا ينابيع القرآن (٢٤/١١/٢٠١٨).
(7) مقال كيف يتجدد شباب القرآن؟ (٣٠/١٠/٢٠١٨).
(8) ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠٠٨، ص:١٨.
(9) أضواء قرانية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠١٠، ص:٣٥٠.
(10) ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ٢٠٠٨، ص:٢٤.
(11) مقال نكران الذات والمددُ الرباني (٢٠١٨/١٢/٠٦).