شعر المناسبات -فيما أرى- يُـكتب بخصوص مناسبة محددة، لها عمق تاريخي أو بعد اجتماعي أو ظل أدبي؛ لأجل تذكُّرها والاحتفاء بها وإحيائها لدى الأجيال المتعاقبة. وقد تكون المناسبة محلية أو محدودة بالبيئة، وقد تتسع لتشمل الوطن أو الإقليم، وقد تمتـد لتصير دولية أو عالمية، مما يعزز فكرة الانتماء أو إعلاء القيمة.
ولعل شعر المناسبات -فيما طالعنا- يُعد قضية جدلية؛ فيرى بعض الـنقاد ضآلة مكانته وربما حسبه على النظم لا الشعر، في الوقت الذي يراه بعضهم من عيون الشعر. وأرى أن “المناسبة” بمنزلة الغرض الأدبي، كالمدح والهجاء والفخر والرثاء والغزل والحكمة.. إلخ، وليست المناسبة في حد ذاتها مطْعنًا على القصيدة التي قيلت فيها. فالقصيدة التي تُكتب لأجل المناسبة كأية قصيدة تُكتب في أي غرض أدبي، جيدها جيدٌ ورديئها ردئٌ، فهل لنا أن نقول إن قصيدة مدحية جيدةٌ ابتداءً لأنها نُظِمتْ في المدح؟! وقياسًا بالخُلْف، هل لنا أن نقول إن قصيدة هجائيةً رديئةٌ ابتداءً لأنها نُظِمتْ في الهجاء؟! إن جودة الشعر ورداءته تعود إلى معالجة الشاعر للمناسبة، أحسن إن أضاف وجدَّد، وأساء إن أعاد واجْـتَــرّ.
وهل نستطيع إغفال دور المناسبة كباعثٍ وراء النص؟! فالمناسبة بمنزلة أسباب الـنزول لآيات القرآن الكريم، وبمنزلة النوازل لأحكام الفقه الشريف، والنص الشعري وراءه مناسبةٌ خاصةٌ أو عامة، انفعل بها حسُّ الشاعر وفكره فنظم القصيدة، بل إن لدينا في شعر المناسبات بعدًا نصـيًّـا مضافًا، هو ذلك الركام الشعري السابق، الذي يدفع الشاعر إلى قراءته وتمثُّـله وتحديه، فإما أن تخرج القصيدة باهتة أو ناصعة.
ولعلني أستطيع تشبيه شعر المناسبات من هذه الزاوية بشعر المعارضات، فالقصيدة الأولى تعدُّ النموذج أو المثال، وبمجاراتها أو معارضتها -حيث كانت الباعثَ- قد تتميز الثانية على الأولى، وقد تروج الجديدة عن القديمة لدى الـنقاد والقـراء. فقد انفعل إمام المادحين أبو سعيد البوصيري في البردة؛ لأنه هو الذي أصيب بالفالج (الشلل)، وهو الذي رأى النبي r في منامه يحمل إليه بشرى الشفاء ودبيب العافية، لكن أمير الشعراء أحمد شوقي، انفعل بنص قصيدة البردة لا بتجربتها، فكان البوصيري أرهف حسًّا وكان شوقي أبلغ نصًّا.
وشعر المناسبات غزير لدى الشاعر عبد المجيد فرغلي (١٩٣٢-٢٠٠٩م)، لتطوافه بقصائده على شتى مناسبات أمته ووطنه، وتردده بين الديني والوطني، هذا في الغالب.. فقد تضيق به المناسبة لينظم في أمر ذاتي أو شخصي، مما يصلح لدراسته في ضوء أدب السيرة الذاتية، وقد تـتسع به المناسبة لينظم في أمر قومي، كقصائده في استقلال إرادة الدول العربية وخروجها من رِبْـقَةِ المحتـل الأجنبي، مما يصلح لدراسته من خلال التأريخ لنضال الشعوب والدفاع عن القوميات.
وبعد الوقوف على أهمية شعر المناسبات، وتجلياته لدى الشاعر عبد المجيد فرغلي، تبين اتساع هذه المساحة الشعرية لديه، وثراء معالمها المعرفية والأسلوبية، فمنها المناسبات الدينية ولها القدح المعلى في شعره، مثل الهجرة واستهلال السَّنة الهجرية في محرم، والمولد النبوي في ربيع الأول، والإسراء والمعراج في رجب، وتحويل القبلة في ليلة النصف من شعبان، وصوم شهر رمضان وعيد الفطر، والحج وعيد الأضحى.. وغيرها كالغزوات (أو الفتوحات) والشخصيات الإسلامية والطقوس الصوفية. ثم المناسبات الوطنية، مثل ثورة يوليو ١٩٥٢م والتحول من النظام الملكي إلى الجمهوري، وعبور قناة السويس ١٩٧٣م والانتصار على إسرائيل. أو المناسبات القومية، مثل أعياد استقلال البلاد العربية عن المستعمر الأجنبي وتحرير إرادتها.
وليس الفصل بين المناسبات تعسُّـفـيًّـا، فهناك تداخل مناسباتي بينها، كعبور قناة السويس في العاشر من رمضان، فجمعت المناسبة بين الديني والوطني، أو الديني والقومي؛ فلم يكن انتصار المصريين على إسرائيل انتصارًا للوطنية المصرية فحسب، بل للقومية العربية كلها. وهو استدعاء لما انطوى عليه التاريخ في حناياه، كانتصار المسلمين الأوائل في معركة بدر الكبرى، حيث إن رمضان يمثِّـل الظرف الزماني للانتصارات المتعاقبة.
فيقول الشاعر من أبيات متفرِّقة من قصيدة “معجزة العبور” ضمن ديوان “لحن العبور”:
اللهُ أَكْـــــبَـــــرُ جُــــنْــــدُ اللهِ قَــــدْ وَثَــــبُـــــوا
وَطَلْعَةُ النَّصْرِ عَـنْهَا انْجَابَتِ الْحُجُبُ
مِنْ جَبْهَةِ الْعُرْبِ مِنْ أَقْصَى مَوَاقِعِهَا
هَـبَّـتْ لِـسَـحْـقِ الْـعِـدَا وَالْأُفْـقُ مُـلْـتَهِـبُ
تَــمَّ الْــعُـــبُـورُ فَــتَـــمَّــتْ فِــيـهِ مُـــعْـــجِــزَةٌ
طَــاحَـتْ بِـأُسْــطُـورَةٍ فِـي طَــيِّـهَـا كَــذِبُ
أُسْطُورَةُ الْجَيْشِ الَّذِي مَا كَانَ يَـقْهَـرُهُ
جَــيْــشٌ سِــوَاهُ إِذَا مَــا جَــاءَ يَــحْــتَــرِبُ
أُسْـطُـورَةٌ ظَــلَّ بُـوقُ الـزَّيْــفِ يَــنْـشُرُهَـا
وَبِالدِّعَـايَـاتِ وَالـتَّــضْــلِــيــلِ تُــجْــتَـــذَبُ
كما يؤصِّل الشاعر لانتصارات المسلمين الكبرى ذات العمق التاريخي، والتي حدثتْ في رمضان أيضًا، فقد استلهم غزوة بدر ونظم في السابع عشر من رمضان ١٤٠٢هـ/٨ من يوليو ١٩٨٢م قصيدته “أضواءٌ من التاريخ” ضمن ديوان “دموعٌ وأنداءٌ”، حيث يقول في مطلعها:
رَنَــتْ أَعْـصُــرُ الـتَّـارِيـخِ وَالْــتَــفَــتَ الـدَّهْـــرُ
وَأَرْسَـى عَــلَـى الْأَجْــيَـالِ أَفْــلَاكَـهُ الْــفِـــكْـــرُ
وَلَاحَتْ رُؤَى الْمَاضِي عَلَى أَفْقِ حَاضِرِي
وَمِـنْـهَـا بَــــدَتْ بِــيـــضُ الصَّـحَـائِـفِ تَــفْــتَــرُّ
أَرَى صَـفَـحَـاتِ الْـمَــجْــدِ يَـهْــفُـو حَـنِــيــنُـهَـا
وَيُـفْــضِـي بِـــهَـا شَـــوْقٌ يُــتَــرْجِـمُـهُ الـشِّـــعْــرُ
تَــبَـسَّـمَ مِـنْـهَــا الــنُّــــورُ وَالـطُّـهْـــرُ وَالْــفِــــدَى
وَطِــيــبًـا لِــذِكْــرَاهَــا حَـلَا الـطَّــيُّ وَالــنَّـــشْــرُ
لَــدَى لَـــيْـــلَــةٍ حَـــفَّـــتْ بِـــبَـــدْرٍ نُــجُــــومُــهَـــا
وَجَــمَــعَـــهَــا بِــالـحُــــبِّ مُــؤْتَــــمَــــرٌ نَـــضْـــرُ
ولم يكتف الشاعر باستلهام غزوة بدر، بل وظَّف بعض الظواهر البلاغية في حنايا قصيدته، كذكره “الطي والنشر”، الذي يُعرف أيضًا بـ”اللف والنشر”، وإن بدا المعنى العام لهما الإخفاء والذِّكر، فإن المعنى الخاص في اصطلاح البلاغيين أن يُذكر متعدِّدٌ، ثم يُذكر ما يندرج تحته من أفراده بشكل شائع دونما تحديد، استنادًا إلى تمييز المتلـقي، وإما أن يكون النشر على ترتيب الطيّ، كقوله تعالى: ¨وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِـتَـبْـتَـغُـوا مِنْ فَضْلِهِ§(القصص:٧٣)، أو يكون النشر على خلاف ترتيب الطي، كقوله تعالى: ¨فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِـتَـبْـتَـغُـوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْـلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ§(الإسراء:١٢).
بل إننا نلمس تداخل ما هو ذاتي أو شخصي مع شعر المناسبات، بحيث يمكن الوقوف على أطراف السيرة الذاتية للشاعر من أعطاف قصائده، فقد سافر ضمن البعثة التعليمية إلى مدينة بنغازي الليبية في منتصف أكتوبر ١٩٧٣م، وأدركه عيد الفطر المبارك هناك، فاستشعر الغربة لبعده عن وطنه، واستشعر الوحشة لبعده عن أسرته، فنظم قصيدته “بؤسٌ في يوم عيد” ضمن ديوان “الصرح الخالد”، التي يستهلها بالاستفهام الاستنكاري ويقول في أبيات متفرِّقة منها:
نَـعَـمْ هُـوَ عِـيدٌ إِنَّمَا أَيْنَ أَوْلَادِي؟!
وَأَيْـنَ أَحِــبَّـائِـي الْــكِــرَامُ وَقُــصَّـادِي؟!
أَلَمْ أَكُ فِي عِـيـدِي أُحِـسُّ بِـلَـوْعَــةٍ
وَأَنِّـيَ فِــي وَادٍ وَأَهْـــلِـــيَ فِــي وَادِي؟!
وَكَيْفَ يُحِسُّ الْمَرْءُ بِالْعِيدِ بَاسِمًا
وَبِالْعَيْشِ إِنْ لَمْ يَحْــظَ فِيهِ بِإِسْــعَادِ؟!
أَرَى أُسْـرَتِي فِــي الْعيدِ غَيْرَ قَرِيبَةٍ
فَـــيَـا لَـوْعَــتِـي مِـــمَّـا يَـحْــــرِقُ أَكْــــبَـادِي
تَـــبَــاعُـــدُ أَوْلَادِي يَـــزِيـــدُ كَــآبَـــتِــي
وَيُـشْـعِــرُنِي بِـالْـبُــ،ـؤْسِ مَـشْــهَـدُهُ بَــادِي
إن دراسة تجليات رمضان في الشعر لا تقتصر على التحليلات النصـية للقصائد، وإنما تتجاوز ذلك إلى الدراسات المتنوعة من منظور العلوم الإنسانية، كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها، حيث الطقوس والعادات والتقاليد والفنون، بل والأساطير أحيانًا، مما يميز شعبًا عن شعب، ويختلف من جيل إلى جيل، بدءًا بطقوس رؤية الهلال ومرورًا بالمظاهر الرمضانية، وانتهاءً بمشاهد عيد الفطر وازدياد تفصيلات هذه الأجواء لدى فئات معينة كالصوفية؛ كما بدا من تعلُّقهم بآل بيت النبوة والعتْـرة الطاهرة، وفي مجالس الأقطاب ومريديهم، وهيئات الدراويش وسلوكهم، وزيارات مقامات ساداتهم، وتلاوة أورادهم وأذكارهم، وإنشاد تواشيحهم وابتهالاتهم.. إلخ.
ولأن رمضان هو شهر القرآن فإن تناص الشاعر مع الآيات القرآنية بادٍ في حنايا قصائده، لا سيما مع سورة الرحمن التي تأسر القلوب قبل الآذان، وتزدان بها مجالس الذكر، وتهتـز أعواد المنابر بإشارات الخطباء إليها، وقد نظم الشاعر قصيدته “لقاءٌ في رحاب الرضوان” ضمن ديوان “في رحاب الرضوان”، عقب سهرةٍ رمضانية بمسجد الرضوان بمدينة صِدْفَا بمحافظة أسيوط، ملتزمًا رويَّ النون المكسورة والمسبوق بألف التأسيس؛ لتشابه القافية الفاصلة القرآنية وكأنهما شعَّا من مشكاة واحدة، فيقول:
غَنَّى الْقَرِيضُ وَفِيكَ غَنَّى بُلْبُلٌ
مُــتَـــرَنِّــمٌ مِــنْ سُـــورَةِ الــرَّحْــمَــنِ
(فَـــبِـــأَيِّ آلَاءِ) الْإِلَــــهِ تَــــرَنُّـــمًـــا
تَـشْــدُو بِـنَـغْـمَـةِ طَـائِــــرٍ وَلْــهَانِ؟!
(وَبِــــأَيِّ آلَاءٍ) نُـــكَــــرِّمُ أَنْـــعُــمًــا
حَـفَّــتْ بِنَا وَأَحَطْنَ بِالْإِحْسَانِ؟!
(وَبِــــأَيِّ آلَاءٍ) نَــزُفُّ صِــيَــامَــنَـا
وَقِـيَـامَــنَـا وَنَــعُــجُّ بِـالشُّــكْــرَانِ؟!
(وَبِــــأَيِّ آلَاءٍ) نُـــوَدِّعُ شَــهْـــرَنَــا
بِالْبِـرِّ وَالْعَـبْـرَاتِ مِنْ رَمَضــَانِ؟!
ومجموع القصائد اثـنتان وعشرون قصيدة، نُظِمَت ما بين ١٩٦٢ و١٩٩٩م، وبحورها سبعة، هي البسيط والكامل والطويل والمتقارب والوافر والخفيف والرمل، وبحر البسيط أكثرها ورودًا، كما هي الحال في المدائح النبوية كبردة البوصيري. في حين نظم فرغلي قصيدة واحدة لكلٍّ من بحور الوافر والخفيف والرمل. وعن التفاوت في عدد أبيات القصائد، فمنها القصيرة وأدناها أربعة وعشرون بيتًا، وهي قصيدة “عودوا إلى قِبلة أبيكم إبراهيم”، وثمانية وعشرون بيتًا وهما قصيدتا “حمائمُ وغصونٌ”، و”عودةٌ إلى الله”. ويظل الـتدرج حتى نصل إلى أقصاها مائتـيْـن وتسعة أبيات، وهي قصيدة “لقاءٌ في رحاب الرِّضوان”. وبعض القصائد نُـشر منفردًا كقصيدة “عودةٌ إلى الله”، في المجلة العربية بالسعودية (العدد ١٤٠- رمضان ١٤٠٩هـ/ أبريل ١٩٨٩م).
وإن كان شهر رمضان يمثل الموضوع المحوري أو بيت القصيد، فإن ما نظمه في تحويل القبلة في ليلة النصف من شعبان، ثم رؤية الهلال بمنزلة الإرهاصات ويمثل براعة استهلال، وما نظمه في ليلة القدر ثم عيد الفطر، يمثل حسن الخواتيم.