(من التحيز الامتلاكي إلى الإيداع الآياتي)
إن مقتضى الإيداع في الفلسفة الائتمانية هو أن الأشياء ودائع عند الإنسان؛ فإذا “كان الأنموذج الدهراني في صيغته الاجتماعية ينبني على التصور التسيدي للعلاقة بين الإله والإنسان، متخذًا المجتمع إلهه، فإن الأنموذج الائتماني، في المقابل، يتصدى لتسيد الإنسان، فردًا أو جماعة؛ إذ يقرر أنه لا سبيل إلى حفظ الصلة بين العالم والدين التي تجعل من الأول آيات تكوينية ومن الثاني آيات تكليفية إلا بأن نُقلع عن عادتنا في التعامل الدهري مع الأشياء؛ وتقوم هذه العادة الدهرية أصلاً في النظر إلى الأشياء من جانب نسبتها إلينا، لا من جانب نسبتها إلى خالقها وشاهدها كأننا نحن المالكون لها وليس هو المالك لها، فمثلا ينظر الدهراني إلى العالم على أنه مأخوذ، لا أنه معطى، وأنه محل دخول، لا محل خروج، كما يَنظر إلى الدين على أنه صاعد، لا أنه نازل، وأنه سبب إسراء، لا سبب معراج”.
ويظهر أن هناك بونًا شاسعًا بين الأنموذج الائتماني الذي يتعامل مع الأشياء على أنها ودائع أمر بحفظها حفظ رعاية، وبين الأنموذج الدهراني الذي ينسبها إلى نفسه بدل نسبتها إلى خالقها، كأنها ملك له وليس الشاهد الأعلى هو مالكها، ولقد بين القرآن المجيد أن المالك الحقيقي لهذه الأشياء هو الله جل جلاله، أما الإنسان فهو مستخلف فيها؛ بحفظها وأداء حقوقها، فقد جاء في محكم تنزيله: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد:7).
ولكي يتم تجاوز هذه العادة الدهرية التي تنسب الأشياء إلى نفسها بدل نسبتها إلى بارئها لا بد أن نجري “على العادة التي تضادها، وهي أن ننسب الأشياء إلى بارئها وشاهدها نسبة مطلقة، وإلا فلا أقل من أن ننسبها إليه قبل أن ننسبها إلى أنفسنا، لأن خالق الشيء وشاهدَه الأول أحق بأن يملكه؛ ونسبتها إلى البارئ الشاهد نسبة روحية صريحة، في حين أن نسبتها إلى أنفسنا نسبة نفسية؛ وليس المقصود بالنفس هنا معناها الوجداني، أي قوة باطنية تصدر عنها العواطف والانفعالات والشهوات، وإنما معناها الوجودي، وهو ذات الشيء أو عينه؛ وتتحدد بخاصية أساسية تميزها عن الروح، وهي نسبة الأشياء إليها؛ وهذه النسبة النفسية ليست مرتبة واحدة، وإنما مراتب متعددة، تبتدئ بالتملك وتنتهي بالتربب”.
وقد يعتقد الدهراني أن نسبة الأشياء إلى شاهدها وبارئها تحدُّ من نسبتها إليه، فالأمر على العكس تمامًا كما قرر هذا المبدأ الائتماني، لأنه بقدر نسبة الأشياء إلى الخالق فإنه ينسبها إلى المخلوق، رحمة منه وعطاء، فيُملكه إياها، فيصبح كل ما يملكه الإنسان آية تكوينية وملْكه له آية تكليفية، كلتاهما تدل على الشاهد الإلهي، أما النسبة النفسية فتسلب منه هذا العطاء، كما تجعلها تنقلب إلى بؤس وفتنة، لأن علاقة الإنسان بهذه الأشياء علاقة من يملكها بنفسه.
فهذا المبدأ يجعل الشاهد الإلهي هو الواسطة بين الإنسان والأشياء سواء أكانت كونية أو شرعية، “وهذا التمليك الإلهي الذي يورث تخلقًا شاهديًّا (أو روحيًّا) هو بالذات مقتضى الإيداع؛ فالإيداع هو أن تملك ما تملك، لا ابتداء، أي بنفسك، وإنما بواسطة، أي بخالقك الشاهد لك وعليك، بحيث يكون عبارة عن أمانة يودعها لديك؛ فالوديعة إذن هي الشيء الذي يجعله الخالق الشاهد في حوزتك، موكلاً إليك أمر رعايته؛ وكل ما يوكِل إليك الخالق رعايته يقتضي حقوقًا لك وحقوقًا عليك، إلا أن التمتع بحقوقك فيه موقوف على أداء الحقوق التي عليك بشأنه.. واتخاذنا للشاهد الإلهي واسطة بيننا وبين الأشياء يرفع التخلَّق الذي يورثه لنا التعامل معها إلى رتبة التخلق الروحي؛ وشتان ما بين التخلق الروحي والتخلق النفسي، فالأول تخلق داخلي يصلك بالأفق الأعلى، مرتقيًا بك في مدارج الكمال، بينما الثاني تخلق خارجي يصلك بالأفق الأدنى، مقلبًا لك في منازل المصلحة”.
وخلاصة القول: أن مبدأ الإيداعية يتجرد من سلطان النسبة إلى النفس، رادًّا لها إلى شاهدها الإلهي، وعلى هذا النحو تتغير علاقة الإنسان الائتماني مع العالم والدين، فيكون تعامله معهما تعاملاً آياتيًّا لا امتلاكيًّا، وهكذا يتم تجاوز آفة الأنموذج الدهراني، إذ تسقط سيادة الإنسان المزعومة المبنية على شهوة الامتلاك وقيمة الاستهلاك.