في أُصُول المدنِيَّة الأندلُسِيَّة

ظَلَّت شِبهُ الجزيرة الإيبيرِيَّة بأيدي العرب المُسلمين، مُنذُ أن فَتَحها “طارق ابنُ زِيَاد” عام اثنَين وتِسعين للهِجرَة (إحدى عَشَر وسبعمائة للميلاد)، وحتى سُقُوطِها بِيَد الإسبان في الثاني مِن ربيعٍ الأول عام سبعٍ وتِسعين وثمانمائة (اثنتين وتسعين وأربعمائة وألف للميلاد)، ثمانِية قُرُونٍ ونَيِّفٍ تحظى بذلك المدِّ الحضارِي، والذي ظلَّ يترسَّخُ في أرضِها مُنذُ الفتح وحتى السُقُوط، هذان الحَدَثان اللذان وإن اختلفا في مُلابساتِهما، إلَّا أنَّهُما ظَلَّا حَدَثَان لا شبيه لهما في تواريخ الفتح والسُقُوط.

تُعَدُّ “شِبه الجزيرة الإيبيرِيَّة” أُنمُوذجًا جغرافِيًّا فيما يتعلَّقُ بِخُصُوبة أرضِها، واعتدال مناخِها، وأيضًا فيما يتعلَّقُ بذلك التماثُل القائِم على أرجائِها، ذلك التماثُل الذي جعل مِن المُقيم في “ألميريا” بأقصى جنوبِها كالمُقيم في “طُليطِلَة” بِشَمالها الأوسط، وذلك مِن حيث وِحدة المِزَاج، والتشابُهِ في طِرَاز الملبس، وتوَحُّدِ أنواع الأطعِمَة، وحتى أدوات التسلية.

لقد فُتِحَت الأندلُس بِيَدِ جيشٍ جُلُّهُ مِن الأمازيغ “البربر” الذين عرَّبَهُم الإسلام، وقد جرى فتحُها وقتما كانت مملكةً مُهلهلَةً تُعرَفُ بـ “مملكة القُوط الغربيِّين”، والتي مال مُلُوكُها لعوائِد التَرَف التي جعلتهم لا يجسرون على مُواجهة هؤلاء الأمازيغ الحديثي العهد بالإسلام، والذين كانوا أهل بوادٍ وقِفَارٍ، خشني العيش، أقوياء القُلُوب، حتى أنَّ فتح ذلك القُطر الخصيب يظلُّ استثناءًا مِن بين كُلِّ فُتُوحات الإسلام، تلك الفُتُوحات التي قامت بها عناصرُ عربيَّة خالِصَة مِن أبناء قبائِل شِبه الجزيرة العربيَّة.

ويبدوا أنَّ تلك الفَرَادة التي تميزّ َبها فتحُ الأندلُس، والذي أوجد احتكاكًا بين فاتِحين ومُقيمِين مِن غير العرب، قد أدَّى – فيما أدَّى – لتمتُّع المُجتمع الأندلُسِي المُسلم بِخصائِصَ فريدة لم تتسنَّى لأىٍّ مِن المُجتمعات الإسلامِيَّة الأُخرى في عُصُور الإسلام المُزدهِرَة، ويبدو أيضًا أنَّ خُصُوصِيَّة الحياة الأندلُسِيَّة في تفاصيلها المُختلفة كانت أحَدَ أبرز تلك الخصائِص التي ميَّزَت ذلك المُجتمع الإسلامي، والذي وإن كان مُوحَّدًا في تَمَتُّعِهِ بالخصائِص العامَّة للمدنِيَّة الإسلامِيَّة، إلَّا أنَّهُ كان مُجتمعًا فُسيفسائِيًّا تقِلُّ بِهِ العشائِر، أي أنَّهُ لم يكُن مُجتمعًا قَبَلِيًّا يصعُبُ على حُكَّامِهِ أن يسيطروا عليه، فقد فَتَحَ “طارق ابن زياد” تلك الجزيرة الأندلُسِيَّة بِجَيشٍ مِن البربر لم يُجاوز تعدادُهُ أربعة آلاف رجُل، كما و ظَلَّت غالبية سُكَّان الأندلُس بعد فتحِها مِن سُكَّانِها الأصليِّين المعروفين بالصقالبة، والذين اعتَنَقَ جُلُّهُم الإسلام بعد الفتح بوقتٍ قصير، كما وأنَّ الهِجرات التي وَفِدَت إلى الأندلس مِن المشرِق لم تَتِمَّ في صورة حِرَاكاتٍ قبلِيَّةٍ عامَّة، كتلك التي حدثت مِن “الحِجَاز” إلى “العراق”، أو حتَّى إلى صعيد مِصر، ولكِنَّ هِجرات العرب مِن المشرِق إلى الأندلُس كانت تتِمُّ في الغالِب بِصُورة فردِيَّةٍ، أو في شكل مجموعاتٍ صغيرةٍ، بِما جعل المُجتمع الأندلُسِىَّ بعيدًا عن أن يكون قَبَلِيًّا، بما أدَّى بالتالي لاستتباب الدُوَل التي حَكَمَتهُ على مدار تلك القُرُون الثمانمائة التي أمتدَّ وُجُود المسلمين في الأندلُس خِلالها. إذ أنَّهُ، ووفق القانون الخلدوني القائِلِ بِأنَّ [البَلَدَ الكثير العصائِب قلَّ أن تستحكِمَ فيه دَولَة]، فإنَّ المُجتمع الأندلسي، والذي ربَى تعدادُهُ في العصر الأموي على خمسٍ وعِشرين مليونًا، كان مُجرَّدَ حاكِمٍ ورَعِيَّة. وهو مايُفسِّرُ استتباب الخِلافَة الأُمَوِيَّةِ هُناك حوالَى ثلاثة قُرُون، وهو ما يفسر أيضًا امتهان أغلب الأندلُسِيِّين للفِلاحَة، ليس فقط بِفِعل خُصُوبة الأرض ووفرة المياه، وإنَّما أيضًا بِفِعل حالة الاستقرار السياسي التي عاشتها شِبهُ الجزيرة الإيبيرِيَّة في ظِلِّ المسلمين، والذين كانت عُصُورُهم هُناك عُصُور استقرار، فيما عدا فترة ما عُرف بحُكم مُلُوك الطوائِف، وهى تلك الفترة التي فَصَلَت ما بين حُكم الدولة الأُموِيَّة وحُكم دولة المُرابطين المغارِبِيَّة، والتي ردَّت عادِيَة مُلُوك “قشتالة” الشمالِيِّين في واقِعَة الزلَّاقة الشهيرة عام سِتٍّ وثمانين وألفٍ للميلاد.

وبعيدًا عن الخوض في تلك التفاصيل التاريخيَّة، وبرغم أنَّها تُشكِّلُ الخلفِيَّة الأنسَبَ للحديث عن خصائِصِ المَدَنِيَّة الأندلُسِيَّة، فإنَّهُ يتعيَّنُ التنبيه على الخَصِيصَتين الرئيسيتين لتلك المدَنِيَّة، ألا وهُما المَدَنِيَّةُ في إطارِ مُجتَمَعٍ زراعي، وتكامُلُ المعيشة في إطارٍ مِن الاكتفاء والرخاء. ويقول “ابنُ خَلدون” في تلك الخصِيصَة الأولى مِن خصائِص مَدَنِيَّة المُجتمع العربىّ الأندلُسِىّ ما مُلخَّصُهُ: [ولم أرَ مَن هُم أكثرُ مِن أهل الأندلُس اشتغالاً بالفِلاحَة، لولا أنَّ فِرَنجَة الشمال ألجؤُوهُم إلى سيف البحر]، يعنى أنَّ مُلُوك الشمال مِن الفِرَنجة قد أجلوا المُسلمين عن تلك الأراضي الخَصِيبة في وَسَطِ “شِبه الجزيرة الإيبيرِيَّة”، وهى تلك الأراضي التي شَهِدَت استزراعَهُم الكَثِيف لمحاصيل مُتنوِّعَة، وذلك في ظِلِّ وُجُود نهر “الوادي الكبير”، والذي كان يشطُرُ مدينة قُرطُبُةَ، عاصمة الأندلُس في زَمَن الأُموِيِّين إلى نِصفَين. وكان مِن شأن إلمام أهل الأندلُس بفُنُون الزراعة أن تكامَلت معيشتُهُم إلى حدِّ الرخاء، إلى حَدِّ أنَّهُم كانوا ينهرون أي شحَّاذٍ، وذلك أنَّهُ كان بِوِسعِهِ أن يخرُجَ إلى المُرُوج المُحيطة بـ “قُرطُبة”، ويستأجر قِطَعةً مِن الأرض، فيزرعُها بِمَا يُغنيه عن السُؤال. وكان مِن شأن ذلك الرخاء أيضًا أن تواطئت أمزِجَةُ الأندلُسِيِّين مع تلك العِيشَة الرَغدَة، فكأنَّ وفرة زيت الزيتون الذي كان يُنتَجُ في إقليم “لِبلَة” الواقِع غربي الأندلُس –حيث كان يُقيم شيخ الإسلام ابنُ حزمٍ– كانت سببًا في ثُقُوبِ ذِهنِ ذلك الإمام المُجدِّد، والذي أفتَى في كِتابِهِ “المُحلَّى” بما يَنِيفُ عن اثنتَي عشر ألف مسألةٍ فِقهِيَّة، إذ مِن المعروف عِند المُشتغلين بالطِبِّ أنَّ تناوُلَ زيت الزيتون يمنعُ أكسدة الموادِّ الدُهنِيَّة والنشَوِيَّة داخِلَ الجِسم، بما يُؤدِّى إلى سلاسة تدفُّق الدَمِّ مِن الوَتِين، الذي هو شِريانُ القلب الرئيسي إلى خلايا المُخَ، وبما يُؤدِّى بالتالي إلى دِقَّة التفكير وسلامة الذِهن. كما أنَّ أكل الكُسكُس، والذي كان الأندلُسِيّون يصنعونهُ مِن سَمِيد الذُرَة، إضافةً لإدخالِهِم ثَمَرة “الأفوكادو” كعُنصُرِ طَبخٍ مُمتازٍ في طعامِهم، قد أدَّيا لنُدرة إصابتهم بأمراض ضغط الدمّ، والتي كانت شائِعَةً لدى فِرَنجة الشمال، والذين كانوا يطبُخُون طعامَهُم في الغالِب بلحم الضأن الحاوِي لِنِسَبٍ عالية مِن الدُهنِيَّات.

ومِن ثَمَّ، فإنَّ مُجرَّدَ الحديث عن ذلك المُجتمع المفتوح، والذي تأسَّسَ فوق أرضٍ خصيبةٍ، تُبايِنُ كُلًّا مِن العالَم الشرقي الإسلامي والغربي المسيحي، فيما يتعلَّقُ بِجَغرافِيتها الطبيعيَّة وطبيعة مناخِها، و الذي يُعَدُّ مِثالاً في اعتدالِه، يفتح –ذلك الحديث– بابًا لِتَفحُّص الأُسُس الفريدة التي قام عليها المُجتَمع الإسلامي في “شِبه الجزيرة الإيبيرِيَّة” في تلك الفترة، والتي امتَّدَت بين القرنَين السابِع والخامِس عشر الميلادِيَّين، تلك الأُسُس التي نشأ عليها سبعةُ آلافِ مَسجِد دُونَ أن تُهدَمَ في مُقابِل تلك المساجِد أيَّهُ كنيسةٍ، كما ونشأت في ظِلِّها أيضًا تلك المكتبات الضخمة في “قُرطُبَة”، و”إشبيلِيَّة”، و”غرناطة”، تلك المكتبات التي اشتملَت على سِتَّةِ آلاف كتابٍ في الطِبِّ. كما وكانت تلك الأُسُسُ أيضًا هى مَن أفرَزَ اثنى عشر عالِمًا حملوا جميعًا لَقَبَ القرطبي. بما يفتح المجال لاعتبار الأُسُس الروحانِيَّة غير المادِيَّة، والتي تفاعلت بدورها مع ذلك الثراء المادي الأندلسي في سبيل بناء تلك المدنِيَّة الأندلُسِيَّة، والتي كانت أساس تلك المدنيَّة الغربيَّة الحديثة.

إنَّ الأندلُسَ كانت أُنمُوذجًا لذلك التفاعُل بين الفِكرة الإسلامِيَّة مِن جانِبٍ، وبين شعبٍ أوروبي آري العِرق اعتَنَقَ الإسلام عن اقتناعٍ مِن جانِبٍ آخر. إذ مِن الثابِت أنَّ جُلَّ سُكَّان الأندلُس في العُهُود الإسلامِيَّة كانوا مِن أهل الأندلُس الأصلِيِّين، والذين تبلوروا في إطارِ الإسلام ليصيروا أولَّ شعبٍ أُوروبِي يُبايِنُ كُلَّ الشُعُوب الأوروبيَّة الأُخرَى، مِن حيث تأسيسِهِ لِمَدنِيَّةٍ إسلامِيَّةٍ ذات طبيعةٍ مَحلِيَّةٍ إيبيرِيَّة. إذ لم تكُن استعانةُ الصقالبة المُسلمين “الأندلُسِيِّين” بإخوانِهم مِن مسلمي مِنطقة المغرِب العربي، والذين ظلُّوا يُشكِّلون احتياطِيَّهُم البشري الدفاعي، سِوَى بَدءًا مِن تلك الفترات العصيبة التي أعقَبَت سُقُوط الخِلافة الأُموِيَّة عام واحد وثلاثين وألفٍ للميلاد، كما وأنَّ هؤلاء الأوروبيِّين المُسلمين ظلُّوا حتى النهاية يعتمدون بِشَكلٍ أساسِي على قُدُراتِهم الذاتِيَّة في ردِّ عادِيَة بَنِي جَلدَتِهم الشمالِيِّين، والذين لم يُهاجموهم سوى بِدَوافِع أيديولوجِيَّة.

المراجِع:

 1 – مُقدِّمَة ابن خلدون – في ثلاثة أجزاء، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب.

2 – “ابن حزم وجهودُهُ في البحث التاريخي والحضاري” للدكتور / عبد الحليم عُوَيس.

3 – “حاضِرُ العالَم الإسلامِىّ” – الجُزء الأول – الحواشي التي أضافها أمير البيان / شكيب أرسلان للمُؤلَف الأصلي، والذي وضعهُ المُستشرِقُ الأمريكي “لوتروب ستودارد” – مطبعة عيسى البابي الحَلَبِىّ بالقاهرة.