البعد الفلسفي للتعايش ودوره في التعدد الثقافي

إن التعايش والوسطية من أهم العناصر التي تشكل تماسك الأمم. ومن الطبيعي أن تكون الأمم مختلفة ما دامت الثقافات مختلفة ومتنوعة. كما أن  مستويات الحضارة تشهد هي الأخرى تنوعًا باعتبار أن هناك تلاقحًا بين الثقافات. يتمخض عن هذا التمازج ميلاد فكر جديد وإيديولوجيات متنوعة يضمن التنوع الثقافي حمايته بمراعاة تواصل إيجابي وحوار فعال بين المجتمعات.إن فلسفة التعايش ليست وليدة فكر راهني فحسب، بل لها جذورها العميقة في الحضارات الإنسانية الأولى.

لقد عرفت الحضارات القديمة أنواعًا مختلفة من نماذج التعايش والتسامح والاعتراف بالآخر المختلف من الناحية الدينية والاجتماعية والسياسية، ففي الحضارة البابلية ساد التعايش نتيجة الديمقراطية البدائية، وكان تسامحًا سياسيًّا إيجابيًّا داخليًّا فعّالاً. كما عرفت الحضارة الهندية (البوذية) تعايشًا إيجابيًّا في المجال الاجتماعي. والشيء نفسه بالنسبة للحضارة الصينية (الكونفوشيوسية) التي قامت على التسامح الإيجابي الداخلي والخارجي العالمي، من خلال ما جاء به كونفشيوس من تعاليم، تحترم العادات والتقاليد الموروثة. كما عرفت الحضارة اليونانية تعايشًا نسبيًّا إلى حد ما. فعلى الرغم من انحصارها داخل الإقليم اليوناني، فإنهم عرفوا نوعًا من التلاقح الثقافي نتيجة التنقلات والرحلات التجارية التي عرفتها بلاد اليونان.

لهذا، يجد الإنسان اليوم نفسه أمام العديد من الأسئلة، أبرزها: هل مبدأ التعايش والتسامح والحوار باعتباره أسلوب حياة يبدو للمتأمل في النسيج الاجتماعي والديني والتنوع البشري ضرورة وحتمية للبقاء وليس مجرد خيار هامشي؟ هل أضحت فلسفة التعايش في المجتمعات الراهنة حتمية أساسية خاصة في ظل الأوضاع التي يشهدها العالم اليوم من انفتاح شاسع على مختلف المستويات؟ هل أصبح الحوار الحضاري رؤية إستراتيجية للمجتمعات، وأن قدرها أن تلعب أدوارًا متقدمة في ترسيخ التسامح الديني والتنوع الفكري، من خلال تعزيز فلسفة التعايش والحوار الحضاري المشترك في عالم سادت فيه تيارات العنف والتطرف والصراع؟ هل مواجهة هذه التحديات وغيرها، منوطة بتكريس فلسفة التسامح والإصرار على جعل التعايش أولوية قصوى وخلق تنوع ثقافي يستفيد منه الجميع؟ كيف تساهم فلسفة التعايش والوسطية في الحفاظ على التنوع الثقافي؟ ما المعايير التي يمكن الالتزام بها حتى يتم إنتاج ثقافة متنوعة بناءة؟

المكون الثقافي والتعدد الحضاري

تتكون الثقافة وتتبلور من خلال عدة مكونات، أبرزها الأفكار والعادات والتقاليد.. ترتبط بأسلوب الحياة المُتّبع لدى أي أمة أو شعب في الحياة الاجتماعية وقوانينها، حيث تعد اللغة العامل الأساسي الذي يبيّن واقع كل الأمّة، وتراثها الفكري والحضاري. كما أن الثقافة تنمو مع النمو الحضاري للأمم، لكنها قد تتراجع مع مرور الوقت بسبب عدم الاهتمام الكافي بها، مما يُؤدي إلى تراجع الهوية الثقافية الخاصة بالعديد من الشعوب.

تعبر الثقافة عمومًا عن الخصائص الحضارية والفكرية التي تتميز بها الأمّة. لكن على الرغم من الاختلاف القائم بين الثقافات، فإن ذلك يُؤدي في النهاية إلى تحفيز اللقاء بينها، قصد تعزيز دور العناصر الثقافية المشتركة بين الشعوب التي تتفاعل مع بعضها.يؤدي هذا التفاعل إلى ظهور تأثيرات جزئية أو كلية في طبيعة هذه الثقافات وفي خصائصها.

إن الثقافة نمو معرفي تراكمي على المدى الطويل، بمعنى أنها ليست علومًا أو معارف جاهزة يمكن للمجتمع أن يحصل عليها ويستوعبها ويفهمها في زمن قصير. والحوار هو نشاط ذهني، وشفهي، يعمل المتحاورون من خلاله على تقديم البراهين، والأدلة التي تؤيد وجهات النظر التي يتبناها كل واحد، من أجل الوقوف مع الآخرين على أرضية واحدة. لهذا، فالحوار أسلوب راق للحديث عما يستجد من قضايا الإنسان.

إن انتشار ثقافة الحوار ليس بالأمر الهين، غير أن في انتشارها تحقيقًا لغايات عميقة، تنتشر مع ثقافة الحوار فكرة تقبل الآخر المخالف، والتعامل معه على المستوى الإنساني، ووضع الاختلافات جانبًا.كما تتضمن أيضًا إصلاحًا للمجتمعات الفاسدة، ونموًّا، وارتقاءً على كافة الصعد.. حيث يتجاوز الحوار البعد الإقصائي، مما يؤدي إلى استغلال كافة القدرات من أجل التنمية. والإصلاح، وهو ما يعتبر منتهى آمال الناس في شتى أصقاع الأرض. فقد عبر محمد عابد الجابري عن هذا بالحوار المرتبط بوجود الاختلاف، لأن الحوار لا يقوم ولا يتأتى إلا بوجود حد أدنى من الاختلاف(1).

لكن الاختلاف الذي يقصده الجابري، ليس هو الخلاف، بل تنوع الرؤى وتلاقيها عن طريق التعايش وتبني الاعتدال، حتى لا تتسع دائرة الاختلاف ويتولد الخلاف. لهذا، يعتبر الحوار البنّاء، وسيلة للتقارب بين الثقافات، قصد إيجاد تنوع ثقافي إيجابي باعتباره سنة الحياة والكون والطبيعة، لكونه يحقق التآزر ويبحث عن المساحة المشتركة لنشر الأيديولوجيات.

لهذا، فنجاح التنوع الثقافي والفكري، يحتاج إلى بنية ذهنية متحررة، تكفل حرية الرأي والتعبير في ظل أنظمة ديمقراطية، تحقق للجميع فرصًا متساوية في مجالات كافة. كلما كان التنوع الثقافي متاحًا ومحميًّا، كلما كان أكثر تأثيرًا في تجديد أنشطة المجتمع وأفكاره وتوجهاته. لكن لا يتحقق ذلك إلا من خلال تفتح عام بنّاء، يجعل من مبدأ الاعتدال والتعايش والحوار منطلقًا له، ليخلق تواصلاً مبنيًّا على التفاهم.

ذلك أن العولمة باعتبارها ظاهرة كونية، تفرض نفسها على الذهنيات، مما ينعكس على الإيديولوجيات التي يتبناها كل طرف على اعتبار أن التعايش ومبدأ الاعتدال يسمحان بجعل التمازج بين الثقافات متنوعًا ومتعددًا، مما يجعل العولمة حتمية لا يمكن غض الطرف عنها. لأن التنوع الثقافي الذي شهد نطاقًا واسعًا على مستوى العالم العربي، أدى إلى ذوبان أو انصهار الثقافة الأصلية في الثقافة الوافدة التي تحاول أن تفرض نفسها على المجتمع الذي يعاني من هشاشة في بنيته وتركيبته، مما أدى إلى فرض ثقافة الآخر باسم التعايش، مدّعية أنها محافظة على خصوصية المجتمع. لكن الواقع يبين خلاف ذلك، حيث تبرز إشكالية على مستوى كيفية التعامل مع الثقافات بمجرد قبول الآخر، بحجة التسامح والاعتدال، حيث نلاحظ طغيان ثقافة على أخرى، تسعى كل واحدة لمحو وطمس الأخرى. على الرغم من أن الواقع يبين أن هناك تنوعًا خدم كل الفئات، لكن سرعان ما نلاحظ أن هناك اضمحلالاً للموروث أو الثقافة الأصل. لهذا، فإن العولمة أدت إلى انعزال العناصر والممارسات الثقافية عن سياقاتها(2).

ففي ظل العولمة تظهر إشكالية الهويات، لأن الإقرار بالتعدد قد يلغي القول بالهوية كما يلغي التفاضل بين الثقافات، مما ينتج نوعًا من الصراع. لكن عندما يتم تجاوز هذا الصراع، يحصل الارتقاء على مستوى التعايش، ويسود الاعتدال والتكافؤ بين الذهنيات في مختلف مستويات الحياة، ليسود التسامح حسب ما اقرّه مالك بن نبي عندما اقترح في تعريفه للثقافة في كتابه “شروط النهضة” تعريفًا مزدوجًا؛ تميز الأول بتعريف تاريخي، أما الثاني فبيداغوجي. يحمل الأول معنى جوهريًّا؛ يرتبط بالإنسان الذي يحمل حضارة تؤشر على المجتمع السائر باتجاه مصير واحد. أما التعريف الثاني فيربط موضوع الثقافة ووسائلها بنظرية للسلوك العام لدى شعب ما برمّته من خلال تلاقي وتواصل وحوار.بمعنى، من خلال ثقافة التعايش والاعتدال، فتأثرت الثقافة في ظل العولمة تأثيرًا إيجابيًّا، وفي الآن ذاته سلبيًّا. فالجانب الأول ساهم بصورة فعّالة في الانفتاح وخلق إثراء تراكمي معرفي ومعلوماتي، أدى إلى تطور الثقافة والعلوم المعرفية بكل مجالاتها، فساهمت العولمة بشكل ملحوظ في إثراء الحركة الثقافية على مستوى العالم.

أما الجانب الثاني (السلبي)، فأدى إلى زعزعة الكيان الهوياتي للمجتمع المستهلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة التي ساهمت في تداول المعلومات من كل بلدان العالم، وصبها في مختلف البلدان والأديان والعادات والتقاليد.. مما أدى إلى عدم القدرة على التعاطي مع هذا النوع من الثقافات الوافدة، بحيث تم اكتساب ثقافات جديدة ومغايرة بشكل واضح عن الثقافة الأم. أثرت العولمة بكل قوة على الثقافة، كما أدت إلى انفتاحات عالمية كثيرة كانت سببًا رئيسيًّا فيها، على الرغم من اختلاف هذا التأثير سواء بالسلب أم بالإيجاب.

التعايش وأثره على التنوع الثقافي

ينطوي المجتمع الإنساني على درجة كبيرة من التباين والوحدة، في الوقت نفسه يتجلى التباين في عدد كبير من الأعراف والأجناس والأديان والثقافات التي تحمل قيم التنوع الثقافي. أما الوحدة، فتتجلى في أن كل عناصر هذه التجمعات يشترك في كونها تسعى للعيش في كرامة وسلام وتحقيق طموحاتها، ومصالحها. لهذا، فإن ما يجمع الناس هو أكثر مما يفرّقهم. لكن احتكاك المجتمعات اليوم، أصبح يشوبه نوع من الارتباك والهشاشة، مما يستوجب مراجعة الذات (المجتمعات لذاتها)، لكي تتصالح من جديد للمحافظة على التنوع الثقافي الراقي. وذلك بالرجوع إلى الدين ومبادئ التسامح واحترام الآخر المختلف، والمحمّل بثقافة أخرى مغايرة تصبو إلى التنوع. لا يجد هذا الأخير نجاعته وانتشاره إلا من خلال المبادئ الروحية، والتعايش والاعتدال ونبذ التطرّف والعنف، من خلال حوار عقلاني، فيه احترام حريّة الآخرين في شكل حضاري لا نمطي، يؤسس ويؤطر لوحدة شاملة وقوية تجمع أغلب الثقافات تحت مظلة التعايش والاعتراف، وتشجيع الانفتاح الفكري، والمعرفي مع تنمية مهارات التفاهم.. مما يعمق التسامح والعدالة بين فئات المجتمع(3). لهذا، فإن الدعوة للمحافظة على التنوع الثقافي، معناها دعوة لإحلال سلام وتعايش واعتدال كمراتب عليا، حتى تنجح الثقافة الخصبة والمتشبّعة بروح ثقافات أخرى في الحفاظ على قوتها، دون أن يكون هناك طمس لروحها الأصيلة وذوبانها.

التعايش في الفلسفة الغربية

يعد التسامح عند “جون لوك” من القواعد الأساسية التي يقوم عليها المجتمع المدني، لأنه بمثابة الفضيلة المدنية لهذا المجتمع. لأن القاعدة العامة للتسامح تكمن في اتفاق الأفراد الذين يعيشون ويتركون غيرهم يعيشون(4). بهذا، قدّم “لوك” فلسفة متكاملة، تشمل جوانب سياسية وفلسفية وأخلاقية وتربوية. وإن المبدأ الأساسي الذي يكتنف ماهية التسامح والتعايش حسب الفيلسوف الألماني “أكسيل هونيت” هو الاعتراف.فلا يمكن ألبتة تصور موقف تسامح وتعايش بين المجتمعات، إلا من خلال الاعتراف المتبادل. ذلك أن الطرفين يعترفان نفسيهما من خلال اعترافهما ببعضهما اعترافًا متبادلاً. كما تناول “أكسيل هونيث” مدلول الاعتراف، وربطه بالمنحى العلائقي السوسيولوجي، حيث يحصل التفاعل الاجتماعي، والتلاقح الثقافي، مما يحد من التناحر الاجتماعي وصور الازدراء والاحتقار.

يعدّ نموذج الحب صورة مثلى للتسامح بين الذوات، إذ بفضل التعاطف في الأسرة وعلاقات الصداقة والمحبة بين البشر والتراضي بينهم، تتحقق سبل الاعتراف والتسامح. فالحب -وفق منظور أكسيل هونيث- يسمح للفرد بتحقيق الأمن العاطفي(5). كما يتمظهر الاعتراف باعتباره إتيقا من خلال التضامن الاجتماعي داخل نسيج العلاقات السوسيولوجية والثقافية. أما الفيلسوف “إدغار موران”، فاعتبر التعايش إتيقا وفلسفة إيجابية بين المجتمعات، لأن المجتمع في ظل الذكاء الأعمى على حد تعبيره، أدى بالإنسان المعاصر إلى منحى الضوضاء والأسلحة والنزاعات، وأنماط تحررية زائلة وانقلابية ومضايقات فظيعة وتخويف سياسي وقسوة بشرية تمزّق القلب. لهذا، فالحل حسب “إدغار موران”، هو انتهاج فلسفة التعايش التي تخلق التنوع على أصعدة عديدة فكرية وثقافية. كما أن إحقاق التسامح، يستوجب منهجًا سليمًا في آلياته وضوابطه، حتى يلقى ترحيبًا من لدن الجماعة الإنسانية. فتقبّلُ الآخر والاعتراف به لعرقه أو دينه أو سياسته هو الأصل، لكن عندما نعمد إلى القطع والفصل، فإننا في حقيقة الأمر، نستأصل الإنسان من الطبيعة. لهذا، يخلص “إدغار موران”، إلى أنه لكي نحقق تسامحًا كونيًّا، لا بد في مقابل ذلك من الاستشراف على مستقبل الهوية البشرية جمعاء، التي ترتبط باحترام الناس لمطلب إحقاق الهوية الكوكبية، يتحول معها الفرد الإنسان إلى الشخص الكوني. لهذا، يكون مصير التاريخ ومصير الكوكب متجانسان من خلال الاندماج.

الهوامش

(1) إشكالية الفكر العربي المعاصر، الجابري (محمد عابد) ، ط3، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1994، ص:52.

(2) حوار الحضارات، زويل (أحمد)، ط1، دار المعارف، مصر 2007، ص:112.

(3) غاندي رسالة اللاعنف والتسامح، عطا صديق (رامي)، ط1، دار جداول، الأردن 2014، ص:204.

(4) رسالة في التسامح، لوك (جون) ، ترجمة: أبوسنة، ط1، المجلس الأعلى  للثقافة، مصر 1977، ص:117.

(5) Axel Honneth,Reconnaissance et reproduction sociale (in) la reconnaissance à l’preuve explorations socio-anthropologiques,Paris,édition septentrion ،presses universitaires, 2008, p51.