السل أو التدرن الرئوي، مرض قديم الوجود جاء وصفه في أدبيات الطب منذ زمن أبو قراط. وشرح ابن قيم الجوزية طريقة العدوى بقوله: قد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه، ومع هذا فلا بد من وجود استعداد في البدن لقبول الداء. كما نبه علي بن العباس إلى صعوبة شفاء السل بسبب الحركة الدائمة للرئة.
ورد ذكر السل أيضًا في الأعمال الأدبية لكثرة شيوعه، ولعل أشهرها رواية “غادة الكاميليا” للروائي الفرنسي “ألكسندر دوماس” الكبير. أما في الأدب العربي فقد جاء توصيف المرض بشكل جيد في رواية “خان الخليلي” للروائي العالمي نجيب محفوظ. وقد انتقلت هذه الرواية إلى التلفزيون والسينما، وهي لموظف بسيط يعيش في بيئة فقيرة مزدحمة بالسكان، ومحرومة من الخدمات، ويقضي جل أيامه في حانات الخمر والمخدرات واللهو.. وحينما يثوب إلى رشده ويقرر الزواج، تنتابه أعراض شديدة من سعال مستمر ونفث للدم وحمى ونحول بالجسم. ويقرر الأطباء إصابته بالسل الرئوي. وبما أن الأدوية لم تكن متوفرة في ذلك الوقت، كانت الإصابة بالمرض تفضي إلى الموت في معظم الحالات. وهكذا يفصل الرجل من وظيفته، وتتخلى عنه خطيبته، ويرسَل إلى مصحة بانتظار النهاية.
أما في الشعر العربي، فالأعمال قليلة، وأشهرها قصيدة للأخطل الصغير؛ وهي تتحدث عن شاب يشبه كثيرًا في حياته وصفاته بطل “خان الخليلي”، وهو فوق ذلك متشرد يجوب البلاد بحثًا عن الرذيلة.
ويستمر الفتى على هذه الحال إلى أن يصاب بالسل الرئوي، فتصف القصيدة ما حل به من مرض ونحول:
يمـشــي بعـلَّــتِهِ علــى مَـهَــلٍ
فَكَــأنَّــهُ يــمشــي عَلــى قَصَدِ
وَيَــمُــجُّ أحــيانًـا دَمًا، فعلى
مِــنْــديــلِـــهِ قِـطَعٌ مــن الكَـبِدِ
قِـــطَــعٌ تــآبــيـــنٌ مُـــفَــجَّــعَـــةٌ
مَــــكْــــتُـــوبَـــةٌ بِـــدَمٍ بِــغــيـرِ يدِ
قِطَعٌ تقولُ لَهُ: تموتُ غدًا
وإذا ترقً، تقولُ ك بعدَ غَدِ
أعراض التدرن
نجح الشاعر، كما نجح الروائي في وصف الصورة السريرية، للتدرن الرئوي، وهي تتألف من عنصرين، عنصر جهازي، والآخر رئوي.
العنصر الجهازي يشمل الحمى والتعرق الليلي، ونقص الشهية والنحول والتعب العام، وهذا يشاهد في كل أشكال الإصابة بالتدرين، سواء كان في الرئة أم خارجها.
أما العنصر الرئوي فيشمل السعال الشديد الذي يبدأ جافًّا، ثم يرافقه قشع مدمي به خيوط في الدم، وقد يبصق المريض دمًا خالصًا.
سبب التدرن هو جرثوم عصوي الشكل يدعى بـ”المتفطرة الدرنية”، حيث تبتلعه الفطريات التنفسية (نتيجة السعال)، ويصل إلى الرئة حيث تبتلعه خلايا المناعة المتواجدة بكثرة في جدار الحويصلات الرئوية التي يطلق عليها اسم “البالعات الكبيرة”. وتتجمع الخلايا الالتهابية حول البؤرة فتشكل حزمًا تمنع الجرثوم من الانتشار، وهذا ما يدعى بـ”التدرن الأولي”.
ويبقى الجرثوم داخل هذه البؤرة ساكنًا، ولكن هذا لا يعني أنه ميت، فهو قد ينشط بعد سنوات طويلة، خاصة حينما تضعف مقاومة الجسم فيحدث الدرن ما بعد الأولي.
والذي قد يكون رئويًّا أو خارج رئوي، وهنا قد ينتشر إلى الجهاز العصبي أو الجهاز البولي. ونسبة حدوث التدرن نتيجة نشاط الجراثيم الهاجعة يعادل 10% على مدى الحياة للشخص العادي.
كيف يعالج السل؟
لم يصبح السل مرضًا قاتلاً، إذ يتوافر اليوم العديد من الأدوية التي تستطيع القضاء عليه، مثل الإيزوينازيد، والريناميبسين، والبيزازياسيد، والستربتوبسين، والإيتامبوتول، وهناك أنظمة علاجية مختلفة تترواح فترة العلاج فيها بين ستة أشهر وسنتين.
ويتم متابعة العلاج بتكرار الفحوص، كما يجب الانتباه للتأثيرات الجانبية للأدوية بمتابعة الصبغة الدموية ووظائف الكلية والكبد وغيرها.
ولا يحتاج المريض إلى المكوث في المصحات لعزله عن الآخرين، لأنه بعد أسبوعين من بدء العلاج يصبح مادة غير قابلة للنقل للغير. ويؤدي استعمال الأدوية للشفاء بنسبة تفوق 90ِ%، وقد أدى ذلك إلى تراجع كبير في نسبة انتشار المرض على مدى العقود الماضية، ولكن مشكلة كبيرة بدأت بالظهور من أواسط الثمانينيات.
التدرن والإيدز
فقد شهدت فترة الثمانينيات وما تلاها، ازديادًا مفاجئًا في حدوث السل، بسبب ظهور مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، لأن مريض الإيدز صاحب المناعة المنهارة، فريسة للإصابة بالسل. وتصل هذه النسبة إلى 7% سنويًّا. ويرافق ذلك أيضًا ظهور سلالات جديدة من جراثيم السل مقاومة للأدوية المعروفة.
ولو كانت قصيدة الأخطل الصغير قد كتبت هذه الأيام، لكان من المنطقي القول بأن الشباب قد أصيب بالإيدز من خلال العدوي الجنسية، وأن انهيار المناعة بعد ذلك أدى للإصابة بالسل.
ومن الحب ما قتل
لم يصف الشاعر تفاصيل رصد السل من أجل الثقافة الطبية، ولكنه رمى إلى إعطاء الدرس والعبرة. وإن الحياة “اللاهية” تنتهى بتلك النهاية التعيسة:
مات الفتى فأقيم في جدث
مستوحش الأرجاء منفرد
هــذا قتيل هوى ببنت هوى
وإذا مــررت بأختها فحــد
أفريقيا والسل
دعت منظمة الصحة العالمية إلى “إجراءات استثنائية عاجلة” للوقاية من كارثة انتشار مرض السل في القارة الإفريقية. وقالت إن الأمر ينذر فعلاً بالخطر، لا سيما أن أكثر من نصف مليون أفريقي يلقون حتفهم كل عام بسبب المرض. والغريب فعلاً أن هؤلاء يتلقون يوميًّا العلاج الضروري الملائم.
وقالت اللجنة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية في أفريقيا في ختام اجتماعها بالعاصمة الموزمبيقية مابوتو، إن “الوباء اتخذ مدى غير مسبوق” في القارة السمراء بسبب تلازم مرضى الإيدز والسل. ففي 15 سنة تضاعف عدد المرضى أربع مرات في 18 دولة، ليبلغ قرابة 2.4 مليون شخص.
وتأتي في مقدمة الدول المهددة، كل من كينيا ومالاوي، ولذلك دعت المنظمة المجتمع الدولي إلى اتخاذ “عدد من الإجراءات الخاصة”، مثل تدريب ممرضين محليين ودعم عمليات اكتشاف الحالات، من خلال حملات الفحص الدوري وتطوير عمليات الشراكة بين القطاعين الخاص والعمومي.
وينتشر مرض السل عن طريق البكتيريا الموجودة في الهواء، والتى تدخل الجهاز التنفسي وتتسبب في أمراض رئوية مزمنة. وليس بالضرورة أن يصاب الأشخاص الذين يحملون هذه البكتريا بمرض السل، غير أنهم يساعدون وبشكل كبير في نقل المرض.
ولم يتمكن العلماء حتى الآن من اكتشاف عقار جديد لهذا المرض الذي ينتشر وبشكل كبير بين مرضى الإيدز، حيث إن ثمانية ملايين إنسان في إفريقيا، يحملون في الوقت ذاته فيروس الإيدز بالإضافة إلى بكتيريا السل.
ويذكر أن مرض السل، يقتل أكثر من نصف مليون شخص سنويًّا في إفريقيا، وفي موزمبيق، غير أن هذا الرقم ليس دقيقًا على نحو مطلق، وذلك بسبب وجود أشخاص مصابين بالمرض في المناطق النائية يصعب الوصول إليها لمعالجتهم.
اختيار جديد ينقذ الملايين
إن اختبارًا تشخيصيًّا جديدًا للكشف عن الإصابة النشطة بالسل (الدرن)، يبشر بإحداث طفرة علمية يمكنها أن تؤدي إلى إنقاذ الملايين. وقد حاز هذا الاختبار الذي طورته كلية الطب الملكية في لندن، على جائزة الابتكار الطبي.
يعتمد الاختبار الجديد، على عمل مزرعة لعينات في سائل معين، وتحليلها باستخدام ميكروسكوب معقد، بما يؤدي للكشف عن بكتيريا السل في غضون أيام وليس أسابيع.
يذكر أن السل هو أكبر مرض معدٍ قاتل قابل للعلاج في العالم، متفوقًا على فيروس كورونا المستجد الذي يحصد أرواح آلاف الأشخص يوميًّا. وإذا لم يعالج السل، فإنه يؤدي إلى وفاة قرابة 70% من المصابين به، وبالإمكان أن يصيب شخص واحد لديه عدوى السل النشط ما بين عشرة وخمسة عشر شخصًا في العام.
وقد تزايدت حالات الإصابة في بريطانيا بواقع 25% على مدار الأعوام العشرة الماضية.
وبالإضافة للتعرف على بكتيريا السل بشكل أسرع، يمكّن الاختبار الجديد الأطباء من إضافة أدوية عدة إلى الوسط السائل لمزرعة العينة، لتحديد أيها أكثر فاعلية في القضاء على المرض.
يعد هذا الأمر ذا أهمية خاصة نظرًا لظهور سلالات من السل مقاومة للعلاج الدوائي المتعدد. يقول الدكتور “ديفيد مور” الذي طور الاختبار: “يموت قرابة مليوني شخص في العالم من السل، وأغلبهم بسبب الافتقار إلى الوسائل التشخيصية المناسبة”. ويضيف: “إنها مأساة، لأن المرض قابل للعلاج بالكامل”.
يذكر أن هذا الاختبار الذي يتم حاليًّا تطويره في “ليما ببيرو”، تفوق على منافسة 1200 ابتكار مماثل، فائزًا بالجائزة الكبرى للابتكار الطبي للعام 2019.
وقد اختارت لجنة التحكيم التي ترأستها البروفيسورة “سالي ديفيز” مديرة البحوث والتطوير بوزارة الصحة البريطانية، اختبار الدكتور “مور” لبساطته، ولما يحمله من آفاق واعدة في علاج السل على المستوى العالمي. يقول الدكتور “آندي جولدبرج” مبتكر الجائزة الطبية: “الأمر يشبه تمامًا ما أحرزه الكسندر فليمينج باكتشافه البنسيلين العام 1928”.
ويضيف “بول سامر فيلد” من إحدى الهيئات الخيرية للتوعية من الدرن إنه يشعر “بسعادة بالغة” لأنباء هذا الاختبار الجديد، وإن كان يلزم المزيد من التمويل لتطويره قدمًا. ويتابع: “رغم أن هذا المرض يقتل الملايين كل عام، إلا أننا نستخدم أدوية طورناها قبل أربعين عامًا، واختبارًا تشخيصيًّا تم تطويره في ثمانينات القرن التاسع عشر”.
المراجع
(1) Jindal, (2019). Textbook of Pulmonary and Critical Care Medicine. New Delhi: Jaypee Brothers Medical Publishers.
(2) Amicosante, M; Ciccozzi, M; Markova, R (2020). “Rational use of immunodiagnostic tools for tuberculosis infection: guidelines and cost effectiveness studies”. The new microbiologica.
(3) Bibbins-Domingo, Kirsten; Grossman, David C.; Curry, Susan J.; Bauman, Linda; Davidson, Karina W.; Epling, John W.; García, Francisco A.R.; Herzstein, Jessica; Kemper, Alex R.; Krist, Alex H.; Kurth, Ann E.; Landefeld, C. Seth; Mangione, Carol M.; Phillips, William R.; Phipps, Maureen G.; Pignone, Michael P. (2018). “Screening for Latent Tuberculosis Infection in Adults”. JAMA.