إن الأشهر الثلاثة هي أعظمُ الأوقات المباركة؛ ففيها قد يصبح المرءُ أقربَ إلى الله تعالى، ويغدو أهلاً لأن يتغمده الله بواسع رحمته، فينسلخ من ذنوبه ويسيح في أفق القلب والروح.
والحق أن المرء في حاجة دائمة كل عام إلى فترة نَقاهة سماوية، يزكّي فيها نفسه ويربّي روحه ويصفّي قلبه، وهذه الأشهر المباركة من أكبر الوسائل لتحقيق هذا.
ولا جرم أن التخلص من الأعباء الجسمية والنفسية في هذه الأوقات المباركة، والارتقاءَ إلى أفقٍ معين، والوصول إلى مستوى معين، يتطلب بدايةً إجراءَ عملية خطيرة من التفكر والتذكر. ولا بد عند إجرائها من أن يَفتح المرءُ قلبَه وروحَه دائمًا على المعنويات؛ أي إن عليه أن يحاول فهم المسائل الإيمانية والقرآنية بملكاته الذهنية والعقلية بالمدارسة والمذاكرة، وأنْ يعبّ شيئًا فشيئًا من سيل الأنوار والمعنويات الهادرة عليه.
التوجه يُقابَل بالتوجه
لا يزال كثير من الناس يتفوهون بطيّب الكلام وأروع البيان حول هذه الأشهر المباركة ولياليها وأيامها وفقًا لمستواهم وسَعَة أفقهم، لافتين الأنظار إلى جمالياتها التي تغذّي حياة المؤمن.
والوقوف على هذه المؤلفات -التي تُقدَّر قيمتُها بالكنوز- كلمةً كلمةً، وتحليلُها وفهمُها واستيعابُها بالمدارسة والمناقشة، له أهميةٌ بالغة في فهم الواردات واستشعار الفيوضات التي تنهال على الإنسان بفضل هذه الأشهر المباركة.
أجل، لا بد من تجنّب القراءة السطحية الشكلية، ومن سبر أغوار المسألة؛ حتى تتحقق الاستفادةُ الكاملة مما كُتِبَ عن الأشهر الثلاثة، وإلا تعذّر على المرء أن يستفيد تمام الاستفادة مما قرأه أو سمعه.
ولا يستطيع المرء أن يتلذذ ويستشعر حقًّا بجماليات هذه الأوقات المباركة وأذواقها ولذائذها التي يجد طعمها في قلبه، إلا بعد أن يعرف ويضع في حسبانه أنها أَشْهُر جمع الغنائم، وبعد أن يستغلّها بليلها ونهارها ولا يضيّع لحظةً منها؛ فمثلاً إنْ لم يعزم المرء ويصمّم على قيام الليل ولم يتوجه إلى الله ولم ينهل من فيوضات الليالي، فإنه يتعذر عليه أن يشعر بعمق جماليات هذه الأشهر المباركة أو يتلذّذ أو يستمتع بها.
أجل، إن لم يبدأ الإنسانُ هذه الأشهرَ بشدٍّ معنوي قوي، ولم يَنذر نفسه للعبادة استشعارًا لحقّ العبودية، ولم يفرّغ نفسه تمامًا لهذا الأمر، فلن يمكنه استشعار ما في هذه الأوقات المباركة وإن انهمرت عليه ألطافها بغزارة، بل قد يقيّم ما قيل عنها حسب إدراكه واستعداده، ويعده تكلّفًا وخيالاً.
أجل، إن استشعار الفيوضات التي تغمرنا من رأسنا إلى أخمص قدمينا في هذه الأشهر المباركة، مرهونٌ -بدايةً- بالإقرار بها والإقبال عليها؛ لأن التوجه يُقابَل بالتوجه، فإن لم تُقبِلوا على هذه الأشهر بروحها ومغزاها، فلن تفتح لكم أبوابها، بل إن الكلمات الرنانة البراقة التي قيلت عنها، تنطفئ وتذبل في أنظاركم وكأنّها جسدٌ لا روح فيه ولا حياة.. بل إن عبارات ابن رجب الحنبلي التي تعزف على الوتر الحساس، وأقوال الإمام الغزّالي التي تبعث العشق والشوق في القلوب، لا تجد صداها في قلوبكم؛ لأن الكلمة لا يكون لها وقعٌ أو تأثير إلا إذا تهيّأت لها عقول المخاطبين وإدراكاتهم وصدورهم تهيُّؤًا يناسب قيمتها.
ومن ثم ينبغي للمرء أن يتبنى هذه المسألة وأن يصبح رجبيًّا وشعبانيًّا ورمضانيًّا؛ أجل، عليه أنْ يتوحّد مع هذه الأوقات السعيدة حتى يتسنّى له استشعار ما تبثّه في روحه وإدراكه، وإلا فإنْ ظللتم كما أنتم، ولم تنأوا بأنفسكم عن السطحية، ولم تحقّقوا في ماهية هذه الشهور، فستدخل هذه الكلمات الجميلة التي تدور حولها من أُذُن وتخرج من أخرى.
وعلى ذلك فمن يُقبل على سفاسف الأمور، ولا يسعى إلى تجديد نفسه في موسم الغنائم هذا، ولا تتّسم أفعاله وسلوكياته بالجدّية والاتّزان، فمن الصعب جدًّا أن يستفيد من مثل هذه الأوقات المباركة.
البرامج المناسبة للأوقات المباركة
وللمسألة وجه آخر ذو صلة بروح المجتمع ورضاه بالأمر، والواقع أن الشعورَ والإحساسَ بسعة هذه الأشهر وعمقها الحقيقي، شأنُ من يحلِّقون في أفق القلب والروح. والحق أن لمجتمعنا معرفة عامةً بقدر هذه الأشهر الثلاثة وبركتها، لذا يرتاد المساجد ويتوجه إلى الله تعالى.. ويمكن الاستفادة من هذا الواقع، فهو طريق مهمّ إلى قلوب الناس لنبلغهم رسائل معينة، وذلك بتنظيم برامج وأنشطة مختلفة في هذه الأوقات المباركة. ولنا في ليالي “المعراج ونصف شعبان والقدْر” أن ننظم برامج خاصة تخاطب أهل عصرنا بشرط الالتزام بروح الدين.. وبهذا نكون قد استثمرنا تلك الليالي المباركة في تقريب الناس إلى الله، وإشعار القلوب بحقيقة الدين.. وكما يمكن إشعار قلوب الوافدين إلى المساجد ببعض الحقائق، يمكن أيضًا استغلال لقاءات المدارسة والمذاكرة ومجالس العلم، ويحسن كذلك استغلال اهتمامات وطموحات من يعرفون عظيم قدر هذه الأشهر الثلاثة.
وأريد أن ألفت الانتباه هنا إلى بعض الأمور التي أراها مهمةً في هذه البرامج: إن غايتنا من استغلال هذه المناسبات المختلفة وتنظيم جميع هذه الفعاليات، هو تقريبُ الناس خطوة خطوة إلى الله تعالى بعوالمهم الفكرية والحسّية، فإذا لم تبلغ بنا هذه البرامج والأنشطة إلى ذاتيتنا، ولم ترشدنا إلى سبيل معرفة أنفسنا، فإن هذا يعني أننا نشتغل بما لا طائل من ورائه. أجل، إن كنا نعجز عن التعبير عن الحقائق الإلهية، ولا نستطيع أن نقرّب الناس من سيد السادات -عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات- أكثر، أو إن كنا ننظّم برامج تخاطب أهواء الناس ورغباتهم، ولا يخرجون إلا بقول “لقد أمضينا لحظات لطيفة”؛ فهذا يعني أننا أسرفنا في الوقت، أو أننا اقترفنا إثمًا.. وذلك أن كل سبيل لا تؤدي إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هي سبيل خدّاعة. نعم، إن تسلية الناس وتنظيم الحفلات والمهرجانات، ليس شأن ولا وظيفة القلوب المؤمنة التي ترغب أن تكون ترجمانًا للحق والحقيقة.
وللناس في يومنا هذا أنماط حياة فيها لهو وتسلية، فربما يخدعكم ما يُظهرونه من اهتمام في هذا الموضوع، حتى إنكم حين تنظرون إلى سرورهم قد تظنون أنكم قمتم بعمل نافع، بينما الأهمّ من اهتماهم هو صحة هذا العمل في ميزان الشرع؛ فعليكم أن تهرْولوا دائمًا وراء الحق حتى وإن لم يكن هناك اهتمام بالفعالية القائمة أو كانت المشاركة قليلةً، أي إن تقدير الناس وتصفيقهم ليس هو المهم، بل المهم هو أن يكون البرنامج الذي تنظّمونه يضيف شيئًا لحياتنا القلبية والروحية.
في هذه الفترة الزمنية المباركة التي تغرق فيها السماوات في لجة الأنوار وتزدان الأرض بالموائد السماوية، علينا أن نوجه الناس دائمًا إلى التعمق في حياتهم القلبية والروحية، وأن نربط كل عمل سنضطلع به بالأهداف السامية والغايات العالية.. حتى إنه لا بد أن نغذّي في كل مرة قلوب الناس معنًى وروحًا جديدين، ونجعلهم يُبحِرون بنهَمٍ إلى المعنويات. ولتحقيق هذا، علينا أن نستهدف من خلال هذه الفعاليات كلها، ترغيب الناس في الآخرة، ونحرِّكَ في القلوب الشوقَ إلى الفوز بالسعادة الأبدية والخوفَ من الخسارة، وأن نسعى في النهاية إلى أن يعي الناس روح الدين.
والحاصل أنه لا بد من جعل الجوامع والجماعات والجُمَع والأشهر الثلاثة المباركة؛ رجب وشعبان ورمضان، وما فيها من ليلة المعراج ونصف شعبان والقدْر، وسيلةً لتوجيه الناس إلى الله تعالى.. إن كل لحظة من هذه الأوقات المباركة مواتية لبلوغ الخلود، فينبغي أن تهدف جميع ما فيها من فعاليات إلى تحقيق الغايات السامية النبيلة.
(*) نشر هذا المقال في كتاب “شد الرحال لغاية سامية”، محمد فتح الله كولن، ترجمة: عبد الله محمد عنتر، د. عبد الرزاق أحمد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2014.