الإنسان لا يملك من حياته إلا اللحظة الحاضرة، لكنه يضيّعها إما بتذكر ما فات، أو بتأمل ما هو آت.. فما فات بعيد لأنه دُفن في مقبرة الأسرار حيث النجاحات الملفتة والأفشال المخجلة، أما الآتي فمنه قريب ومنه بعيد أيضًا؛ قريبه ما كان للإنسان فيه بقية حيث سيقع ويحدث فيه ما يحوِّله إلى ماضٍ، يضاف إلى خزانة الأسرار تلك فيصير بعيدًا، ومنه ما سيكون محالاً؛ وهو الذي يأمله الإنسان في قدوم غده أو يتأمله في أحلام مستقبله، فإما أن يقع الغد ويضِنَّ عليه بتحقيق الحُلْم، أو لا يقع الغد أصلاً.. فهو زمان ليس مقسومًا له أن يُضاف كعدد إلى عمره، ويكون الإنسان قد أفسد حاضره الواقع بالانشغال بمستقبله المتوقَّع.. فلا هو عاش حاضره واستمتع به، وأنَّى يعيش مستقبله غير المقسوم له؟!
فالغيوب الكبرى خمسة؛ يوم القيامة، ونزول المطر، ومحتوى الأرحام، ورزق الغد، ومكان الموت، الواردة في قوله تعالى: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُـنَـزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْـلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَـدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَـكْسِبُ غَدًا وَمَا تَـدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(لقمان:34)، وبتأمُّل الآية نلمس إفساد الإنسان حاضره المتيقَّن بانشغاله بمستقبله المظنون، ونسيانه جزاء الشكر على نعمة يرفل فيها، وجزاء الصبر على نعمة يتغيَّاها؛ لتناسيه غيب وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَـكْسِبُ غَدًا، كما شيَّد دُورًا وقصورًا وحدائقَ وجسورًا، ونسي أن يعمِّر جَدَثًـا يودِّعه فيه أحبَّاؤه.. وقد يطول فيه ثواؤه؛ لتناسيه غيب وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، فقد يموت بمشعر حج، أو بميدان جهاد، أو بسبيل سفر، أو بقاع بحر، أو ببطن حوت، أو بفكِّ سبع.. إلخ، وإما بأرض طاعة، أو بأرض معصية.
إن لحظة الحياة التي تتجلى فيها بذرتها الأولى في الكون، ليست إلا بيد الله الخالق البارئ المصور، كلحظة اهتزاز الأرض بالمطر استعدادًا لدبيب العافية فيها بالإنبات وَيُـنَـزِّلُ الْغَيْثَ، ولحظة إنبات نفس جديدة في القرار المكين وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ. وبما أن كل موجود مفقودٌ، وكل مخلوق هالكٌ، فجعل الله للكائنات موعدًا تقف فيه بين يديه، وصدَّر به الآية إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ؛ لتكون براعة استهلالٍ في البدء بالحديث عن آخر ما يقع من الغيوب، حثًّـا للإنسان على الحرص على حسن الخاتمة في الأمور كلها، والذي لا يتأتى إلا بالانشغال باللحظة الحاضرة، التي عاشها بيقينٍ وتحولت إلى ماض ضمَّ سجلَّه المشرّف، وإن كانت آخر لحظاته فلم يضيّعها بالتعلق بمستقبلٍ لم يُـقسم له فيه عيشٌ.
والخلاصة.. كلُّ فائتٍ بعيدٌ لأنه بمضيِّه خرج عن مِلْـكِ الإنسان، وكلُّ آتٍ قريبٌ لأنه بوقوعه قصيرٌ كعمر الإنسان. فكلُّ مستقبلٍ غيبٌ قد يقع فيكون آخرًا لأناس لا مستقبل لهم بعده، ووهمًا إن عاشوا لحظة حاضرهم وانقطع عدد أنفاسهم وكانوا بالقادم متعلقين وليس لهم.. وقد يكون حاضرًا لأناسٍ ثـم ينمحي بأن يبدده مستقبلٌ أحدثُ، ومهما يعمَّرون فستُستفرغ صفحتهم. إذن على الإنسان ألا يُستدرج بوهم الماضي ماثلاً في قوله “لو فعلْتُ كذا”، وألَّا يُفتن بوهم المستقبل ماثلاً في قوله “سوف أفعل كذا”، وأن يعيش اللحظة الحاضرة فهي مقدار ما يملك، مترددًا بين حاليْن؛ شاكر على موجود، وصابر على مفقود.
على الإنسان ألا يُستدرج بوهم الماضي ماثلاً في قوله “لو فعلْتُ كذا”، وألَّا يُفتن بوهم المستقبل ماثلاً في قوله “سوف أفعل كذا”، وأن يعيش اللحظة الحاضرة فهي مقدار ما يملك، مترددًا بين حاليْن؛ شاكر على موجود، وصابر على مفقود.
وفي الحث على استثمار لحظة الحاضر في فعل الخير، وإن لم يمتدّ أثره في المستقبل، يقول النبي : “إنْ قامت على أحدكم القيامةُ وفي يده فسيلةٌ فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسَها فلْيَغْرِسْها” (رواه البخاري)، فبالرغم من قيام الساعة وانقطاع عمل الإنسان وما يترتب عليه من أجر، فإن الهدْي النبوي دفعه إلى استثمار حياته حتى آخر لحظة حاضرة فيها؛ ليختم حياته بخير وصلاح وإن لم تكن هناك سعةٌ لامتداد أثر عمله في قابل الأيام، فبقيام الساعة قد انتفى المكان والزمان اللذان يمثلان ظرفي العمل والأثر.
إن لحظة الحاضر -وإن بدتْ شفيفة- هي اللحظة الحقيقية في حياة الإنسان، فالماضي يطوِّف عليه خيالاً يتنسَّم منه الذكرى، والمستقبل يتراءى له خيالاً يتشوَّف منه الحُلْم؛ لذا كانت أعين الشعراء هي الأكثر انتباهًا في اقتناص تلك اللحظة، ومن خلالها استنباط حكمة الحياة وتسجيلها.. ويحسن بنا المقام أن نختـتم بأبيات مختارة من قصيدة “مدرسة الحياة” للشاعر اليمني عبد الله البردوني، حيث يقول:
وَالْــمَـــرْءُ لَا تُــــشْـــقِــــيــهِ إِلَّا نَــفْــسُــهُ
حَـاشَـا الْــحَـــيَــاةَ بِــأَنَّـهَــا تُـــشْــقِـــيـهِ
مَا أَجْهَـلَ الْإِنْسَانَ يُضْــنِي بَـعْـضُهُ
بَـعْــضًـا وَيَـــشْـكُـو كُـلَّ مَا يُــضْـنِــيهِ
وَيَــــظُـــــنُّ أَنَّ عَـــــدُوَّهُ فِـــي غَـــــيْــــرِهِ
وَعَدُوُّهُ يُــمْـسِـي وَيُــضْحَــي فِــيهِ
غِـــرٌّ وَيُـــدْمِــي قَـــلْــبَـهُ مِــــنْ قَـــلْــبِـهُ
وَيَــقُـولُ: إِنَّ غَـــــرَامَـــهُ يُــــدْمِــــيــــهِ
غِـــرٌّ وَكَـمْ يَــسْــعَـى لِــيَــرْوِي قَــلْــبَـهُ
بِـهَـــنَـا الْـحَــيَـاةِ وَسَـعْـــيُـهُ يُــظْـــمِــيـهِ
وَلَــكَـمْ يُـسِـيءُ الْـمَــرْءَ مَـا قَـدْ سَــرَّهُ
قَـبْـلاً وَيُــضْـحِـكُــهُ الَّـذِي يُــبْـــكِـــيــهِ
مَـا أَبْـــلَــغَ الـدُّنْــيَـا وَأَبْـــلَــغَ دَرْسَــهَـا
وَأَجَــلَّـــهَــا وَأَجَـــــلَّ مَــــا تُــــلْــــقِـــــيـــهِ
كَـــمْ آدَمِـــيٍّ لَا يُــــعَــــدُّ مِـــنَ الْـــوَرَى
إِلَّا بِـــشَــكْــلِ الْـجِــسْــمِ وَالــتَّـشْـبِــيـهِ
قُـمْ يَا صَرِيعَ الْوَهْمِ وَاسْأَلْ بِالنُّهَى
مَـا قِــيـمَـةُ الْإِنْــــسَـانِ؟ مَـــا يُـعْـــلِــيـهِ؟
وَاسْــمَـعْ تُـحَــدِّثْـــكَ الْـحَــيَـاةُ فَــإِنَّـهَــا
أُسْـــتَـــاذَةُ الـــتَّـــأْدِيـــبِ وَالــتَّـــفْـــقِــــيــهِ
وَانْـصِـتْ فَـمَـدْرَسَـةُ الْحَـيَـاةِ بَـلِـيـغَـةٌ
تُــمْــلِـي الـدُّرُوسَ وَجَــلَّ مَـا تُــمْــلِـيـهِ
سَلْهَا وَإِنْ صَمَتَتْ فَصَمْتُ جَلَالِهَا
أَجْــلَـى مِـنَ الـتَّــصْــرِيـحِ وَالـتَّـــنْــوِيــهِ
ولقد اقتضتْ سنة الله في خلقه، أن تنتهي حياة الإنسان بالموت، ولعل انضباطه في حياته يكمن في عدم الغفلة عن حتمية تلك السـنَّة الكونية، فيستـثمر لحظته الحاضرة التي ما إن تنقضي فتسطر صفحة في كتابه، وألَّا يعلق قلبه بالمستقبل كثيرًا، فالمسوِّفون مستدرَجون بوهم الخلود؛ لذا كان الخطاب القرآني حول قضية الموت توجيهيًّا للبشر أجمعين، في قوله تعالى: وَاتَّــقُوا يَوْمًا تُـرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُـمَّ تُـوَفَّى كُلُّ نَـفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْـلَمُونَ(البقرة:281).
والتعبير عن الاستغراق بالمركَّب الإضافي كُلُّ نَفْسٍ، حيث تصدَّرَتْه لفظة (كُلٍّ= المضاف) التي تفيد الشمول والعموم، ولفظة (نفسٍ= المضاف إليه) النكرة التي تفيد الشمول والعموم أيضًا؛ فيستغرق الخطابُ كلَّ نفسٍ كما يستخدم التكرار، فيتشابه صدر الآية ويختلف عجزها، في قوله تعالى: كُلُّ نَـفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُـوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْـقِـيَامَةِ(آل عمران:185)، وقوله تعالى: كُلُّ نَـفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَـبْـلُوكُمْ بِالشَّـرِّ وَالْخَيْرِ فِـتْــنَةً(الأنبياء:35)، وقوله تعالى: كُلُّ نَـفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُـمَّ إِلَـيْـنَا تُـرْجَعُونَ(العنكبوت:57).
وقد يستغرق الخطابُ الظرفَ المكاني الذي يقلُّ هذه النفس الفانية، أيْ كلَّ مَنْ في الأرض، في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْـقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(الرحمن:26-27)، وإن كان الاستغراق يشمل النفوس فإنه لا يستـثـني الأرواح، ويشمل أهل الأرض ولا يستـثـني أهل السماء، مما جعله يستغرق (كلَّ شيءٍ) التي هي أنكر النكرات، في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُـرْجَعُونَ(القصص:88)؛ لتـتصف الذات العلية وحدها دون سواها بالخلود.
فمن العبث أن تـتعلق ذات الإنسان الفانية بوهم الخلود، ومن الحكمة أن يعمد إلى حسن الخاتمة لرحلته الدنيوية، وفي هذا يقول الشاعر السعودي أحمد بن مصلح البركاتي:
تَــدَارَكْ مِـنْ عُــمَــيْـرِكَ مَـا تَــبَـقَّى
فَــإِنَّ الْــعُــمْــرَ ذُو أَجَــلٍ قَــصِــيــرِ
وَخُــذْ مِـنْ هَــذِهِ الـدُّنْــيَـا مَــتَـاعًـا
فَـبَـعْـدَ الْمَـوْتِ يَا طُولَ الْـمَـسِـيـرِ
جُدُودُكَ فِي التُّرَابِ قَضَوْا دُهُورًا
وَكُـلُّ الـنَّاسِ فِـي هَـذَا الْـمَـصِـيـرِ
فَـمِنْهُـمْ مَــنْ يُــنَــعَّـــمُ فِـي جِــنَـانٍ
وَمِـنْهُـمْ مَنْ يُـقَــلَّـبُ فِي السَّـعِـيـرِ
تَـعَـلَّـقْ بِـالـرَّجَـا وَلْــتَــخْــشَ ذَنْـبًـا
وَلُــذْ بِاللهِ ذِي الْـفَــضْــلِ الْـكَـبِــيــرِ
وَسَــلْ مَـــوْلَاكَ خَـاتِـمَـةً بِــخَـــيْــرٍ
فَـــإِنَّ الْــحَــــقَّ خَــاتِـــمَــةُ الْأُمُــــورِ.
(*) كلية الآداب، جامعة بني سويف / مصر.