ليس كشريعة الإسلام شريعة أنصفت الإنسان كمخلوق كرمه الله ورفع شأنه وفضله على كثير من خلقه، فصار مكرمًا في ذاته البشرية، بكينونته التي تحمل كل الخصال المنتمية للسماء بحكم نشأة الروح التي هي من أمر الله، وكل الصفات المادية النابعة من الأرض والتي تهبه القدرة على الحركة فيها، إما لعمارتها والامتثال لأمر خالقه، وإما لتخريبها والجنوح لأوامر عدوه الأول والذي كان سببا في خروجه من جنة الخلد بجوار ربه في فجر الخليقة.
إنما النساء شقائق الرجال
وقد ميز الله عز وجل خلقته تلك بأمانة أشفقت منها المخلوقات جميعها أمانة “الاختيار” و “الحرية” والسير في السبيل الذي بينه الله بإرادته الكاملة، وله أن يختار بعد أن بين الله له معالم الطريق وعرفها له، وفي كل آيات التكليف لم يميز كلام الله بين رجل وامرأة، وفي قليل من الآيات خص خطابًا مفصلاً لهما، ليس للتفريق، وإنما لتأكيد المساواة الإنسانية لكليهما.
فكلاهما إنسان كامل الأهلية
كلاهما يحمل كل صفات القدرة على البقاء
كلاهما يحتاج إلى الآخر لإكمال المهمة المنوطة بهما معا
هما كالنهر والبحر يتكاملان ويسيران في دورة غير منتهية لحفظ الحياة على الأرض فلا غنى للأرض عنهما معا، وهما معا لازمان لإضاءة الكون، لكنك تستطيع أن تقول كلاهما الشمس، وكلاهما القمر، وهما كالصيف والشتاء لا تستقيم حياة بغير تتابعهما. فإن كان للشتاء فضل فكذلك لشمس الصيف.
هو في ذاته إنسان مكلف يحمل رسالة سماوية بالسعي في الأرض وتبليغ كلمة الله وإعلاء رايتها. وهي في ذاتها إنسان يحمل نفس الرسالة مكلف فمثاب أو معاقب.
تعطيل متعمد، أم أخطاء تاريخية؟
أصبحت فكرة التغيير الحضاري والتغيير المجتمعي في بلاد المسلمين ضرورة حتمية، ترقى لأن تكون واجب الوقت لإنقاذ ليس المسلمون وحدهم، وإنما إنقاذ العالم من تغول المادة وغياب الجانب الإنساني مما يهدد استمرار الحياة على الأرض، وتقتضي استثمار كافة الجهود الموجودة على الساحة للعمل على تلك المهمة، فهل يمكن تحقيق فكرة بهذا الحجم بمؤسسات وتنظيمات تخلو من مشاركة واعية وحضور قوي لنصف طاقة المجتمع أو أكثر بما يتناسب مع ما تمثله المرأة في المجتمع والأمة؟ هل يمكن أن يحدث ذلك التطور المجتمعي والحضاري المنشود بتنظيمات ذكورية، بينما المرأة مستثناة تمامًا من أي مشاركة فاعلة مهما كان حجم تلك التنظيمات طولاً وعرضًا؟
لقد أثارت قضية المرأة المسلمة جدلاً واسعًا بين أهل الفقه وأهل الحديث والمتنورين والمجددين والسلفيين وغيرهم، منهم من غالى في مسألة دور المرأة وحقوقها، ومنهم من قصر لدرجة أن أفتي بتحريم تعليمها أو خروجها من بيت أبيها إلا لبيت زوجها ثم للقبر، مستندين في ذلك لأقوال وأسانيد مبتورة كقاعدة لا تقربوا الصلاة، وبين التفريط والإفراط ظلت قضية المرأة مجرد جدالاً لغويًّا، ومؤتمرات تعقد وتنتهي بتوصيات تكرر في كل مرة، فلا المرأة حصلت على حقوقها، ولا المجتمع استطاع أن يوظفها كما يجب ليجدد ذاته من خلال إمكاناتها وطاقاتها الكامنة.
ولسنا هنا في معرض استعراض التاريخ الإسلامي لإثبات مكانة المرأة وقدرتها على مشاركة الرجل بما منحها الله عز وجل من تحرير وحرية بعد الظلم والقهر الذي تعرضت له في الحضارات المختلفة قبل قدوم الإسلام لتحرير الإنسان ككل، ولست هنا كذلك لتوصيف واقع انحدرت به الأمة في كل مناحيها بعد مرور العالم الإسلامي بفترات انحطاط فكري وهبوط حضاري، تلك الفترات لم تؤثر على وضع المرأة ومكانتها في الأمة والنظرة إليها وحسب، وإنما أثرت في هبوط إنساني شمل الرجل والمرأة، هذا غير هبوط مستوى المنتج الحضاري، وفي تلك الفترات اكتسبت المرأة أوصافًا وقوانين فرقت بينها وبين شقيقها الرجل، فحرمت من تحصيل العلم، وارتياد المساجد، والعمل، ثم بدأت الحركة الإسلامية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ليظهر الطهطاوي ثم الأفغاني ثم محمد عبده ورشيد رضا وخير الدين التونسي الذين اهتموا بحقوق المرأة اهتمامًا خاصًا.
كانت تتنزل الآيات المباركات على نبي الإسلام فيسرع الرجل لبيته يعلم زوجته وأهله القرآن، وكان الرجل يعود فتسأله زوجته عما نزل من آيات. ليس على سبيل الرفاهية أو الثقافة العامة، وإنما الأمر كان ملزمًا للنساء كما كان ملزما للرجال.
إن دعوة الإسلام أتت بتكليف الإنسان “رجلا وامرأة” بالفهم والتطبيق وحمل أمانة الدعوة، ولم يكن تحرير الإنسان الذي أتى به الإسلام والذي أخبر به ربعي بن عامر لقائد جيش الفرس حين سأله عما جاء بهم ومن هم فقال: “نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من يشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”، لم تكن رسالة التحرير تلك حكرًا على الرجل، وإنما هي لتحرير الرجال والنساء على السواء، وكذلك يقوم بها النساء والرجال على السواء.
أين المرأة في الحركة الإسلامية المعاصرة
وحين نرصد وضع المرأة المتأزم في الفكر الإسلامي المعاصر نجد وللأسف الشديد أن من يعبر عن تلك المشكلة أقلام الرجال وليس النساء، وكان الأولى أن تقوم المرأة نفسها بتصدر مشهد المشكلة على اعتبار أنها الأقدر على فهم ما تعانيه خاصة، وما يمكن أن تعطيه للأمة على وجه العموم.
وكان النتاج بعيدًا عن الموضوعية في نقل المشكلة، وبعيدًا عن الجدية في وضع الحلول لتكون مجرد نظريات وتوصيات غير قابلة للتطبيق.
والحركة الإسلامية هي جزء من المجتمع الإسلامي الكبير، تأثرت ببعض التقاليد البالية والتي نشأت في فترات الانحطاط والتخلف، بل واختلطت العقيدة بالتقاليد والعادات المتوارثة وأصبح البعض يراها دينا يجب إتباعه، منها على سبيل المثال بعض مظاهر الاستبداد، والنظرة العامة إلى المرأة، فقد حاولت الحركة الإسلامية القيام بحركة تطوير وتجديد وظلت فكرة تطوير ملف المرأة بعيدًا عن حركة التجديد تلك، فأبعدوها عن مراكز القيادة واتخاذ القرار، على عكس ما كانت عليه في دولة النبوة وحكم الراشدين، حيث شاركت الرجال في تحمل تبعات إيمانها منذ اللحظة الأولي لتكون أول دماء في الإسلام هي دماء “سمية بنت خياط”، وكلفت بالهجرة إلى المدينة مثل شقيقها الرجل فرارا بدينها، وبايعت النبي صلي الله عليه وسلم في الوقت الذي لم تبايع فيه النساء قادة الحركة الاسلامية حتى الآن بحجج واهية، وشاركت في الحروب، وأخذ بمشورتها في مواقف شديدة اختلف فيها كبار الصحابة، وأجير من أجارت “أم هانئ” في فتح مكة، أي أنها قامت كفرد بما تقوم به الدول اليوم والمؤسسات الكبرى.
والمأساة الكبري أن تجد مراكز صنع القرار في تنظيمات إسلامية كبيرة مثل مجالس الشورى والمكاتب التنفيذية والإدارية تقتصر عضويتها على الرجال الذين يضعون السياسات الخاصة بالرجال والنساء معًا، فبأي منطق أنَّ المسؤول عن مناهج التربية للفتيات أو النساء يضعه الرجال؟ وفي أي عقيدة أو مذهب تستبعد المرأة عن القيام بمسئوليتها نفسها ووضع مناهج تربية بناتها وحتي أبنائها!؟
ولم تلتفت الحركة الإسلامية لتلك المشكلة إلا مؤخرا حين ظهرت الحاجة إليها في أوقات المحن التي تعرضت لها الحركة، ويعلل البعض ذلك بأنه لا توجد الكوادر النسائية المؤهلة لاحتلال تلك الوظائف وفرض نفسها على الساحة، في حين لا يعترف هؤلاء أن كم المعوقات التي توضع أمام المرأة كي تؤهل أو تفرض ذاتها كبير، منها المناهج المقدمة لتأهيلها، ومنها أن اعتراف الرجل بها غير كاف.
أمر آخر وهو أن المطالبين بتجديد مكانة المرأة في الحركة قد حصروها فقط في العمل النسائي، على عكس ما حباها الله به من قدرات وطاقات تستوعب الكثير من المجالات ومنها ما لا يحتمله شقيقها الرجل.
مسئولية المرأة في تلك الإشكالية
الحقوق لا توهب، الإسلام وضع قواعد التعامل الإنساني حقًا وواجبا للإنسان ككل، وعلى كل إنسان أن ينتزع ذلك الحق ممن يمنعه، ويفرضه فرضًا، والمرأة كما كانت جزءًا من المشكلة باستسلامها للوضع القائم عبر العصور حتى تحولت لإشكالية، يجب عليها هي أن تنتفض وتعي حدود أزمتها وتبادر وتضع حلولا لها ولا تنتظر أحد أن يتحدث عنها باعتبارها الأكثر قدرة على فهم طبيعة خلقتها.
إن على المرأة أن تنتزع ليس ما يسميه البعض حق، ولكنه في حقيقته واجب، يجب عليها أن تقوم بواجبها تجاه أمتها ودينها وذلك ببعض الإجراءات :
1ـــ أن تقوم المرأة المسلمة بتأهيل ذاتها بنفسها، تأهيلا جامعًا يتوافق مع احتياجاتها أولا، واحتياجات أمتها ثانيا، بغير انتظار تشجيعا من الرجل أو تقديم مساعدة منه، فالخطاب القرآني كان مباشرا لها وله على السواء، فليس عليها طلب المساعدة فيما يخصها، بل القيام بالعمل الفعلي وفرض ذلك على مجتمعها وحركتها.
2ـــ أن تقوم المرأة بوضع تصور واضح يخص قضيتها، خاصة بعد أن خاضت كل التخصصات العلمية بدءا من العلوم الطبيعية ومرورا بالعلوم الشرعية وانتهاءً بأعلى الدرجات العلمية في معظم التخصصات، فهي لا تفتقر للكوادر القادرة على صنع التحول المطلوب، وقد آن لها أن تكف عن المطالبات والشجب والانتظار، وتفرض التصور الفقهي الواضح الذي يخرجها من دائرة المتفرج المنتظر، تصورًا يقدم حلا واقعيًّا مستمدًا من روح الشرع ومسايرًا لواقع الأمة، بل والعالم، يعبر عن العمق في الفهم والشمول المعرفي، وأن يكون ذلك بتعاون نسائي داخلي لا نسائي رجالي، تتعاون فيه صاحبات الفكر على مستوي العالم العربي والإسلامي لتكون الفكرة أوقع وأكثر عمقًا، مستفيدين في ذلك من التجارب المتعددة الواقعية تاريخيا وواقعيا، ومن العقول المختلفة في كافة أنحاء العالم الإسلامي المترامي الأطراف، والمفكك جغرافيا وفكريا، والتجربة العملية للمرأة في القرن الأخير تعطيها الخبرة الكافية والقدرة على وضع ذلك التصور وفرضه على الواقع العام.
3- على المرأة المسلمة أن تعرف معنى التوازن بين حياتها كزوجة ودورها في الحياة العامة، فحال المرأة الواعية قبل الزواج يختلف عما بعده بمراحل، وكأن شخصيتها تتبدل واهتماماتها تتغير بصورة كبيرة، فتكون مجرد تابعة للرجل، تتخلى عن عقلها وفكرها وحيويتها لتصير منفذا لفكره، أو تحصر اهتماماتها لتتحرك في نطاق لا يتعدى جدران البيت، وقليل جدا من تستطيع أن تتفادى الوقوع في ذلك الفخ إن أسميناه مجازًا بهذا الاسم، ولذلك لا نجد أسماء مبدعات في المجالات المختلفة إلا معدودات على أصابع اليد الواحدة، تكون الواحدة منهن قد تجاوزت مرحلة الشباب من العمر وذلك لانشغالها في بداية الحياة بأعباء البيت كاملة منفردة، ولا أنكر أن المرأة في ذلك الوقت تحتاج لمعاونة الزوج لكي تتخفف قليلا من تلك الأعباء طالما رأت عندها القدرة على الفكر والعمل والإبداع.
لقد آن الأوان أن تقوم المرأة بالتكليف الموكل إليها من السماء، وآن للقائمين على هذا الأمر الاعتراف بقدرتها على الصمود والثبات والتجديد والإبداع إن هي توفرت لها أجواء الحرية المناسبة.