ماذا تعني التكية؟
لفظة “تكية” نفسها غامضة الأصل، فيها اجتهادات متعددة؛ فالبعض يرجعها إلى الفعل العربي “اتكأ” بمعنى استند واعتمد، خاصة أن معنى كلمة “تكية” بالتركية “الاتكاء والتوكل”، ومن هنا تكون التكية بمعنى الراحة والاعتكاف.. إلا أن المستشرق الفرنسي “كلمان هوارد” يرى أن الكلمة أتت من الفارسية بمعنى “جلد الغنم”، مستندًا في ذلك إلى أن الكثير من الزهاد والعباد كانوا يجعلون من جلد الغنم أو غيرها من الحيوانات، شعارًا لهم -سواءً في الملبس أو الفراش- ودليلاً منهم على الزهد والانقطاع للعبادة، وترويض النفس والروح على مجاهدة الملذات، والسمو بها عن دنايا الدنيا.
دور التكايا في الرعاية الاجتماعية
لقد لعبت التكايا دورًا مهمًّا في تاريخ الحضارة الإسلامية، حيث كانت تحفظ ماء الوجه وكرامة الفئات غير المقتدرة، على نحو ما يحدث الآن من جمعيات خيرية، ودُور رعاية اجتماعية، ودُور ضيافة ونزل للغرباء، من خلال توفير المأوى والغذاء بدون طلب، لمن لا يستطيع لأي ظرف كان، حيث كان من العادات المعروفة التي اشتهرت بها هذه التكايا، صرف “الجراية” عليهم بعدد أرغفة محددة لليوم الواحد والطعام الموحد، مع إعطاء مصروف لليد. فهي من عمارة الخير أو العمارة الخدمية الإسلامية التي ارتبطت بإطعام وسقاية الناس والدواب وعابري السبيل، إلى جانب رعاية المتصوفة والزهاد واليتامى، وإيواء الغرباء وكسوتهم وتطبيب المرضى وعلاجهم. وقد حظيت بدعم ورعاية السلاطين والأمراء والأغنياء والتجار والأشراف، كمظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي الشعبي.
بين التكية والخانقاه
يرجع تاريخ ظهور التكايا إلى العصر العثماني، حيث ظهرت في الأناضول خاصة، ثم انتشرت في الولايات التابعة للدولة العثمانية عامة. ويرى علماء الآثار والعمارة الإسلامية، أن التكايا تطورًا للخانقاه التي كانت في العصر الأيوبي، واستمرت وازدهرت في العصر المملوكي، لتقوم التكايا بنفس الوظيفة التي كانت تقوم بها الخانقاوات، أما عن الطراز المعماري للتكية فهي تتكون من قاعة داخلية واسعة تسمى الصحن، وقاعة السمع خانة، وتستخدم لحلقات الذكر والصلاة، بجانب غرف ينام بها المتصوفة من الزهاد والعباد، وغرفة لاستقبال العامة، وقسم مخصص للحريم من عائلات المتصوفة، كما يوجد بها قاعة طعام جماعية ومطبخ ومكتبة وحمام. وتتشكل أسقف التكايا من قباب متفاوتة الحجم تكون في حجرة الدرس كبيرة، أما قباب سكن المتصوفة والعباد فأقلّ ارتفاعًا منها. وتتشابه التكية مع الخانقاه في إقامة حلقات للعلم، لكن الدراسة بها ليس إجبارية، فلا تقام فيها دراسة منتظمة وإن لم يخل الأمر من حلقات للعلم ودروس للوعظ والإرشاد، في حين أن الدراسة في الخانقاه كانت إجبارية، ويتولى التدريس بها كبار العلماء والفقهاء، وتمنح الدارسين إجازات علمية. كما أنه يختلف تصميم التكية المعماري عن عمارة الخانقاه، فبينما يحتوي الاثنان على صحن (فناء مكشوف مربع)، إلا أنه تحيط بصحن الخانقاه إيوانات تستخدم لعقد حلقات الدراسة، وهذه الإيوانات تتعامد مع الصحن المربع، وفي أركان هذا المربع توجد خلوات للمتصوفة والزهاد، أي أماكن وحجرات سكنية خاصة بهم.
أما التكية فهي في جميع الأحيان عبارة عن صحن مكشوف يأخذ الشكل المربع، تحيط به من الجوانب الأربعة أربع مظلات، كل مظلة مكونة من رواق واحد، وخلف كل رواق توجد حجرات المتصوفة السكنية، وهذه الحجرات دائمًا ما تتكون من طابق واحد أرضي.. أما الخانقاوات فقد تتعدد الطوابق لتصل إلى أربعة، وليس للتكية مئذنة ولا منبر، وتوجد بجهة القبلة حجرة صغيرة بها محراب للصلوات، أو لاجتماع حلقات ذكر. وهكذا نجد أن عمارة التكية تكون مستقلة بذاتها، أما الخانقاه فقد تضم المنشأة جامعًا أو مدرسة وخانقاه في آن واحد.
أشهر التكايا في التاريخ
قد انتشرت التكايا في العديد من المدن والحواضر العربية والإسلامية، وبلغ الاهتمام بها ذروته إبان العصر العثماني، حيث ازدادت بشكل كبير. وسميت التكايا بالعمارات، وهي المكان الذي يقيم فيه طلاب العلم في الدولة العثمانية، ويتناولون فيه طعامهم ويوزع منه كذلك على الفقراء، حيث نالت هذه التكايا مكانة خاصة في الحياة الاجتماعية. وقد أسس العثمانيون عمائر كثيرة في أماكن تواجدهم، وأوقفوا لها أوقافًا للمساعدة على استمرارها في رعاية المحتاجين وطلاب العلم، كما جعلوا لها نظامًا دقيقًا في المأكل والمبيت، ومباشرة ضروب العبادة من صلاة وذكر لله .
وتذكر بعض المصادر التاريخية، أن هذه التكايا قد انتشرت في مدينة إسطنبول انتشارًا كبيرًا، ووفق تقديرات إحصائية لتكايا إسطنبول سنة ١٦٤٠م، فإنها بلغت حوالي ٥٥٧ تكية، من أشهرها التكية السليمانية التي تعد من أشهر الأعمال المعمارية في التاريخ العثماني كله. وتم اختيار موقعها على قبة بربوة عالية على مضيق “البوسفور”، وهي تتكون من مسجد كبير ودار لإطعام الفقراء والمحتاجين، ومدرسة للطب وحمام وكتاب للصغار، مع أربع مدارس عالية لتدريس علوم الطب والآثار الإسلامية وعلوم الإسلام. وتكية خان المولوي في منطقة غلاطة، وهي أول تكية مولوية أنشئت في المدينة، وتشتمل على مئة غرفة، والآن أصبحت متحفًا للأدب العثماني. وأيضًا تكية التربة خانه التي عدت أشهر تكية مولوية، وقد أصبحت خلال القرن الثالث عشر صرحًا ضخمًا يحتوي على مسجد، وقاعة للذكر الصوفي، ومدرسة، ومضيفة للغرباء وعابري السبيل.
كما اشتهرت القاهرة بكثرة تكاياها، ونذكر من أهمها تكية وقبة الكشني بشارع تحت الربع، وتكية السلطان محمود بشارع بورسعيد، وتكية الرفاعية ببولاق أبو العلاء، والتكية السليمانية التي أنشأها الأمير العثماني سليمان باشا بالسروجية، وتكية محمد أبو الذهب بالأزهر، وتكية السيدة رقية، وتكية الخلوتية بمدينة فوة، وغيرها من التكايا التي اشتهرت بها مصر خلال ذلك العصر.
كما انتشرت هذه التكايا في بلاد الشام كنوع من التكافل الاجتماعي، ونذكر منها تكايا مدينة دمشق، وحلب، ودير الزور، والدار العلائية في مدينة اللاذقية. والتكية المولوية في مدينة القدس وتكايا مدنية الخليل، وفي لبنان عرفت التكية المولوية في مدينة طرابلس، كما عرفت مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، وجود تكايا لخدمة الفقراء والمحتاجين في الحرم المكي من جميع الشعوب الذين لا يجدون مأوى ولا طعامًا، فضلاً عن خدمة أهل البلد أنفسهم.
وفي كتاب “مرآة الحرمين” لإبراهيم رفعت باشا، يحدثنا عن التكية المصرية في الحجاز، يذكر أن عدد الأشخاص المستفيدين من التكية كان يبلغ في الأيام العادية أكثر من ٤٠٠ شخص، ويرتفع العدد في شهر رمضان إلى أكثر من أربعة آلاف شخص في اليوم الواحد، فضلاً عن موسم الحج، وكانت وجباتها مرتين يوميًّا صباحًا ومساءً، وتزيد الكميات كل يوم خميس وطوال أيام شهر رمضان المبارك، وأيام الحج، وكان يشرف على التكية ناظر ومعاون وكتبة لخدمة الفقراء والمحتاجين. وكانت هذه التكية تتكون من طاحونة لطحن القمح، ومطبخ به ثمانية أماكن يوضع عليها ثمانية أوان من الحجم الكبير، بجانب مخبز لتوفير الخبز ومخزن، وحجرات للنزلاء والمستخدمين، وبِرْكة مياه وفيها حنفيات وأماكن للوضوء، إضافة لوحدة صحية فيها كبار الأطباء المصريين، خاصة في موسم الحج، لمعالجة المرضى الفقراء مجانًا، سواءً من المقيمين أو الوافدين.
وظلت التكايا تؤدي دورها في رعاية الفقراء والمحتاجين، حتى قيام الحرب العالمية الأولى، حيث أصابها الإهمال ثم الاندثار، وإن بقيت بعض مبانيها شاهدة إلى اليوم بأنها أدت أدوارًا مهمة، وتركت آثارًا عظيمة على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، لتشهد بالدور الريادي لحضارتنا الإسلامية في رعاية غير القادرين.
(*) كاتب وباحث مصري.