أول مسألة لا بد أن يفكر فيها مَن يُقدم على الزواج، هي البحث عن شريك حياة يتناسب معه في مشاعره وأفكاره. فكثير من الشباب الآن يقيّم هذا الأمر الحيوي بعواطفه ليس إلا، ويسعى إلى تأسيس عش للزوجية فور تعرفه على فتاة التقى بها في الشارع أو السوق، ولا يحاول أن يسأل نفسه: من هي؟ وما محاسنها؟ وما مساوئُها؟ وما المنطق الذي يُعتمد عليه في الزواج وتأسيس عش الزوجية؟ بل يتغاضى عن كل ذلك. وبدهي أن مثل هذه الزيجات تكون عاقبتها وخيمة، ولو أنهم تريّثوا واستعانوا برأي غيرهم، ممن يقيّمون المسألة تقييمًا أفضل وبمعايير أدقّ، لكان أنفع.

إن الزواج الذي يعتمد على العاطفة، قد يتحول من عش يُرجى منه أن يكون روضة من رياض الجنة، إلى عش يؤول إلى حفرة من نار. وهناك الكثير ممن نعرف ثباتهم وحماسهم وعشقهم لِدينهم، يعيشون في أزمة عميقة وفوضى كبيرة منشؤها عدم الحيطة في هذه المسألة، وعدم التوافق بين الزوجين.

فالمشاكل والنزاعات لا تنتهي في مثل هذه الأسر، بل تتوالى تباعًا، فالرجل يريد أن يلتزم بدينه، والمرأة لا تريد، والعكس صحيح. ومن ثم فإن مثل هذا الرجل وتلك المرأة لن يتوافقا أبدًا في أسرة واحدة، ولا يمكنهما أن يتشاركا في عش واحد، بل على العكس، يعيشان كالقطبين المختلفين دائمًا. ففي مثل هذه الأسرة يُقرأ نوعان مختلفان متضادان من الكتب، ونوعان من الجرائد، ونوعان من القصص، ويُعقد نوعان من الاجتماعات الأسرية؛ فالمرأة تريد شيئًا والرجل يرفض، والمرأة تتكلم عن الدين والإيمان والأخلاق، والرجل يتخذ هذا ذريعة للنزاع والشجار.. ففي مثل هذه الأسر طِرازان مختلفان من الحياة، إن جاز لنا أن نسميها حياة أصلاً.

وأحيانًا ما ينحاز الأطفال في هذا التضارب والصراع إلى طرف دون آخر، وأحيانًا يفقدون مشاعرهم وأحاسيسهم بين هاتين الجبهتين ويقفون موقف العداء للمجتمع والأسرة، وهنا تضيع بوصلة الأبناء، ويغرقون في بجار التيه والحيرة والتشتت، ويقتل الطفلُ عالمه المعنوي وهو يفكر؛ إلى أيٍّ من الطرفين أنحاز؟ هل أقف مع أبي ضد أمي؟ أم أقف مع أمي ضد أبي؟ وكلا الأمرين صعبٌ على نفسية الطفل وعوالمه المعنوية اللطيفة.

والأنكى من ذلك أن الطفل إذا اهتدى بفطرته إلى حل وسطٍ يخرجه عن الاصطفاف بصفِّ أحدهما ويبقى منهما على مسافة واحدة، فإن كل واحد من الأبوين يستميل قلبه ويحاول استعطافه وجعلَه في صفه ضد الطرف الآخر، وهم لا يعرفون أنهم بذلك يمزقون ابنهم من الداخل، ويقطعون أوصاله ويجعلونه في خواء معنوي سيفضي به في النهاية إلى مرض نفسي وكرهٍ للأسرة والعائلة، ونفور محتّم من المنزل، وعدم استجابة لتوجيهات الأبوين مستقبلاً مهما كانت صادقة.

بناء على ذلك، فإن من الواجب على الرجل والمرأة حين الإقدام على الزواج، أن يُمعنا التفكير في الأمر، ويستشيرا ذوي الخبرة، ويحدّدا جيّدًا أسباب الأفضلية.

كيفية اختيار الزوجة

اختيار الزوجة الصالحة والزوج الصالح، من أهم الأمور في الحياة. والكفاءة في الزواج ومراعاة فروق الاختلاف بين الناس أمرٌ مطلوب، ويعين على استقرار البيوت. وفي هذا الحديثِ يقول النبي : “تَخيَّروا لِنُطَفكم، وانكِحُوا الأكفاءَ، وأنكِحُوا إليهم”.

“تَخيَّروا لنُطَفِكم”، أي: تخيروا من النساء ذوات الدين والصلاح، وذوات النسب الشريف؛ فلا تضعوا نُطَفَكم إلا في أصل طاهر، والنطفةُ الماءُ القليل، ويريد هنا المَنِيَّ، والمراد تخيُّرُ المناكِح، فلا تختاروا إلا كفُؤًا. “فانكحوا الأكفاءَ”، أي: الأمثال لكم، يعني: زوِّجوا مَن هو مِثلٌ لكم في النسَب، والمكانة، والمعيشة، والدين، وغيرها.

“وأنكِحوا إليهم”، أي: زَوِّجوا من تتولونهم من البنات والأخوات أيضًا بالأكفاء، أو اخطبوا بنات الأكفاء لكم ولأولادكم، وهذا يدل على مدى أهمية الكفاءة كنقطة مركزية في عملية الاختيار.

وفي هذا الصدد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تُنكَحُ المرأةُ لأربعْ: لِمالها، ولحَسَبها، ولجمالها، ولدينها، فاظْفَرْ بذات الدين تَربتْ يداكَ” (رواه البخاري).

فالناس يقصدون هذه الأمور والأوصاف في المرأة التي يريدون التزوج منها، وقد دلّنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أفضل الخيارات، وهي ذات الدين.

الزواج من أجل الجمال

نكاح المرأة لجمالها أمرٌ لا يُنكر، بمعنى أن كثيرًا من النفوس تطلبه، والله عز وجل قد شرع لنا أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنظرتَ إليها؟” وحث على ذلك، وجعله سببًا للوفاق بين الزوجين. ولكن حينما يكون هذا المطلوب هو الوصف المنفرد الذي يطلبه الرجل من المرأة دون النظر إلى الدين مثلاً، فإن ذلك يَؤول غالبًا إلى صفقة خاسرة، والسبب هو أن المرأة إذا كانت جميلة ولا تخاف من الله، فقد يكون ذلك سببًا لغرورها.

فكونُ الإنسان يطلب الجمال، هذا أمرٌ لا يُذمّ ولا يُمنَع، ولكن حينما يكون هذا هو المطلوب فحسب دون النظر إلى الدين والتقوى، فإن هذا أمر لا يسوغ بحال من الأحوال؛ فجمالُ الجسم يذهب، ولا يبقى إلا جمال الروح وجميلُ الأخلاق، ومهما تطاولت الأيام والليالي، فلا بد أن ينقشع ذلك الجمال الجسدي، فهو قشرة تتكفل الأيام والسنون بإزالتها وتقشيرها، فتتغير الحال وتذهب تلك النضارةُ والحسنُ والبهاءُ والشباب، ويتحول إلى شيء آخر لربما تعافه النفوس وتنفر منه.

انظر إلى أجمل الجميلات ممن وصلن إلى سن الشيخوخة أو الكهولة أو نحو ذلك، هل بقي من جمالهن شيء؟ لو نظرت إلى كبيرات السن والعجائز في مشارق الدنيا ومغاربها، هل تميّز بين التي كانت جميلة والتي كانت قبيحة؟ كل ذلك قد زال وانتهى. فهذا مثل النار التي ذهب نورها وبقيت حرارتها وإحراقها إذا كانت سيئة الخلق قليلة الدين، كما قال الله تعالى وإن كان المثل في شيء آخر، لكن الشيء بالشيء يذكر: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ)(البقرة:١٧)؛ أي: كمثل الذي أوقد نارًا ليستنير بها، فلما استفاد من إضاءتها “ذهب الله بنورهم”، وما قال: بنارهم، فقد ذهب النور والإضاءة، وبقيت الحرارة والإحراق، وهكذا الذي يتزوج جميلة لجمالها فقط.

الزواج من أجل الحسب والنسب

الحسب هو مآثر الإنسان، والأعمال التي قام بها، وما يعتد به الإنسان ويحسبه عند المفاخرة أنا فعلت وأنا فعلت، وأنا توليت المنصب الفلاني، والمنصب الفلاني.. والحسَب يدخل فيه النسب، الأجداد، الآباء، ما له من نسب.. والمقصود -أيًّا كان- إذا تزوج الرجل المرأة لمنصبها أو لحسبها ونسبها، دون أن ينظر إلى الدين، فإنها قد تترفع عليه، ومن يتزوج امرأة هي فوقه في المنصب والمرتبة والنسب والشرف، لا يسلم في غالب الأحيان من مثل هذه الأعاصير، وإذا كانت هذه الأمور كامنة في النفوس، فقد تظهر في أوقات الخصومة، وكلمةٌ واحدة تُقال يمكن أن تغير ماء البحر كاملاً، تُقال في حقِّه من أبيها، أو منها، أو من أخيها.. كلمة واحدة تكدر حياته وتجعلها كئيبة، يُلمز بها في نسبه أو في حسبه أو في بلده.. ولذلك فالإنسان إذا أراد أن يتزوج يحرص على إيجاد امرأةٍ مشاكلة له لا تترفع عليه، لا تشعر أنها فوقه، وهذا هو مضمون ما نص عليه فقهاء المسلمين من اشتراط الكفاءة في الزواج.

الزواج من أجل المال

وكذلك قضية المال، يتزوجها لمالها.. أكثر مشاكل الناس اليوم بسبب المال، تزوجها من أجل مالها، يعرف أن هذه المرأة عندها مال، إما موظفة، أو عندها ميراث أو نحو ذلك، يتزوج، فإذا تزوج أصبح عبدًا لها ولمالها. ومن يقع في هذه الورطة يفقد رجولته، وتضيع شخصيته، ويفقد القوامة التي فطر الله الناس عليها في قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)(النساء:٣٤). ومن تزوج المرأة لمالها فَقَد القوامة عليها، وَفَقَد صفة القائد في البيت التي فطره الله عليها. أما الرجل الأصيل فهو الذي لا ينظر إلى المال ولا يرضى أن يضع نفسه هذا الموضع.

الزواج من أجل الدين

هذه الأخيرة من صفات الصحابة؛ فهذا هدف أهل الإيمان، “فاظفر بذات الدين تربت يداك”؛ فالزواج بذات الدين هو الزواج الناجح، وإلا أحاط بالإنسان سوء النتيجة وخسران البضاعة، كمن يسعى طويلاً ويعمل كادحًا، ثم لا يجد في يديه شيئًا غير التراب.. تربت يداك إذا تزوجت بواحدة من أجل مالها، يقول: “لا تزوَّجوا النساء لحسنهنَّ؛ فعسى حسنهنَّ أنْ يرديهن، ولا تزوجوهنَّ لأموالهنَّ؛ فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوَّجوهن على الدِّين، ولأمَةٌ سوداء ذاتُ دين أفضل” (رواه ابن ماجه)؛ لأن المال والجمال والحسب وإن كان من متطلبات الزواج، إلا أنه لا يصح أن يكون أساسًا لهذه العلاقة المتينة، إذ لا بد من شيء أقوى من شهوة المال والحسب والجمال، وإلا لانهارت هذه الصلة. ولكن إذا تزوج بذات الدين، وكان مع الدين جمال ومال وحسب، فهذه حسنة الدنيا قدمت لك قبل الآخرة.

وعندما نزل قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(التوبة:٣٤)؛ قالوا: فأيَّ المال نتخذ؟ قال عمر رضي الله عنه: فأنا أعلمُ لكم ذلك.. وذهب لسؤال النبي قائلاً: يا رسول الله، أيَّ المال نتخذُ؟ فقال: “ليتخذْ أحدُكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجةً مؤمنة تُعينُ أحدَكم على أمر الآخرة”.. فالزوجة الصالحة هي الكنز والمال الحقيقي.

وأما معنى “تربت يداك”، فهو في الأصل دعاء معناه: لصقت يداك بالتراب من شدة الفقر إن لم تفعل، ولكن العرب أصبحت تستعمله لمعان أخرى كالمعاتبة والإنكار وتعظيم الأمر والحث على الشيء.. وهذا هو المعنى المراد هنا.

كيفية اختيار الزوج

وما سبق، كان التركيز فيه على إرشاد الرجل إلى حسن اختيار الزوجة، ويمكننا الآن أن نتحول إلى الضفة الثانية لنرشد المرأة إلى الاختيار الصحيح، وكل ما سبق من إرشادات للرجل هو للأنثى أيضًا. وإلى جانب ذلك كله نقول:

النقطة الأولى: التوافق والكفاءة التي تكلّمنا عنها، فعلى المرأة أن تختار من الرجال من يتوافق معها ومع بيئتها ومنطقها وعاداتها وتقاليدها ومستوى معيشتها.. فلا يتصور لامرأة مثقفة تعيش حياة المدينة، أن تتزوج رجلاً أميًّا من البادية لا يعرف سوى رعي الأغنام -مع كامل الاحترام للبادية وللأميين ولرعاة الأغنام، والمثال للتوضيح ليس أكثر- فهذا الزواج من الناحية المنطقية لا يمكن نجاحه إلا بنسب قليلة، وهذه هي الكفاءة التي أرادها النبي  بقوله: “انْكِحُوا الأكْفَاءَ، وَأَنْكِحوا إِلَيْهِمْ”.

النقطة الثانية: وهذه هي النقطة الأمّ التي تقع فيها بناتنا اليوم، لا تنظري إلى مال الرجل، ولا تحسبي أن المال هو المعيار، ومن المؤسف أن نسبة كبيرة من نساء اليوم -إن لم نقل الكل- أصبحوا ينظرون إلى ابنتهم في سن الزواج على أنها مشروع استثماري وسلعة قابلة لأن تُقام عليها المزادات.. والحقيقة أن الرجل الغني هو أول من يحتقر تصرفاتهم تلك، وعندما يشعر أنهم يقبلون به لماله وليس لشخصه، فإنه لن يصون ابنتهم ولن يعزّها، وسيكون هذا الشعور عنده داعمًا لقرارات الانفصال التي تخطر بباله أثناء الاصطدام بواقع الحياة، وأثناء مقاساة مشاكل الحياة العادية.

الأخلاق والمبادئ والتدين هي المعيار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض” (رواه الترمذي)، وهذا إرشاد نبوي، ومع الإرشاد تحذير.

فإن لم تكن المعايير في اختيار الرجل المناسب هي الأخلاق والمبادئ والأصالة والتعامل وجودة الطباع؛ وكانت المعايير هي المال والمادية، فإن العاقبة المحتومة هي الفتنة والفساد.

النقطة الثالثة: الواقعية، وهذا في غاية الأهمية، لا سيما في واقعنا اليوم، الذي تتابع فيه الفتيات المسلسلات والإنترنت والسوشيال ميديا.. وترى قصص الحب الخيالية والعلاقات الأسطورية، وتظن أن رجلاً وسيمًا ممشوق القامة أبيض اللون مضمّخًا بالعطور سيأتي على حصان أبيض، أو على جناحي طائر عملاق، أو سينزل من سلالم متصلة بهيلوكوبتر، ويصنع لها المعجزات ويطلبها للزواج.. وهذه أوهام وخيالات لم تكن ولن تكون على أرض الواقع، لا مكان لها سوى في الإنترنت وخلف الشاشات، ولا تمتّ إلى الواقع بصلة. وعلى الفتاة أن تتحلى بالواقعية، وتنزل من برجها العاجي الذي وضعت نفسها فيه، وتتعامل مع الأمور بعقلانية وواقعية، ولا تكلّف الرجلَ ما لا يطيق، ولا تنتظر من الخاطب ما يخرج عن حدود الواقعية، وأن تتفاعل بالفرح والإعجاب حتى مع أبسط الأشياء المفرحة.

(*) كاتب وباحث سوري.