فبدأ العلماء بمحاكاة عملية البناء الضوئي منذ عقود في المختبر، وما زالوا يناضلون بكل ما أوتوا من قوة ومعرفة تراكمية، من أجل محاكاة هذه المعجزة الإلهية. وقد فتحت لهم هذه المحاكاة آفاقًا كبيرة لتوليد طاقة نظيفة لم يكن يحلم بها البشر.
وقد تكون المقاربة الجديدة القائمة على الأوراق الضوئية (Photosheets) أكثر المحاولات الواعدة حتى الآن. علمًا بأن العلماء إذا نجحوا في إيجاد طريقة لإجراء بناء ضوئي اصطناعي، فإن ذلك سيجعل من الممكن تسخير ضوء الشمس لإنتاج كميات غير محدودة من الكهرباء، أو الهيدروجين، أو غيره من أصناف الوقود الغنية بالطاقة، بصورة نظيفة وبتكلفة زهيدة.
وهذه الطاقة المنتجة من عملية البناء الضوئي الاصطناعي، لن تنضب إلا بفرضية غير معقولة بالطبع، وهي نهاية المياه من كوكب الأرض، فضلاً عن إنتاج الأكسيجين الذي هو أساس الحياة، ووجود الكائنات الحية، بما فيها الإنسان على ظهر هذا الكوكب.
البناء الضوئي الاصطناعي
معظم طاقتنا مستمدة من الشمس، وأوضح مثال، الطاقة الشمسية، والرياح أيضًا هي نتاج تسخين الشمس غير المنتظم لهواء الأرض. والوقود الأحفوري ما هو إلا بقايا الكائنات الحية القديمة التي كانت تقوم بعملية البناء الضوئي. والوقود الحيوي يأتي من محاصيل مثل الذرة، وفول الصويا، وحتى الأعشاب البحرية.. وهذه كلها تعتمد على ضوء الشمس في النمو.
وعلاوة على ذلك، ثمة طريقة أخرى لتسخير أشعة الشمس؛ إذا نظرنا نظرة عابرة إلى أوراق أي نبات، فلن ندرك أهميتها، بيد أن داخل هذه الوريقات الخضراء الرفيعة، توجد محطات طاقة حية، حيث تنتج المدخلات الوفيرة تلقائيًّا مخرجات غنية بالطاقة.
وفكرة التمثيل الضوئي الاصطناعي، ما هي إلا تقليد لما تفعله الطبيعة، وهي موجودة منذ فترة طويلة، لكنْ تجدَّد الاهتمام بها في السنوات الأخيرة، لقدرتها على المساعدة في توسيع الطاقة المتجددة.
إذن، كيف يعمل البناء الضوئي الاصطناعي؟ تتضمن هذه العملية أربع مراحل، مما يجعلها مشابهة جدًّا لعملية البناء الضوئي الطبيعي وهي: حصاد الضوء (Light harvesting)، وفصل الشحنات (Charge separation)، ومرحلة شطر الماء (Water splitting)، وأخيرًا إنتاج الوقود (Fuel producation).
وهي تستخدم الخلايا الشمسية بدلاً عن الكلوروفيل، لامتصاص أشعة الشمس وتحولها إلى كهرباء. وتستخدم الأوراق الاصطناعية أيضًا إما محفزًا صناعيًّا أو عضويًّا؛ لتقسيم الماء إلى هيدروجين وأكسيجين، وبعبارة أخرى، يمكن للبناء الضوئي الاصطناعي أن ينتج ليس فقط نوعًا واحدًا، بل أنواعًا متعددة من الوقود، كالكهرباء، والهيدروجين، وحمض الفورميك.
وفي وقت سابق من هذا العام، أعلنت وزارة الطاقة الأمريكية أنها ستقدم ما يصل إلى ١٠٠ مليون دولار، لأبحاث التمثيل الضوئي الاصطناعي، في محاولة لإشعال شرارة الإبداع في التقنية التي شقت طريقها بصعوبة حتى الآن، لإخراجها من المختبر.
وقال “بول دبار” وكيل وزارة الطاقة الأمريكية للعلوم: “إن ضوء الشمس هو أهم مصدر للطاقة لدينا وتوليد الوقود مباشرة من ضوء الشمس، يعمل على تحويل اقتصاد الطاقة عندنا، ويسهم في تعزيز أمن الطاقة في أمريكا إلى حد بعيد”.
وفي الواقع، إن إنتاج الكهرباء مباشرة من ضوء الشمس من شأنه أن يعزز أمن الطاقة في أي بلد، ولا سيما البلدان النامية التي تفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لتخزين كميات كبيرة من الطاقة غير المستخدمة. وإذا تمكنت هذه التكنولوجيا من الوصول إلى نقطة التسويق، فلن نحتاج إلى بناء بنية تحتية ضخمة وسلاسل نقل من أجل الحصول على هذا الاقتصاد الخالي من الكربون.
تحسين الكفاءة
قبل عامين نشر باحثون من مختبر لورانس بيركلي الوطني التابع لوزارة الطاقة والمركز المشترك للبناء الضوئي الاصطناعي (JCAP)، ورقة بحثية عن خلية شمسية جديدة يمكنها أخذ CO2 والماء وأشعة الشمس، لتحوّلها إلى كهرباء وهيدروجين. وفي هذا الصدد قام فريق آخر، بالتركيز على جزيء الكلوروفيل الموجود في بعض البكتيريا الذي يمكنه امتصاص الضوء من جزء الأشعة تحت الحمراء من الطيف. فعند محاكاة هذه العملية، يمكن أن تعزز كفاءة البناء الضوئي الاصطناعي، وهي مفتاح لجعل هذه التقنية قابلة للتطبيق.
هذان مثالان فقط على العمل الذي يتم إجراؤه في المختبر على البناء الضوئي الاصطناعي بهدف تحسين كفاءته، لأن النباتات ليست محولات مثالية تمامًا لضوء الشمس إلى طاقة. فالنباتات يجب أن تكون سوداء وليست خضراء، حتى تمتص كل الألوان في الطيف الشمسي. فكما هو معروف أن أصباغ الكلوروفيل الموجودة في النبات، تمتص فقط الفوتونات التي يبلغ طولها الموجي ٤٣٠-٧٠٠ نانومتر.
بالإضافة إلى أن النبات كفء بما يكفي لأداء الوظائف التي يحتاجها من الناحية البيولوجية، بكفاءة تبلغ ١-٢ بالمائة فقط، تكون نباتات المحاصيل النموذجية فعالة بما يكفي للبقاء على قيد الحياة، ولكنها غير فعالة نسبيًّا عندما يتعلق الأمر بإنتاج الوقود وتزويد الإنسان به. ويعتقد الباحثون بأنه من خلال تحسين عملية البناء الضوئي الطبيعي سيكونون قادرين على صنع تقنية تقوم بعملية التمثيل الضوئي أكفا وأسرع عشر مرات من النباتات على الأقل.
حمض الفورميك كوقود
حمض الفورميك مادة كيمائية توجد طبيعيًّا وتصنع في المختبرات. عُزل الحمض لأول مرة من بعض النمل، وسمي باسم فورميكا اللاتينية التي تعني “نملة”. في الطبيعة يوجد بوجه عام، في لدغات ولسعات النمل والنحل، وفي اللغة الهولندية يعرف بـ“Mierenzusur” التي تعني حمض النمل، كما يوجد في نبات القراص، وهو يسبب التهيج الذي يحدث مباشرة بعد لدغات الحشرات.
وعلى الرغم من أنه يمكن أن يكون خطيرًا جدًّا عندما يكون شديد التركيز، إلا أن حمض الفورميك يكثر استخدامه في المنتجات الغذائية كمادة حافظة، أو على المحاصيل كمبيد للآفات.
وفي أنقى صوره ليس له لون، أو لونه ضئيل ورائحته قوية جدًّا. ومع أنه يستخدم كرادع طبيعي للحيوانات المفترسة، فقد وجد البشر لهذه المادة الكيمائية العديد من الاستخدامات اليومية العملية؛ فهو يستخدم في الصناعة في إنتاج الجلود، ومخثرًا في عمليات تصنيع المطاط، ويضاف في الطرق الزلقة في بلدان مثل النمسا وسويسرا، التي تعاني من فصول الشتاء القارسة، والطرق الخطرة للغاية لزيادة الاحتكاك. ونظرًا لخصائصه الطبيعية المضادة للبكتيريا، فهو يستعمل في الزراعة كمادة مضافة لغذاء وعلف الحيوانات.
ونظرًا للخصائص المتعددة لحمض الفورميك، طوّر باحثون من سويسرا عام ٢٠١٨، خلية وقود هي الأولى في العالم، تستخدم حمض الفورميك لإنتاج الهيدروجين بوجود محفز الروثينيوم، وينتج عن تفاعل الماء وثاني أكسيد الكربون. يستعمل الهيدروجين كوقود، ويلتقط CO2 ويعاد لإنتاج المزيد من حمض الفورميك.
وفي هذا الصدد، يعد حمض الفورميك مادة نقل وتخزين للهيدروجين (ناقل للطاقة)، يمكن أن يستوعب ما يقرب من أَلْف مرة من الطاقة مقارنة بنفس الحجم من غاز الهيدروجين. فواحد لتر (٠.٣ جالون) من حمض الفورميك يحمل ٥٩٠ لتر (١٥٦ جالونًا) من الهيدروجين الذي يتطلب بنية تحتية صعبة ومكلفة، فكل محطة تعبئة تستلزم استثمار ملايين الدولارات، لأنه يحتاج إلى تخزين تحت ضغط عال، ودرجة حرارة منخفضة.
وهذا يمثل تحديًا كبيرًا للسيارات التي تعمل بخلايا وقود الهيدروجين، في حين أن حمض الفورميك سائل في الظروف العادية، وهذه ميزة كبيرة تشابه ميزة الوقود الأحفوري، ما يعني أنه يمكن أن يدخل في البنية التحتية الحالية بسهولة أكبر. ومن هنا يمكن تزويد المركبات به باستمرار، ويمكن تخزينه ونقله بسهولة.
البناء الضوئي الاصطناعي اللاسلكي
وتطويرًا لفكرة إنتاج واستعمال حمض الفورميك كوقود سائل مباشرة، كما يسعى إلى ذلك فريق من العلماء، أو تحويله إلى هيدروجين وإحداث خطوة متقدمة في هذا الاتجاه. قام باحثون من جامعة كمبريدج وفريق البروفيسور كازوناري دومين من جامعة طوكيو، بتطوير نظام جديد يمثل قفزة كبيرة نحو محاكاة البناء الضوئي الطبيعي.
يأخذ النظام الجديد ثاني أكسيد الكربون والماء وأشعة الشمس كمكونات له، ثم ينتج الأكسيجين وحمض الفورميك الذي يمكن تخزينه كوقود، أو تحويله إلى هيدروجين.
والنظام الجديد، عبارة عن جهاز مصنوع من محفزات ضوئية -مواد تمتص الضوء لإحداث التفاعل- تعتمد على الكوبالت المطعّم على الورقة المصنوعة من مساحيق أشباه الموصلات التي يمكن تحضيرها بكميات كبيرة، وبسهولة وكفاءة من حيث التكلفة، والأكثر من ذلك هو الاستقرار والانتقائية التي حيرت فريق البحث إلى حد كبير. عندما تُغمر الورقة في حمام من الماء وثاني أكسيد الكربون، ثم تُعرض لأشعة الشمس، يحدث التفاعل الكيميائي.
وعلى غرار البناء الضوئي، فإن امتصاص ضوء الشمس يثير الإلكترونات إلى مستوى أعلى وتكتسب طاقة أكثر، وترتبط بثاني أكسيد الكربون، والبروتونات ترتبط بالماء ويتكون سائل عديم اللون لاذعُ الطعم، يسمى حمض الفورميك. وبهذا يتحول ضوء الشمس إلى طاقة كيميائية كامنة.
وتبلغ مساحة النموذج الأولي للورقة الضوئية الحفازة ٢٠ سم مربع فقط (٣ بوصات مربعة)، ويقول العلماء الذين اخترعوها: “من السهل توسيعها دون تكاليف باهظة، كما يمكن إنتاجها في مصفوفات كبيرة مماثلة لتلك الموجودة في المزارع الشمسية”.
والمختلف في هذا النظام، أو أهم ما يميزه عن الأنظمة السابقة، شيئان اثنان؛ الانتقائية العالية، والتشغيل الذاتي بالكامل. كانت المشكلة الرئيسية في عملية البناء الضوئي الاصطناعي، هي المنتجات الثانوية غير المرغوب فيها للعمليات الكيميائية، وكان من الصعب تحقيق البناء الضوئي الاصطناعي بدرجة عالية من الانتقائية. وبعد تطوير النظام الجديد وتجريبه، تفاجأ العلماء بالانتقائية العالية التي يتمتع به، فلم ينتج عنه أي منتجات ثانوية تقريبًا، وهذا يجعل فصل الوقود أسهل وأرخص.
ومن ناحية أخرى، كانت الأوراق الاصطناعية تتطلب مكونات الخلايا الشمسية كمصدر للكهرباء، أما الجهاز الجديد لا يتطلب مثل هذه المكونات، ومن هنا أطلق عليه البناء الضوئي الاصطناعي اللاسلكي، أي أنه لا يتطلب كهرباء من مصدر خارجي أو أسلاك. وبدلاً من ذلك، يعتمد النظام الجديد على المحفزات الضوئية المطمورة على الورقة الضوئية.
وهذا لا يعني أن ورقة الضوء الجديدة جاهزة للاستخدام التجاري، الآن يحتاج الباحثون إلى جعل العملية أكثر كفاءة أولاً، كما أنهم يجربون محفزات مختلفة قد تكون قادرة على إنتاج أنواع مختلفة من الوقود الشمسي. وعلى الرغم من المعوقات والمحددات التي تكتنف مصادر الطاقة النظيفة، إلا أن الانتقال الكامل إليها أصبح أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، ونشعر بالتشجيع بسبب عدد المشاريع قيد التنفيذ والمستقبلية. ويأمل الباحثون أن تمهد هذه التقنية الطريق نحو إنتاج مستدام وعملي للوقود الشمسي.
(*) كاتبة وباحثة في مجال العلوم والطب / اليمن.
المراجع
(1) https://www.nature.com/articles/s41560-020-0678-6.
(2) https://www.sciencealert.com/new-artificial-photosynthesis-device-creates-energy-from-co2-water-and-sunlight.
(3) https://www.researchgate.net/publication/280491078_Artificial_photosynthesis_for_the_conversion_of_sunlight_to_fuel.
(4) https://www.digitaltrends.com/cool-tech/artificial-photosynthesis-to-fuel-the-future-store-energy.
(5) https://www.dezeen.com/2020/08/27/scientists-develop-synthetic-leaf-that-turns-sunlight-into-liquid-fuel/