استوقفني وثائقي ماتع عن “وكالة بازرعة” الأثرية بحي الجمالية بالقاهرة، والتي أقامها “حسن كتخدا” عام 1769م. وبعد الانتهاء من مشاهدة الوثائقي، تبعه إعلان عن بضائع وأغراض في أحد الأسواق (المولات) الضخمة. فقلت في نفسي بهاجس ذائقة معمارية صرفة: ما أبعد الليلة عن البارحة!؟ ففي البارحة تنوعت العمائر التجارية الوظيفية ما بين وكالات، وخانات، وقياسر، وأسواق، لكنها تتشابه من حيث الاستخدام والغرض من إنشائها الحياتي.. كما لا توجد فروق كثيرة في عماراتها؛ فـالوكالات طرز معمارية اشتق اسمها من “التوكيل” لبيع وشراء سلع معينة، كما يتم فيها تخزين البضائع والأغراض وعقد الصفقات. وكثيرًا ما انتشرت هذه الروائع المعمارية في العديد من المدن والحواضر العربية والإسلامية، وقد حظيت بعناية السلاطين والأمراء والأثرياء والتجار على مر العصور. وعادة ما كانت تسمى الوكالة باسم صاحبها أو باسم مَن أنشأها، أو من اشتراها في نهاية المطاف. وكأنموج دال؛ تزخر القاهرة وغيرها، ضمن ما تزخر به من كنوز أثرية تحكيها أبوابها، وقبابها، ومآذنها، وخاناتها، ومدارسها، وحماماتها، وبيوتها، وأسبلتها بالعديد من الوكالات الرائعة.
وتتضمن الوكالات أبوابًا قد تتعدد مع تعدد الواجهات، وحوانيت، وطوابق ثلاثة أو أربعة، وغرفًا لسكن أصحابها والتجار الوافدين إليها. وغالبًا ما تتكون الطوابق العليا في الوكالات من عدة مستويات داخل الطابق الواحد ويسمى الربع؛ وهو عبارة عن وحدات سكنية متعددة المستويات للوحدة الواحدة (دوبلكس). فيتكون الطابق الأول منها، من مدخل يؤدي إلى ممر على أحد جانبيه مطبخ ودورة مياه، وعلى الجانب الآخر سلم يؤدي إلى الطبقات الأعلى من الوحدة السكنية، وينتهي هذا الممر بمدخل للقاعة التي تتكون من دور قاعة يفتح عليها إيوان واحد. وتتكون الطبقات الأعلى من كل وحدة من دورة مياه وقاعة فقط. وقد تتكون الوحدة السكنية من طابق واحد فقط ويعلوها وحدة سكنية أخرى، كما هو الحال في وكالة “السلحدار” بحي “خان الخليلي” التي ترجع إلى القرن التاسع عشر للميلاد.
وكالتا قايتباي والغوري
لوكالة السلطان “قايتباي” وترجع إلى القرن 9هـ-15م، بوابة تتوسط الواجهة، وفيها حوانيت لعرض البضائع المجلوبة من الخارج، أما صحنها الأوسط فمكشوف تلتف حوله مخازن البضائع، بينما يقع السلم المؤدي للأدوار العليا، في أحد أركان الواجهة. وكان الملك الأشرف “أبو النصر قايتباي” قد بنى عام 885هـ-1481م وكالته بجوار باب النصر، وأمر بإضفاء الكثير من الزخارف الإسلامية الرائعة على طرازها المعماري.
ولما كان السلطان “قنصوه الغوري” مغرمًا أيضًا بالعمارة، ازدهرت في عصره، واقتدى به أمراء دولته في إنشاء العمائر.. وقد خلف ثروة فنية جلها خيرية بمصر وحلب والشام والحجاز، لذا تعتبر وكالة “الغوري” بالقاهرة من مآثر العصر المملوكي الجركسي، الذي شهد تطورًا كبيرًا في عمارة الوكالات. وقد شيدت هذه الوكالة الرائعة في بداية القرن العاشر الهجري (عام 909هـ)، وتعد جزءًا من المجموعة الأثرية التي بناها السلطان “قنصوه الغوري”، وتتكون من مدرسة، وخانقاه، وسبيل، وكتاب، ومنزل. كما تتكون وكالته من صحن مستطيل مكشوف تحيط به من جوانبه قاعات على خمسة طوابق، ولها واجهة رئيسية تقع في الضلع الجنوبي، ويقع فيها المدخل الرئيس للوكالة. يتم الصعود إلى الطابق الأول عن طريق سلم من الحجر. كما يوجد في الطابق الأول ما يقرب من ثلاثين حاملاً. أما الطوابق الثلاثة العلوية فيوجد فيها حوالي تسعة وعشرين منزلاً. وكانت حوامل الطابقين الأرضي والأول تستخدم كمخازن للتجار.
نفيسة البيضاء، وأودة باشا، وعباس آغا
تعتبر وكالة “السيدة نفيسة البيضاء” في شارع “التمبكشية”، والتي تقع على مقربة من “باب زويلة”، كنزًا معماريًّا ثمينًا. لقد أنشأتها الجارية الشركسية “نفيسة البيضاء” التي تزوجت من “علي بك الكبير”، وورثت عنه ثروة ضخمة تضمنت تجارة وبيوتًا، وقصورًا، وأسطولاً ضخمًا، وأربعمائة مملوكًا، وذلك عام 1211هـ-1796م، لكن تنتشر حاليًّا داخل الوكالة، محلات وورش صناعة الشموع. ويوجد في نهاية الممر داخل الوكالة مقهى شعبيًّا. وقد أجري للوكالة وبخاصة واجهتها التي تعد من أجمل نماذج فن الأرابيسك، مشروع ترميم ضمن مجموعة “نفيسة البيضاء” الأثرية التي تحتوي أيضًا على سبيل وكُتاب، وقد انتهى الترميم عام 2005م. ومقابل وكالة “نفيسة البيضاء” في شارع التمبكشية توجد وكالة “أودة باشا”، التي تعتبر من أكبر الوكالات التجارية الأثرية في العالم الإسلامي. لكن الوكالة تمتلئ بمحلات وورش تصنيع النحاس والألومنيوم. وتقع وكالة “عباس آغا” بالقرب من وكالة “أودة باشا” في نفس الشارع، لكن لم يتبق منها فقط إلا البوابة الحجرية والباب الخشبي فقط.
وكالة بازرعة
في شارع “التمبكشية” بحي “الجمالية” بالقاهرة التاريخية، تقع واحدة من أشهر الوكالات الأثرية في مصر؛ إنها وكالة “الكيخا” التي أقامها”حسن كتخدا” في القرن الحادي عشر الهجري (17 الميلادي). ومع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، اشتهرت باسمها الحالي “وكالة بازرعة” بعدما اشترتها عائلة “بازرعة” اليمنية الحضرمية. ومنذ ذلك الحين عرفت بتجارة البن اليمني، واللوز البلدي، والعنبر، والصابون النابلسي، بعدما كانت مخصصة لتجارة الأخشاب، ونشطت تلك التجارات لما يُعرف عن اليمنيين منذ فجر التاريخ، براعتهم التجارية. كما ظلت هذه الوكالة تؤدي دورها في تأصيل العلاقات بين اليمن ومصر، من خلال البضائع اليمنية الأصل والتي جاءت معها فنون وعادات وتقاليد اليمن طوال قرنين من الزمان.
وكان الاهتمام بالعمائر التجارية إبان العصر العثماني قد ازداد بشكل كبير، فبلغ عدد الوكالات التي شيدت في مصر خلال تلك الفترة عشر وكالات، لكن تبقى هذه الوكالة، من فرائد تلك الوكالات العثمانية. تم تصميم الوكالة على أساس التخطيط للداخل، بحيث تنتظم عناصرها ووحداتها حول صحن مستطيل مكشوف، وذلك تبعًا للنمط الذي كان سائدًا في العصر المملوكي. وتتكون الوكالة من جزأين: الأول تجاري يضم حواصل تنتظم حول الصحن بالطابقين الأرضي والأول، بالإضافة إلى محلات تجارية تطل على الواجهة الرئيسية للوكالة في شارع التمبكشية بالطابق الأرضي. أما الجزء الثاني فجناح سكني يحتوي على 366 غرفة سكنية يتكون من طابقين أعلى الحواصل. وتتكون كل وحدة سكنية من طابق أول، فيه مدخل، ودورة مياه، ومطبخ صغير، وسلم، وقاعة استقبال، ومعيشة بارتفاع طابقين (دوبليكس).
وللوكالة مدخلان: الأول رئيسي يؤدي إلى فناء الوكالة، والثاني مدخل خاص يؤدي مباشرة إلى الوحدات السكنية العلوية ولا يتصل بالصحن؛ إذ يُصعد من خلاله إلى الأدوار السكنية مباشرة، لمراعاة الخصوصية وفصل حركة التجارة عن حركة النزلاء. هذا ويقع المدخلان على واجهة الوكالة الشمالية، أما بقية واجهات الوكالة فملاصقة لمبانٍ مجاورة. لكن الواجهة الرئيسية لهذه الوكالة، هي الواجهة الجنوبية الشرقية، ويبلغ طولها 25م، وأهم ما يميزها كتلة المدخل التي يبلغ اتساعها حوالي 5.40م، ويتوجها عقد موتور نصف دائري مكوَّن من صنجات حجرية، ويتصدر كتلة المدخل فتحة تضم الباب الرئيس المكون من ضلفتين خشبيتين خاليتين من الزخارف، ويحيط بكتلة المدخل والباب الرئيس “جفت لاعب”؛ وهو نوع من الزخرفة التي انتشر في العصر المملوكي والعثماني باستخدام حرف “الميم” بطريقة هندسية، وهنا نجدها وقد شكلت ميمات سداسية.
يبلغ طول صحن الوكالة 27.65م، وعرضه 10.75م. أما جدرانه الأربعة فعبارة عن بائكات، كل بائكة صفين من العقود يعلو كل منهما الآخر، وتحمل هذه البوائك دعامات حجرية مربعة تمثل واجهة الممر الذي يتقدم الحواصل الموجودة بالصحن بالطابق الأرضي والأول. ويوجد فوق حواصل الدور الأول رفرف خشبي نقشت واجهته بزخارف نباتية، وهذا الزخرف محمول على كوابيل خشبية. أما الوحدات السكنية وملحقاتها، فتطل على الصحن عن طريق فتحات نوافذ يغلق على كل فتحة إما شباك حجاب من الخشب الخرط، أو مشربية خشبية من الخشب الخرط، ويحمل كل مشربية مجموعة من الكوابيل الخشبية. وقد استخدمت الأحجار القوية في بناء الدور الأرضي والأول للوكالة كحوائط حاملة، أما باقي الوكالة فبني من الآجر الأحمر (الطوب أو القرميد الأحمر) وغطي بطبقة من الجير. كما استعمل في واجهة الوكالة والطابق الأرضي والأول من الداخل، التشكيل اللوني “المشهر”، وهو استخدام اللونين الأصفر والأسود في طلاء الحجر، وهو نوع من الزخرفة استُخدم منذ بداية العصر المملوكي.
ومع مرور الزمن، تهالك الكثير من عناصر “وكالة بازرعة” ووحداتها المعمارية، كما أصابت التصدعات جدرانها، ولم تسلم أسقفها من تهالك وسقوط أجزاء كثيرة منها، ناهيك عن سوء حال أخشاب الوكالة، من أبواب وشبابيك ومشربيات تمثل روعة وجمال فن الأرابيسك، وتآكل بلاطها وأرضيتها. وفي عام 1996م تنبه القائمون على الآثار لهذه القيمة الأثرية الفريدة، وأعدوا ترميمها بكفاءة وإعادتها للحياة مرة أخرى. استغرق الترميم حوالي خمس سنوات لتفتتح الوكالة في عام 2001م، وتصبح مثل وكالة “الغوري”، حيث تشهد العديد من الأحداث والفعاليات الثقافية والفنية.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.