إن الفراغ الذي لدينا هو من الأمور الثمينة، بل هو أثمن من أن نبدده في أمور لا تفيد، إنه الحياة، بل هو نفسه الجزء الذي يخصنا من هذه الحياة، إن العمل الذي نؤديه لنكسب منه عيشنا قد يكون ثقيلا، إما لأن شروطه مفروضة علينا من الخارج، أو بسبب طبيعة العمل نفسه، غير أننا عندما ننهيه نصبح ملك أنفسنا نفعل ما نشاء، وهذا بحد ذاته يوّلد مشكلة، إذ إن كثيرًا من الناس اعتادوا التصرف بوقتهم تصرفًا يشوبه الارتباك ويعوزه التنظيم، لذا فهم يميلون لتبديده وبعثرته!
العمل سعادة
إن عبارة “قتل الوقت” نفسها تعني الموقف الذي نفرط فيه بشيء ثمين نملكه، إذ إن بعض الناس يظنون أنهم إذا ما أتموا عملهم المعتاد فعليهم أن يستريحوا، وهم يقصدون بالراحة ألا يعملوا شيئًا مطلقًا، وما علموا أن عمل “لا شيء ” هو من أسوأ الأمور في هذه الدنيا.
يحكى أن أحد رجال الأعمال مات في حادث سيارة، وعندما أفاق في الآخرة، وجد نفسه في بيت جميل وسط حديقة يانعة، وبين يديه وقف تابع أبيض الجلباب أخذ يعتذر إليه لأنه جاءهم بصورة مفاجئة حيث إنهم لم يستعدوا الاستعداد اللائق لاستقباله والسهر على راحته، ثم سأله تابعه إن كان جائعًا فأجابه الرجل: “نعم.. أريد طبقا من “الأومليت” وأفضل إعداده بنفسي، فإني أجيده، ولكن التابع اعترض قائلا: “كلا يا سيدي، لا داعي لذلك، فهذا من عمل الخدم”، وتناول الطعام الذي طلبه، ثم رجاه بعدئذ أن يأتي، ليرى بيته الذي يشيدونه من أجله، وكان في دنياه يهوى البناء، فرجاهم أن يسمحوا له بمساعدتهم إلا أنهم رفضوا، ثم أبدى رغبته في القيام ببعض أعمال الحديقة، ولكنهم اعتذروا إليه لأن لديهم ما يكفي من عمال الحدائق، وهكذا اكتشف أن عليه ألا يعمل، وأخيرا نفد صبره، وخاطبهم في غضب قائلا :” إنني أمقت هذا المكان، لقد كانت حالتي في الدنيا أفضل بكثير من جنتكم هذه، إنها جهنم ما دمت لا أستطيع عمل أي شيء يساعدني على تمضية الوقت فأجابه تابعه العنيد قائلا: “يا سيدي.. إنك لست في الجنة!
عند اختيارك نوع العمل الذي تفضل القيام به في أوقات فراغك من الضروري أن يكون جالبا للحيوية وباعثا على النشاط، كما أن من الأفضل أن تزاول عملاً ما بنفسك بدلاً من أن تجلس لتتفرج عليه، إن العمل الذي تؤديه في وقت فراغك ينبغي أن يكون غير عملك الوظيفي المعتاد، وأن يكون مفيدًا وبناء، وأن تجد فيه مجالاً لتطوير عقلك وتوسيع أفق تفكيرك، ومن الجدير معرفة أن الكلمة اليونانية المرادفة لكلمة “Leisure ” التي تعني “وقت الفراغ” اشتق منها الإغريق لفظة “مدرسة” لأنهم اعتبروا أن “وقت الفراغ” هذا هو فرصة للتعلم وطلب المعرفة لتوفير حياة أفضل وللمساهمة في الحياة الاجتماعية وهذا الأسلوب من التفكير هو الجدير بنا أن نقتفي أثره، وننسج على منوله!.
إن الهواية الممتعة التي تتعلمها أثناء أوقات الفراغ تجعل منك مصدر بهجة للمحيطين بك، وتكسبك كثيرا من خفة الظل، وتجعلك تتعرف على أصدقاء جدد، فتصبح حياتك عندئذ مفعمة بالخصب غنية بالسعادة.
المواقيت والزمن في الإسلام
كل شيء بميقات.. بين كل العقائد الحية والديانات السماوية في هذا العالم لم يوجد غير الإسلام والمسلمين من يعتبرون التوقيت أساسًا من أسس العقيدة فعلى أساسه فرضت مواقيت الصلوات الخمس كل يوم. وعلى مدى رمضان الفضيل تحددت مواقيت الصوم والإفطار والسحور والإمساك، بل إن للزكاة والحج إلى بيت الله مواقيت وأزمنة وساعات لا تعديل فيها ولا تبديل.
ولذلك ليس غريبًا أن نجد المسلمون يهتمون إهتماما بالغا بالوقت والزمن ويحددونه بصورة مستمرة وبأشكال وأدوات متعددة، نسمع القزويني يتحدث عن الزمان في كتابه “عجائب المخلوقات” فيقول: “إنه مقدار حركة الفلك ومرور الأيام والليالي، واليوم هو الزمان بين طلوع الفجر وغروب الشمس، وأما الليل فهو الزمان بين غروب الشمس وطلوع الفجر ومجموعهما أربع وعشرين ساعة لا تزيد ولا تنقص، وكل ما نقص من النهار زاد من الليل، وكلما نقص من الليل زاد من النهار”.
ويفهم الطبري الزمان فهم الحواري في إيمانه.. فالزمان عنده ساعات الليل والنهار، يعرف عباد الله من ذلك عدد السنين والحساب فيعبدونه وفق مواقيت معينة؟ ولا ينسى الطبري أن يحدد مقدار هذا الزمان الذي عاشه الإنسان منذ بدء خلقه، وهو يتكلم عن مقدار الزمان فيقدره بسبعة آلاف سنة من بدئه حتى الهجرة، وهو يورد أقوال الآخرين حيث قدره كعب الأحبار بستة آلاف سنة حتى الهجرة، وهو يذكر رأي اليهود في قدر الزمان اعتمادًا على توراتهم ويذكر أيضًا في كتابه “تاريخ الأمم والملوك” أن اليونان والنصارى يرون بطلان تقدير اليهود ويرفضونه وأنهم يقدرون هذه الفترة بسنوات تبلغ 5092 عاما اعتمادا على التوراة التي في أيديهم.
ومن أجمل ما يتحدث به الفارابي في كتابه “الموسيقى الكبير” هو رابطة بين الأزمنة والأنغام، فحتى الموسيقا عنده لها دورها مع الأزمنة، وهو يتكلم عن أصناف الأزمنة في الإيقاع الموسيقى، ويقسمها قسمين: موصل الإيقاع ومفصل الإيقاع، فالإيقاع الموصل هو المتوالي بأزمنة متساوية ويسميه (الهزج) والمفصل من الإيقاع هو ما تتفاضل فيه الأزمنة.
وعن علاقة الإيقاع بالأزمنة يذكر وصف آلة قديمة مستطيلة الشكل عليها مسطرة مقسمة متحركة يمكن بواسطتها استخراج جميع الأنغام التي يمكن أن تحدث من جميع الأجناس المختلفة الأبعاد والأزمنة والفارابي يقيس النغم وترددات الأوتار بالزمن، وهو يتكلم عن الأعراض التي تلحق اتفاقات النغم في الأجسام والآلات ومنها ما يعرف في علم الصوت بالتردد الاضطراري وهو يقيس هذا التردد بالأزمنة الدقيقة التي يستغرقها.
الإنسان وآلات الزمن
كانت مصر أول دولة استعملت الأعمدة الحجرية المرصوفة بأبعاد متساوية لمعرفة الوقت من حركة ظلالها على الأرض وذلك قبل ميلاد المسيح بقرون عديدة، ولا شك أن الشرق العريق بالمدنية الزاخر بالاختراعات هو أول من ابتكر ساعة لماء التي لعبت دورا مهما في قياس الوقت ليلا ونهارا0 بينما كانت ساعة الشمس تنتهي مهمتها بانتهاء شروقها، وقد نسب للبابليين تقسيمهم اليوم إلى 24 ساعة حيث عني العراقيون الأقدمون بملاحظة الأجرام السماوية منذ أقدم الأزمان وقسموا اليوم الفلكي إلى 12 قسمًا كل قسم يساوي ساعة، وضاعفت من ساعتنا، والساعة إلى 30 جزءا أي أن يومهم الفلكي كان مقسما إلى 360 قسمًا متساويًّا، كما أن السنة الواحدة 360 يومًا، فكانت الدقيقة تساوي 4 دقائق من دقائقنا، ثم كان بعد ذلك اهتمام العرب والمسلمين بالمواقيت والأزمنة إذ كان لابد من تحديد واضح لمعرفة المواقيت ومتابعة الزمن.
ثم أخذ المسلمون في اختراعات وصنع مختلف الساعات المائية والرملية، وفي العصر العباسي لعبت بغداد أوج عزها ومجدها في هذه الصناعة الدقيقة، وقد وصلت الساعة التي صنعت في زمن هارون الرشيد حد الإبداع في الفن والدقة، حيث تم اهداء ساعة من الخليفة إلى القيصر شرلمان في مدينة “أخن” من أعمال ألمانيا، والذي أعجب بها إعجابًا شديدًا.
ويعترف الغرب في تأريخه للعلم وتطوره أن العرب قد علموهم “الرقاص” وهو البندول لقياس الزمن، ولا يخفى ما بُنى على الرقاص من الآلات الفلكية وغيرها والتي برع في صنعها العرب أيضا، ويعتبر أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس المصري (399هـ/ 1009م) هو أول من اخترع الرقاص، ثم جاء بعده كمال الدين بن يونس محمد بن العقيلي الموصلي (ت639هـ/ 1242م) فعرف أشياء كثيرة من قوانين تذبذب الرقاص، وكان الفلكيون يستخدمونه لحساب الفترات الزمنية في أثناء رصد النجوم.
ويتناسى كثير من علماء الغرب حين يتحدثون عن جاليليو وتوصله إلى اختراع البندول أن بحوث كمال الدين بن يونس في البندول كانت في متناول الدارسين في عالم الغرب… وفي إيطاليا بالذات حيث كانت على اتصال بالسواحل السورية والمصرية ولاسيما أثناء الحروب الصليبية ومنها انتقل الكثير من علوم المسلمين، ولا شك أن جاليليو قد درس كل ذلك قبل أن يتوصل إلى معرفة البندول.
وهذه الإطلالة السابقة توضح لنا كيف اهتم المسلمون والعرب منذ القدم بأهمية الوقت وبكيفية قياسه وإحصائه وعده لأهميته البالغة بالنسبة لأحكام الدين وعباداته من جهة وكذلك لأهميته في صنع الحضارة وبناء المدنية وصنع التكنولوجيا من جهة ثانية.
ومن هنا كان اهتمام المسلمين بصنع الآلات لتحديد الزمن وتدقيقه من أجل تحرى الدقة في القيام بالعبادات الإسلامية المختلفة وكذلك في إدارة وقتهم واستغلاله بأقصى فائدة ممكنة، خاصة وأنهم قد علموا أن من يهدر وقته ابتداء، خاسر خائب، لأن هذه الأوقات لا تتأتى لكل واحد، كما بين ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله:” نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة والفراغ”(رواه البخاري).
كما يقول: “اغتنم خمسًا قبل خمس: “شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”(صححه الألباني)، فإذا ما فوت الإنسان هذه المنح الإلهية الجليلة ابتداء ولم يهتبل فرص الحياة ليصعد بها في درجات رضوان الله، عددناه خاسرًا خائبًا.
قواعد إدارة الوقت ومن هنا نجد الأشخاص الناجحين يعد نجاحهم متمثلاً في قدرتهم على السيطرة على الوقت وعدم ترك الوقت يسيطر عليهم، يقومون بأداء أعمالهم على الوجه الأكمل ليس هذا فقط ولكنهم يجدون الوقت الكافي لممارسة أنشطتهم الرياضية أو السفر لقضاء العطلات.