في مسرحية “شكسبير” الشهيرة “ماكبث”، سارت الليدي “ماكبث” في أثناء نومها ودخلت في حالة “ذهان عقلي”؛ لشعورها بالذنب جراء خطاياها التي دفعت زوجها لجريمة قتل أبيه.. عُرفت ظاهرة “المشي في أثناء النوم” منذ زمن بعيد.. فمن دون وعي أو إدراك ينهض بعض الناس من نومهم صغارًا وكبارًا، حيث تنتاب “ظاهرة المشي في أثناء النوم” بعض الأطفال حتى سن الخامسة عشر. ومنهم من قد ترافقه طيلة حياته؛ ينهضون ويتجولون في البيت، أو قد يخرجون إلى الطريق ثم يعودون للنوم. ومن يشاهدهم مفتوحي العينين، يعتقد أنهم يرون كل شيء، فنظراتهم حادة وإلى الأمام، وخلال هذه الفترة من الاستيقاظ غير الواعي قد يحدث لهم ومنهم ما يحدث. لكنهم عندما يستيقظون صباحًا لا يتذكرون شيئًا. وبات معلومًا أن إيقاظ السائر أثناء نومه، لا يسبب له ضررًا على عكس الشائع، ويفضل إعادته إلى سريره بلطف حتى لا يؤذي نفسه أو غيره.
وفي غضون ذلك، يكون الدماغ الأوسط نشطًا وقادرًا على توليد تصرفات بسيطة كأنماط الأفعال الثابتة، وتتصف بكونها “بدائية” من حيث طبيعتها، ومنها الوقوف، والمشي، والأكل، والشرب، والتحدث ببعض الكلمات، ومشاهدة التلفزيون، والرسم، والرقص، والاستحمام، والعناية بالمظهر، وإرسال بريد إلكتروني برسالة منطقية، وقيادة السيارة، والهجوم الوحشي وارتكاب الجرائم أيضًا. وتكبح القشرة ما قبل الجبهية في الدماغ هذه الأنماط عادة عندما لا تكون ملائمة للظروف، أما خلال النوم الذي تكون حركات العينين فيه غير سريعة، فلا يقوم هذا الجزء من الدماغ بوظيفته، وتتحكم بهؤلاء الأشخاص الدوافع الغريزية، وردود الأفعال التلقائية.
مخاطر وجرائم
التعب والإرهاق قد يزيدان من احتمال حدوث السير أثناء النوم “السير نومي” (Somnambulism)، إضافة إلى عوامل الوراثة، والقلق، والتوتر، وتناول بعض العقاقير المخدرة والمنومة. وحينما ينهض النائم/السائر (ما بين ثلاثين ثانية إلى ثلاثين دقيقة أو أكثر)، فقد يفقد توزانه، فيتعثر أو يرتطم بقطع الأثاث. وقد لا يميز بين الباب والنافذة إذا كانت مفتوحة فيسقط منها. وهو ما حدث في “ميونيخ” عندما سقطت شابة تدعى “برليني” من شرفة منزلها في الطابق العاشر. وتأكدت الشرطة بعدم وجود شبهة جنائية وراء الحادث. وتأسف طبيبها النفسي لما علم بوفاتها، إذ كان يعالجها من مشكلة المشي خلال النوم. كذلك، تناقلت الصحف بداية عام 2009 خبر قفز شاب يناهز 18 عامًا، من نافذة غرفته في الطابق السابع بمدينةٍ جنوبَ ألمانيا، فسقط قتيلاً، وكان معروفًا عنه أنه يمشى في أثناء النوم.
وللمرة الأولي في تاريخ القضاء الأمريكي (عام 1846)، استخدمت تلك “الظاهرة” للدفاع عن “ألبرت تيرل” الذي قتل امرأة بقطع رأسها. وقال محامي “تيرل” بأنه مصاب بمرض “الدفاع النائم”، ففعل ما فعل تحت تأثير النوم. ووافقت المحكمة على مرافعة الدفاع وأقرت بأن “المتهم غير مذنب”.
وفي عام 1870م، هبط أحد نزلاء فندق “كنتاكي” إلى البهو وأطلق النار على أحد العاملين، ثم خرج مسرعًا.. تم القبض على “فيان” واتهم بجريمة “القتل غير العمد لأنه كان نائمًا. وفي الاستئناف تم إبطال الحكم، حيث أكد التقرير الطبي أن “المتهم لديه تاريخ مرَضي طويل في السير في أثناء النوم”.
وكان “برادلي” من “تكساس” يستعد للنوم، ووضع مسدسه أسفل وسادته؛ لشعوره بالخوف من التعرض لهجوم ما.. وبعد ساعات سمع الجيران صوت طلقات الرصاص في منزل “برادلي” الذي أفاق من نومه ليجد صديقته غارقة في دمائها.. ألقي القبض عليه بتهمة القتل، لكن محاميه أثبت أنه “فعل ما فعل بينما كان نائمًا”.
وفي عام 1981 اتهم “ستيفن ستينبيرغ” بقتل زوجته في أثناء إحدى النوبات، وتمت تبرئته. واتهم الشاب الكندي “كينيث باركس” البالغ من العمر 23 سنة، في جريمة قتل؛ حيث قام الفتى (عام 1987م) بقيادة سيارته لمسافة 14 ميلاً، ليصل إلى منزل عائلته بالتبني، وهناك قتل والدته بالتنبي بسكين المطبخ، وأصاب زوجها بجراح شديدة. أرفق محامي الدفاع تقارير طبية تفيد بأن “المتهم مصاب بمرض الباراسومنيا”، فتمت تبرئته.
لكن لما قتل “ريكسيغرز” زوجته (عام 1994) حاول الدفاعُ تبريرَ الجريمة بشتى الطرق، فقالوا بأنه “كان نائمًا واستيقظ ليجد زوجته مقتولة والبندقية في يده”، لكن المحكمة لم تأخذ هذه الأقاويل بعين الاعتبار، وحُكم على “ريكس” بالسجن مدى الحياة، لكن تم العفو عنه بعد فترة من الزمن.
وفي عام 1997، قام “سكوت فالاتير” بطعن رجل وزوجته 44 طعنة بسكين صيد، وحين جرَّه إلى فناء المنزل الخلفي، شاهده أحد الجيران فأبلغ الشرطة.. واتهمته المحكمة “بتهمة القتل العمد”، لكنه برر ما فعله بكونه كان نائمًا. عثرت الشرطة على أداة الجريمة، والقفازات، وملابس ملوثة بالدماء كانت مخبأة جيدًا. لم تقنع المحكمة بأقواله، وتم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة القتل من الدرجة الأولى.
وفي عام 2001 قام “ستيفن ريتز” بقتل صديقته “إيفا وينفرونتر” في الأربعينات من عمرها؛ حيث حطم رأسها وشوه جسدها.. لكنه أنكر ما فعل، مؤكدًا عدم تذكره شيئًا مما حدث، وأنه مصاب بمرض “السير النومي”، لكن المحكمة لم تقتنع بدفاعه، وحكمت عليه عام 2004 بالسجن مدى الحياة.
وكان موقع إذاعة BBC البريطانية قد نشر (20 نوفمبر 2009) خبر قيام “برايان توماس” البالغ من العمر 59 عامًا، بقتل زوجته “كرستين” (57 عامًا). وهو الذي عاش معها أربعة عقود وأنجب منها ابنتين. وتعودا على التنقل والترحال بسيارتهما الكبيرة المجهزة. وفي إحدى الرحلات الخلوية شاهد حلمًا كأن لصًّا يقتحم عليهما الكابينة المتنقلة، فانقض عليه وخنقه، فلم يكن يدرك أنه يخنق زوجته. قام محامي “برايان” بالدفاع عنه: “إنها حالة استثنائية للغاية.. المشي في أثناء النوم”. وقدمت تقارير طبية، وأدلة خبراء اضطرابات النوم.. وافقت النيابة على أن “تصرفات المتهم غير عمدية ولا يُحمل نتيجة تصرفاته وهو تحت تأثير تلك الحالة”.
وفي عام 2012 كان المُحقق “بورنمان” قد قام بتحري قضية جندي أمريكي ضرب زوجته بمسدسه عندما حاولت إيقاظه.. وبعد الواقعة، ادعى أنه لم يقصد مهاجمتها، وأنه لا يذكر ذلك البتة، وأن كل ما يتذكره هو أنه “كان نائمًا ويحلم بأنه يستعمل سكينًا لصد جاسوس يهاجمه”.
وعلي أية حال، تحتل “جرائم القتل في أثناء النوم” العناوين الرئيسة في الصحف، وبعض الأعمال الدرامية.. ففي دراسة بمجلة “علم الأعصاب/ الدماغ” (عام 2010)، سُردت 21 حالة بُرِّئ المتهمون في ثلث عددها. ويبقي أن العنف غير القاتل، وغيره من السلوكيات الخطرة والضارة في أثناء النوم، هي أكثر مما يخشاه الناس. فقد أظهرت نتائج دراسة بمركز النوم التابع لأحد مستشفيات سويسرا على 74 شخصًا بالغًا يعانون من المشى في أثناء النوم، أن 32% منهم سجلوا حوادث عدوانية، في حين سجل 19% تعرضهم لإصابات وجروح وهم نائمون، ولجأ 40% إلى الصراخ العالي في أثناء الليل.
خَطل النوم محاولة للفهم
خطل النوم، مصطلح يصف السلوكيات غير العادية في أثناء النوم (باراسومنيا)، وانبثق عنه “طب النوم الجنائي”. ويُقسم المختصون حالة “اللاوعي” إلى دورات نوم ذات حركات عين سريعة، وأخرى غير سريعة، وتنقسم الأخيرة إلى ثلاث مراحل جزئية. وغالبًا ما تحدث ظاهرة “السير في أثناء النوم” في الثلث الأول من الليل، وعند الفترة الانتقالية من النوم العميق إلى حالة الحلم. وتتزامن مع نشاط حثيث للدماغ فيؤدي إلى حالة من “اللانوم واللايقظة”. ويتحمل المخ أكثر من طاقته، وتتنامى تيارات كهربائية دماغية تبقي الاتصال مع مركز الحركة مفتوحة، فيرسل حوافز عصبية إلى العضلات فينهض من نومه ويبدأ رحلته الليلية غير المخطط لها.
ولقد شكلت السلوكيات غير المشروعة في أثناء النوم، محط اهتمام اختصاصين بادروا إلى إنشاء “مكتب تحريات جنائية”، وتلته “رابطة طب النوم الجنائي الشرعي” (Sleep forensics Associates)، وهو معترف به في الولايات المتحدة، ويستعان بخبراته أمام القضاء عند اللزوم. وباشرت هذه الرابطة من خلال مكتبها، فحص أكثر من 250 حالة. وتبدو أهمية عمل خبراء الرابطة في فحصهم مدى اضطرابات النوم لدى الجاني، وتأكيد أو نفي مسؤوليته عن أفعاله بحسب تشخيص حالته إيجابًا أو سلبًا. ولهم في ذلك أدواتهم العلمية والاستعانة بنظرية “النوم الموضعي” (Local sleep theory). وقد اعتمدها المجتمع العلمي عام 1993 في ضوء تقارير الباحثين بجامعة واشنطن، وقد أحدثت ثورة في علم النوم. وأوضحت هذه النظرية أن أجزاء من الدماغ تكون نائمة، في حين تظل أخرى منتبهة.
وتبلورت في مقال (عام 1993) شـــارك في كتــابتـــه “ج. كرويكر” من جامعة ولاية واشنطن في سبوكين، وأشار لوجود دليل واقعي على نوم الدماغ جزئيًّا عند الثدييات الأخرى. فالدلافين تغفو بنصف دماغها فقط، وتسبح وإحدى عينيها مفتوحة. وراجع “كرويكر” أبحاث “آفات الدماغ” عند البشر، فوجد أن الإنسان يستطيع النوم مهما كان الجزء/الحجم المتضرر من دماغه أو المفقود منه. ويعد هذا حجة تنفي وجود منطقة مركزية لأوامر النوم في الدماغ. لذا ليست حالتا “النوم واليقظة” ظاهرة ثنائية الأوجه، بل تحصلان ضمن طيف من الخطوات. وإذا كان من الممكن للأشخاص أن يكونوا نائمين جزئيًّا وهم -خلافًا لذلك- مستيقظون ظاهريًّا، وجب أيضًا أن يكونوا مستيقظين جزئيًّا في الوقت الذي يكونون فيه نائمين فعلاً.
وثمة إعجاز تشريعي في حديث رسول الله : “رُفع القلمُ عن ثلاث: عن الصَّبي حتى يبلُغَ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيقَ” (رواه أحمد)، ولم يكن أحد على عهده يتصور “فرضية جناية النائم”. كما لم تكن لها شواهد أو تجارب واقعية استدعت تشريعًا حاسمًا، لكنه -وهو المؤيد بالوحي- أكد على فرضية “جرائم النيام”. ونص نصًّا تشريعيًّا رائدًا على “انعدام مسؤولية النائم الجنائية عن أفعاله حتى يستيقظ”؛ وذلك لانتفاء الإرادة والاختيار بفعل حالة النوم التي استغرق فيها حقًّا وصدقًا. كما قاس الفقهاء جريمة النائم -على فرض حدوثها- على جريمة المجنون. لقد كان على البشرية أن تنتظر قرونًا من الزمان، ليتكشف أمامها معجزة النص التشريعي. في ضوء تدخل شراح القانون الجنائي لبحث “مسؤولية أشخاص ارتكبوا جرائم وهم نائمون”، واستنادًا على بحوث علمية نشرتها كبرى الدوريات العلمية والطبية والجنائية المتخصصة.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.