جهود الأزهر الشريف في نشر قيم التعايش السلمي

جاءت دعوة الإسلام عالمية ليس فقط في حدودها الزمانية والمكانية والمنهجية، بل تنطلق عالميتها من قيم وأخلاق الإسلام، ومن منهجه الروحي والواقعي، ودليل عالمية الإسلام من جهة قيمه وأخلاقه ما جاء في دعوته الصريحة للعالم كله أن يدخل في منظومة هذه القيم ؛كي يعيش الناس في سلم وأمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ)(البقرة:208) والسلم بفتح السين -على قراءة – بمعنى المسالمة.

فالإسلام يفتح آفاقه ليس فقط لمن يريد السلام بل لكل من يجنح إليه، ويزيد على ذلك أنه يضمن الأمن والأمان ويحمي المستجيرين به حتى من غير المسلمين: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ)(التوبة:6)

ومن النماذج الواقعية الفريدة في التعايش السلمي صحيفة المدينة وما جاء فيها من بنود تحث على احترام الآخر، وإعطائه حقوقه كاملة دون نظر لمعتقده وجنسيت، ودون نظر للونه وموقعه الاجتماعي، فالكل سواسية كأسنان المشط الواحد، وملخص هذه البنود ساقها -صلى الله عليه وسلم- في صورة قاعدة عالمية للمواطنة بقوله: “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”.

وانطلاقًا من هذه الرؤية الإسلامية للتعايش السلمي تعامل الأزهر مع الجنس البشري، ومع كافة الثقافات والأديان بلغة حضارية تتصل بكل ما هو إنساني بعيدًا عن المسلمات والأفكار المسبقة، فالأزهر الشريف ينطلق من دوره العالمي في نشر التعاليم السمحة للإسلام.

الأزهر الشريف واحترام التعددية الدينية

التعددية الدينية تنطوي على أمرين: الاعتراف بتعدد المعتقدات داخل وطن ما، والتعايش السلمي بين أصحاب هذه المعتقدات مع احتفاظ كل بخصائصه العقدية. ففي ظل الإسلام لا يحجر على المعتقدات الأخرى، وفي ظل دولته يمنحهم الحرية الكاملة في ممارسة شعائر أديانهم ،والقيام بطقوس عباداتهم، وتنفيذ تعاليمها وأحكامها دون أن يفرض عليهم شعائره وأحكامه أو يتدخل في شؤون أديانهم.

ولتفعيل هذه التعددية الدينية على أرض الواقع وتناغما مع نشر ثقافة التعايش السلمي بين أبناء الجنس البشري فقد قام الأزهر الشريف بجهود كبيرة أحدثت ضفرة ملموسة، ويتمثل هذا الجهد في بيت العائلة المصرية الذي أصبح صوتًا واحدًا للأزهر والكنيسة، وكان علامة بارزة في نشر سماحة الإسلام. كما برز دور الأزهر الشريف –أيضا- في نشر ثقافة التعايش السلمي من خلال مجلس حكماء المسلمين، ووثيقة الأخوة الإنسانية، حيث كان لهما دور عظيم في تحقيق السلام العالمي والسلم المجتمعي، فقد أسهمت تلك الجهود في نشر ثقافة الحوار والتفاهم، والتسامح وقبول الآخر والتعايش السلمي بين الناس، والتعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وقبول التنوع والتعدد في كل مجالات الفكر.

كما كان للأزهر الشريف دور كبير في حماية دور العبادة، من معابد وكنائس ومساجد؛ لأن هذه الحماية تعد واجبًا تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية.

كما أن للأزهر الشريف جهودًا ملموسة في دعم الحوار والتعايش شملت تعزيز السلم في كل المجتمعات، وإرسال قوافل سلام دولية لقارات إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا لنشر ثقافة التعايش المشترك في هذه المجتمعات من خلال توضيح تعاليم الإسلام الصحيحة، وتقديم العون والمساعدة بشتى صورها لإخوانه في الإنسانية بغض النظر عن الدين أو الجنس أو اللون أو اللغة.

وقد حرص الأزهر الشريف –كذلك- من خلال خطابه الدعوي التأكيد على احترام التعددية الدينية، من أجل ذلك انتشر دعاته وعلماؤه في جميع المحافظات والمؤسسات التعليمية وغيرها من المؤسسات الرسمية لتعزيز وتنمية روح الانتماء للوطن، والتصدي للدعوات الهدامة التي تحاول أن تفت في عضد التلاحم والاصطفاف الوطني، فدعوة الأزهر دعوة توافقية وليست تصادمية يقبل الجميع ويحترم أيدلوجياته، ويسعى في تقريب وجهات النظر المختلفة عن طريق منهجه الوسطي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

ولقد حمى الأزهر الشريف النشء الصاعد بتحصينه من الانحرافات الفكرية والممارسات الخاطئة والظواهر المدمرة كالتكفير والإرهاب والعنف والقتل والتفجير والإلحاد..، وغير ذلك مما يهدد السلم العالمي ويضرب استقرار كثير من المجتمعات الإنسانية في مقتل، حتى أصبح العالم كله مهددًا بالدخول في دوامة الفوضى المدمرة والعنف الذي لا يبقي ولا يذر، ومن منطلق المسئولية الشرعية والوطنية والإنسانية الملقاة على عاتق الأزهر الشريف، وإيمانا منه بضرورة مواجهة الأفكار المنحرفة والمفاهيم الخاطئة مواجهة علمية رأت مشيخة الأزهر تقرير تلك الأفكار المغلوطة وضبط مفاهيمها، ثم مواجهتها بفلسفة الإسلام ورؤيته الصحيحة لهذه القضايا..، وقد طرحت على بساط البحث عدة قضايا مرتبطة بمواجهة هذه الأفكار المغلوطة منها: أدب الحوار، المفهوم الصحيح للهجرة، قضية التكفير، المفهوم الصحيح للجهاد، المفهوم الصحيح لمنصب الخلافة، المفهوم الصحيح لآيات الحاكمية…وكل ذلك جاء في أسلوب سهل لطلاب المرحلة الثانوية يتناسب مع عقولهم.

الأزهر وتوطيد الحوار بين الشرق والغرب

الحضارة الإسلامية تدعو إلى الحوار، حيث كان الحوار نهجا ربانيا وجزءًا من عقيدة المسلم، حيث ألزم القرآن الكريم النبي- صلى الله عليه وسلم- أولاً- ثم من تبعه من المسلمين بهذا الخطاب الراقي: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) .وهذا النداء يشكل أول نداء عالمي للتعايش بين الديانات الموحدة، وهو أول نداء عالمي للتعايش السلمى بين المجتمعات، ولقد وجد هذا النداء تطبيقه في الحياة العملية، حيث قام محمد- صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته واستقراره في المدينة المنورة- بمعالجة إنسانية متطورة للعلاقة بين التكوينات الاجتماعية والسياسية الحديثة العهد بالإسلام، من خلال دستور عرف بصحيفة المدنية، جاء بشكل اتفاقية مبرمة بين فصائل سكان يثرب على اختلاف أصولهم العرقية وعقائدهم الدينية من أجل أن تصبح المدينة حرمًا آمنا للتعايش السلمى، في ظل احترام جميع العقائد، فقد بات الحوار اليوم أكثر اتساعًا ومدى بفعل حركة التواصل واختراق الحدود والفواصل الزمنية والمكانية، حيث أصبحنا نعيش ضمن ما يسمى “القرية الكونية”، وهذا ما يسعفنا بنشر قيمنا وأفكارنا في الكشف عن إنسانية وعالمية الحضارة الإسلامية وعالم اليوم- بفعل التحولات العميقة التي يمر بها- يعد أرضا خصبة لتقبل الآراء الإنسانية، على أن تشفع ببرامج وخطط واضحة الأبعاد، وفكرة العالمية التي بشر بها الإسلام ودعا إليها هي أقرب إلى عقول الناس ونفوسهم على مستوى العالم؛ لأنها تبحث عن معنى الحياة، والقيم السامية متجاوزة القيم المادية التي سيطرت على مجتمعات عدة في عصرنا الحاضر، فالعالمية الإسلامية نزعة إنسانية، وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات والتعارف والتساند بين الأمم والشعوب والدول، ترى العالم منتدى حضارات يجمعها المشترك الإنساني العام، وعالمية الحضارة الإسلامية جاءت كثمرة من ثمرات عالمية الرسالة، التي شاء الله أن يختم بها شرائعه إلى الإنسان، وتحدث القرآن عن هذه العالمية بقوله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ)

وفي إطار حرص الأزهر الشريف على التواصل مع كافة الثقافات، قام شيخ الأزهر بجولة أوربية شملت إيطاليا وبريطانيا عقد خلالها الحوار الأول بين حكماء الشرق والغرب بمدينة فلورنسا التاريخية وذلك بهدف الوصول إلى صيغة مشتركة للتعايش السلمي وتعزيز ثقافة السلم وقبول الآخر وإعادة الثقة بين الشرق والغرب.

كما شارك الأزهر الشريف في العديد من الفعاليات المهمة لمناهضة العنف والإرهاب والتطرف في شتى بقاع الأرض منها على سبيل المثال: ملتقى “متحدون لمناهضة العنف باسم الدين” بالعاصمة الأردنية عّمان، كما شارك بمنتدى شرم الشيخ لتحصين شباب الجامعات ضد التطرف والإرهاب والمؤتمر الدولي لمواجهة داعش بنيويورك ومنتدى فاس لمناهضة التطرف والإرهاب…وغير ذلك من الجهود التي تبرهن برهنة عملية على دور الأزهر في نشر قيم التسامح والتعايش والسلم العالمي.