استوقفني مليًّا مقطع فيديو لرهط من الشباب يديرون مقهى “تبسم” (Tebessüm) ببلدية منطقة “أوسكودار” بإسطنبول. وقد حرصوا على جذب الكثير من الرواد مما جعل المقهى يحظي بشعبية كبيرة. لم أمر على الخبر/ الفيديو مرور الكرام كون هؤلاء الشباب “المدراء” من أصحاب متلازمة “داون”. فما هي تلك المتلازمة؟. وهل يستطيع أهلها الاعتماد على أنفسهم، وكسب قوت يومهم عبر مهن يتدربون عليها، ليستقلوا بذاتهم دون البقاء “عالة” علي غيرهم؟. وهل مقهى “تبسم نسيج وحده”؟.
يعتبر مقهى “تبسم” جزءً من مشروع نفذته بلدية “أوسكودار” في حديقة قصر “برهان فيليك”. ويفتح أبوابه طيلة أيام الأسبوع، ما بين الثامنة صباحًا وحتى الثامنة مساءً، ويُمكِنه استقبال نحو أربعين زبونًا مُقدماً لهم خدمات متميزة. وقد تم توظيف هؤلاء الشباب (ما بين 18-35 عامًا) من مصابي متلازمة “داون” بعد اجتيازهم -بنجاح- دورة (لشهرين ونصف الشهر) حول النظافة والخدمة والسلوك، ومن ثم باشروا العمل في المقهى. ويتبادلون مناوباتهم بانتظام ويتلقون أجراً شهريًا. كما تعمل في المقهى أمّهات متطوعات يُساعِدن في مطبخ المقهى. وعلى جانب آخر.. يشار إلى أن السباح التركي وعضو المنتخب الوطني للسباحة “جانر أكين” المصاب بمتلازمة “داون”، أيضاً، تمكن من اجتياز مضيق “البوسفور” سباحةً، ليسجل انجازاً غير مسبوق على صعيد السباحين أصحاب هذه المتلازمة. مما يؤكد على دور الأسر، في دفع أبنائهم لتنمية مواهبهم وانخراطهم في المجتمع.
“تبسم” ليس وحده
لم يكن مقهى “تبسم” نسيج وحده في مضمار (داون كافيه). ففي “بريشتينا” عاصمة جمهورية “كوسوفا” ورغم انتشار الكثير من المقاهي، إلا أن مقهى (X21) يسير على نفس الدرب فمعظم العاملين به من أصحاب متلازمة “داون”. ويقبل الكثيرون على ارتياده لتميز خدماته، من الاستمتاع بمذاق القهوة بمختلف أنواعها، فضلاُ عن الابتسامات التي ترتسم على وجوه العاملين الذين يستقبلون الزبائن بوجه بشوش، وترحاب جمّ. ويخصص المقهى جزءًا كبيرًا من دخله لمنظمة غير حكومية تساعد “أصحاب داون” على الانخراط في العديد من الأنشطة الاجتماعية. وقال “ألدي هوكسا” “20 عاماً” ويعمل نادلاً إنه “يستمتع بمهام عمله ويحبه كثيراً حيث يعمل من الثامنة صباحاً حتى الثالثة عصراً، ولا يشعر بتعب لأن الزبائن مهذبون ومُشجعون، مما يجعله سعيداً وبخاصة عندما يرى أفراد أسرته أو أقاربه يأتون لتناول القهوة عنده”. ويقول “حاجيني بكري” صاحب المقهى:” إن العمل في المقهى يكسر بعض المفاهيم الجامدة والأحكام المسبقة والصور النمطية لدى كثيرين بشأن متلازمة (داون)”.
وكان قد افتُتح في مدينة “نانت” الفرنسية، مطعم “لو روفليه”، الذي يعمل في مطبخه كما في قاعة استقبال الزبائن ستة أشخاص من مصابي متلازمة “داون”. أما وسط العاصمة الأردنية عمان فيوجد مطعم “دي دي” حيث يستقبلك ـ بابتسامة وترحاب ـ الشاب الأردني “مالك دياب” (18 عاماً) المولود بمتلازمة (داون)، أمام مطعمه الخاص (أنشأته له والدته) ليقدم مخبوزات طازجة يعدها بنفسه. ومؤكداً علي أن “الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الفكر والصورة النمطية الخاطئة”. وفي الجوار الفلسطيني تعمل أيضاً الشابة الفلسطينية “هبة الشرفا” (المصابة بتلك المتلازمة) مساعدة معلمة في جمعية “الحق في الحياة” التي تهتم وترعى مرض المتلازمة في قطاع غزة.
وللحصول على فرصة للاندماج في أسواق العمل.. وقَّع الطفل البريطاني “جوزيف هيل” (11 عاماً) من أصحاب (داون)” عقداً مع شركة “River Island”، ليصبح وجهها الإعلاني، ويظهر مع أطفال من نفس العمر في حملة “RI Kids Squad”. كما أفادت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية أن عارض أزياء مشهور (29 عاما) قد فاجأ شقيقته الكبرى “بريتاني جارفولا” (32 عاماً) المصابة بمتلازمة داون بإعداد جلسة تصوير احترافية لها، لتحقيق أمنيتها في حصد الكثير من المتابعات على حسابها الشخصي في موقع “إنستغرام”، ولتتمتع بشهرة واسعة مثله.
ما هي “متلازمة داون”؟
متلازمة (داون) (Down syndrome) هي: “مجموعة من الصفات الجسدية والذهنية والنفسية الناتجة عن مشكلة في الجينات تحدث في مرحلة جنينية مبكرة”. وتصيب واحداً من كل ألف مولود في العالم. ويتسم أصحابها بملامح مميزة في الوجه (أذنين صغيرتين، وفم صغير)، وعينين مائلتين، وجلد زائد في زاوية العين الداخلية، وبقع بيضاء في القزحية (بقع برشفليد). مع بروز في الأسنان (لتضخّمها) مع صغر تجويف الفم، وصغر منطقة الذقن. أما الشكل الجانبي (بروفيل) فمسطح. كما يتصفون برقبة ويدين وساقين قصيرة، وارتخاء في المفاصل، وضعف حاسّة السمع. كما قد يعانون من ضعف في القدرات الذهنية بدرجات معينة. ومن الناحية النفسية.. يتصفون بخفة الروح، ورقة الإحساس. وتتفاوت حدة علامات المرض من مريض لآخر، لكنها تتراوح، عموماً، ما بين الخفيفة جداً والمتوسطة. وقد لا تظهر كل هذه العوارض في كل أصحاب المتلازمة. لذا يعتبر كل شخص منهم شخصاً “فريداً” له “بصمته الخاصة” من الأعراض/ الصفات المُتشابه/ المختلفة مع أقرانه.
ومن المعلوم أن كل خلية في جسم الإنسان تحتوي على 46 كروموسوماً (23 زوج)؛ 22 زوج يمثل الكروموسومات الجسدية، وزوج واحد مسئول عن تحديد نوع الجنس، سواء ذكر (XY )، أو أنثى (XX). ونصف هذه الكروموسومات مورث من الأم والنصف الآخر من الأب. وتنتج متلازمة (داون) عن زيادة في إجمالي عدد الكروموسومات ليصبح (47 كروموسوماً) وتكون الزيادة في الكروموسوم رقم (21). وهذه الزيادة إما نسخة إضافية كاملة أو جزئية. ويعتبر تحليل الكروموسومات (الكاريوتيبنج) عاملاً هاماً في تشخيص هذه الحالات الوراثية. ويُعزي لهذه الزيادة في المادة الوراثة تغيير مسار النمو الطبيعي، وظهور الأعراض/ الصفات المميزة للمتلازمة.
وقد سُمّيت بمتلازمة (داون) نسبة للطبيب البريطاني “جون لانغدون داون” الذي كان أول من وصفها عام 1862. وقد سماها في البداية “بالمنغولية”/ “البلاهة المنغولية” كحالة من الإعاقة العقلية في تقرير له نشر عام 1866. ورأي أن الأطفال المولودين بها لهم ملامح بالوجه (خاصة زاوية العين) تشبه “العرق المنغولي” اعتماداً على النظرية العرقية السائدة حينها. وبقيت المعتقدات حول ربط متلازمة (داون) بهذا العرق حتى سبعينات القرن العشرين. وفي عام 1959 اكتشف “جيروم لوجين” أنها بسبب النسخة الإضافية من الكروموسوم (21)، لذا أطلق في “برشتينا” لفظ مقهى (X21)
النمو المعرفي واللغوي والاجتماعي
يختلف النمو المعرفي بين الأطفال أصحاب متلازمة (داون) من طفل لآخر. وتتم تحديد طرق التعليم المناسبة لكل فرد بعد إجراء تجارب واختبارات خاصة. ويتباين نجاحهم المدرسي بشكل كبير، ويجب تقويم كل حالة على حدة. ومن المعلوم أن بعض التأخر المعرفي لأطفال متلازمة (داون) قد يصيب أطفالاً عاديين وقد يُستخدم معهم برامج مدرسية عامة. ويعاني معظم أطفال متلازمة (داون) تأخراً في الكلام يستلزم علاج لغة ونطق خاص لتحسين القدرة على التعبير اللغوي. كما يختلفون في قدرتهم على التواصل الاجتماعي. ويتم الكشف روتينياً على مشاكل الأذن الوسطى وفقدان السمع فقد تساعد الوسائل المساعدة على السمع أو مكبرات الصوت في تعلم اللغة. أما تقييم القدرات اللغوية فيساعد على تحديد نقاط التفوق أو الضعف. ويستهدف العلاج اللغوي الفردي مشاكل لغوية محددة قد تكون زيادة القدرة على الاستيعاب أو قد تصل لتطوير قدرات لغوية متقدمة. كما تستخدم طرق الاتصال المعززة والبديلة كالإشارة للأشياء ولغة الجسد واستخدام الصور لتساعد على التواصل.
وقد أصبح التحاق أطفال متلازمة (داون) بالتعليم العام أقل جدلاً في عدد من الدول. فهناك محاولة في المملكة المتحدة حيث دمج أطفال بقدرات مختلفة مع زملائهم من نفس العمر. مع العلم أنه ليس لأطفال المتلازمة العمر العاطفي والاجتماعي والذكائي ذاته لدى غيرهم من الأسوياء. ومما قد يزيد فجوة الفرق بينهم مع الزمن. كما إن التفكير المركب الذي تحتاجه مواد دراسية (كالتاريخ والفنون وغيرهم) قد تكون بعيدة عن قدرات الأطفال المصابين، وسيحقق فيها الأطفال الطبيعيون نتائج أفضل. ولهذه الأسباب فإن المصابين سيستفيدون من هذا الدمج في حال حصلت بعض التعديلات على المناهج.
وتتبنى بعض الدول كألمانيا والدنمارك نظام وجود معلمين يتولون الاهتمام بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. ويبقي التعاون بين المدارس العامة والخاصة هو أحد البدائل المطروحة. حبث تقدم الدروس الخاصة بالمناهج في فصول منفصلة بحيث لا تفوق المواد المقدمة قدرات أطفال متلازمة (داون) ولا يتأخر تعليم بقية الأطفال. بينما يتم دمجهم مع غيرهم في الأنشطة الأخرى كالرياضة والفنون وتناول الوجبات. والخلاصة: يمثل الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة تحدياً حقيقياً للعالم. لما يتطلب من توفير الخدمات لتلبية حقوقهم الطبيعية كالآخرين. والمتأمل في مسيرة حضارتنا العربية الإسلامية يجد نظاماً إيمانياً، تربوياً، اجتماعياً، تكافلياً، شاملاً يتبني “هموم الناس”، وبخاصة ذوي الاحتياجات الخاصة، ويسعي لمعالجتها، وتفريجها كروبها. وعلاقة المصابين بمتلازمة (داون) بمجتمعهم تحكمها أطر متباينة: إما أنهم عبء عليه، أو اعتبارهم قصراً تحت الوصاية، أو يُنظر إليهم كأعضاء عاملين. وهذا الإطار الأخير.. حرصت مجتمعات وقامت مبادرات ـ تستوجب المزيدـ علي الأخذ يه، والعمل علي حسن إدماجهم لا إقصائهم. إن “ابتلاء” الإصابة بتلك المتلازمة ليس “عائقاً، ولا إعاقة” أمام كثيرين ممن لديهم القدرات والمهارات التي تؤهلهم للعمل المُتفق مع استعداداتهم.