لا يزال ملف عالم الشيطان بغرائبه وقصصه الأسطورية مفتوحًا منذ اللحظات الأولى لخلق الإنسان، ورغم ظهور الدين الحق وتقدم العلم وتطور الفكر الفلسفي، فإن الإنسان لا يزال متخبطًا على مدى التاريخ وإلى اللحظة الحاضرة، في فهم عالم الشيطان المثير، وفي كيفية التعامل مع أبليس ومختلف صور الشيطان وتجسداته السفلية؟! وبين مؤيد ومعارض، يستمر الخلاف والجدال، وتبقى الحيرة مستمرة ويزداد التردد ولا يتوقف الضلال ولا ينحسر الإضلال، ويظل البحث مفتوحًا في قضية ظلت تؤرق كثيرًا من الناس، كما تؤرق كل من يبحث عن الحقيقة، رغم أن كل ما في الإسلام من حقائق نهائية تنطوي على قوة منطق، وأدلة واقعية، تتفق مع تجارب العقلاء وحكمة الحكماء، في كل زمان ومكان.
ومثلما اختلف الناس حول الشيطان اختلفوا أيضًا حول مشكلة الشر، واستعصى على الجميع فهم المقاصد الإلهية إلا من أمن برسالة السماء، وتنوعت مواقف الفلاسفة من مشكلة الشر في العالم تبعًا لمواقفهم العامة من الدين وطبيعة رؤيتهم الأنطولوجية، وطبيعة رؤيتهم للعالم والحياة، فهناك من الأديان الوضعية من يفسر وجود الشر في العالم عن طريق الاعتقاد في وجود إله للشر، أو أصل منفصل له في الوجود (أصل قديم لم يخلقه الله، مثل المادة أو الظلام) أو كائن كوني أسطوري مثل الأفعى أو التنين، يدخل في صراع مع إله الخير، مثل: الفيدية، والهندوسية، والمجوسية، والزرداشتية بعد تحريفها، والمانوية.
وهناك من الأديان من يفسر وجود الشر في العالم عن طريق الاعتقاد في وجود شيطان أو شياطين، مثل: اليهودية والمسيحية والإسلام، مع اختلاف بينهم في طبيعة دور الشيطان، وكيفية التغلب عليه، فضلاً عن وجود عناصر أخرى غير الشيطان لتفسير الشر في الإسلام، ذلك الدين الذي استطاع أن يتخلص من أساطير القدماء ومن أوهام البشر ومن مغالطات بعض الفلاسفة المتأثرين بالديانات الوضعية أو المحرفة.
ورغم أن الشيطان مسؤول عن جزء من الشر في العالم، فإن الإنسان، عندما يضل الطريق يتحمل جزءًا آخر. وجدير بالذكر أن وجود الشيطان في الثقافات ليس ضروريا فحسب، وإنما هو محوري أيضًا، فالشيطان يرتبط بظواهر ثقافية كبرى، معقدة كالدين والثقافة والتاريخ والأساطير، تغذي فهم الشعوب له، كما انه يتطور عبر الزمن وعبر الاحتكاك مع الثقافات المختلفة. ولا شك أن الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض بشعوره الفطري وبإحساسه الوجودي، أنه ليس الوحيد في هذا الكون، وأن هناك عوالم أخرى وإن عجزت قدراته البشرية عن الإحساس بها رؤية أو لمسا ونحوه.
يضاف إلى ذلك أن الإنسان مع شعوره بحريته في رغباته في إرادته وحركاته يشعر أن هناك مؤثرات على توجهاته وحركاته ليست فقط المؤثرات الطبيعية المحيطة به، وإنما مؤثرات أعمق من ذلك. ولا شك أن الوحي الإلهي المنّزل على رسل الله بحكم استهدافه توجيه مسيرة الإنسان في حياته الدنيوية وفق الصراط المستقيم الذي يحقق له سعادته في الدنيا وفلاحه في العقبى كشف للإنسان حقائق تخص العوالم المحيطة بالإنسان المتفاعلة مع وجوده والمدبرة مع الإنسان بأمر الله الواحد الأحد وهي (الملائكة والجن والشياطين) وحديث الوحي هنا الحقيقة التي لا مراء فيها لأنها صادرة عن الله خالق الكون والمحيط علمًا بموجوداته، والكلام هنا يختص بما جاء به الوحي الموثوق في نسبته إلى الله، لا ما أضيف من قبل بعض أتباع الأديان عليها.
أما الأمم التي تشكلت ثقافاتها بعيدًا عن هدى الله أو التي جاءها هدى الله، ولكنه اندرس لديها تحت وطأة إدخالات الفكر البشري عليه فإن الشعور بتلك العوالم لديها جعلها تتخيل ومن ثم تصوغ معتقداتها عن تلك الكائنات.
أبليس أو الشيطان هو الكائن الذي ابتدأت به صورة الشر مع أبي البشر آدم عليه السلام. الشيطان فرد من العالم الذي يسميه القرآن (الجن) والتسمية كانت موجودة قبل الإسلام لدى العرب، وعالم الجن يُفهم بإزاء عالمين آخرين هما (الملائكة) و(الإنس) هذه العوالم الثلاثة يجمعها أنها مخلوقة لله تعالى، وأنها مُدبرة بأمره، وأن لها أهدافا محددة من قبل خالقها، وتفترق في طبيعتها وشيء من وظائفها.
فالملائكة كائنات روحانية تمارس عبودية متواصلة لربها، يعني لا يصيبهم الإعياء من مواصلة العبادة، ويقوم بعض الملائكة بتدبير الكون وفق أمر الله وقضائه. ومقرها في السماء وقد تنزل منها إلى الأرض، ومع تجردها من الأصل عن المادة إلا أن الله أعطاها القدرة على التشكلات المادية، فضلاً عن تشكلات في ظل عالمها الخاص لا يمكن للإنسان تخيلها.
وللملائكة علاقات وطيدة بالإنسان من حين بداية تشكل وجوده وأثناء حياته وخلال موته وفي حياته البرزخية والأخروية. ومن مهمات الملائكة تجاه الإنسان دعوته للحق والخير، وتزيينه له وتثبيت قلبه عليه. أما الإنسان فهو كائن خلقه الله لمهمة تختلف عن الملائكة هي الخلافة في الأرض والعبادة المتناسبة مع تلك الخلافة، فلئن كانت عبادة الملائكة طبيعة مرتبطة بوجودهم، فإن قيمة العبادة الإنسانية انطلاقها من الاختيار الحر لهذا الكائن بين خيارين متاحين أمامه، فقد أعطى الله الإنسان حرية الاختيار بين طريقي الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، وأمده بمؤهلات الاختيار السليم وهي العقل بفطرته التدينية والقيمية، وبالوحي الهادي، ثم حمّله مسؤولية هذه الحرية بهذه المؤهلات أمامه.
أما الجن فهو نوع من المخلوقات التي خُلقت قبل وجود الإنسان، والجن وإن كان عالمًا سفليًّا لا علويا كالملائكة إلا أنه عالم روحاني غيبي بالنسبة للإنسان لا يستطيع رؤيته في خلقه الأصلي وإن كان هو يرى الإنسان، لكنه يستطيع أن يتشكل بصورة مادية من البشر أو من الحيوانات والحشرات ونحوها.
والجن كالأنس من حيث امتلاكهم الحرية في فعل الخير أو الشر وفي الغرائز كالشهوة الجنسية والأنانية كالعُجب والغرور وحب التملك والضعف الطبيعي. وبناء على تلك الحرية لم يكن الجن صنفًا واحدًا كالملائكة العابدين وإنما كالإنس، منهم الصالحون الأخيار ومنهم الفاسقون الفجار والكفار.
عند بداية خلق الإنسان وإيجاد آدم أبي البشرية كان أحد الجن يعيش مع الملائكة بحكم تماثله في الروحية وبحكم تفوقه في العبادة، فلما أُمرت الملائكة بالسجود لآدم طاعة لله واستشعارًا لكرامة هذا الكائن الجديد، كان هذا الجني مشمولاً بالأمر مع الملائكة، لكنه أساء التقدير وانفعل بغرور بنفسه وشعوره بالتعالي على هذا المخلوق الجديد الذي سيشاركه عمران العالم الأرضي، فرفض السجود لآدم شاذًا عن الملائكة معلنا رفضه لهذا الكائن وحربه له سيتواصل مع وجودهما، هذا الجني هو الذي سُمى بـ(إبليس) أي اليائس من رحمة الله، وبـ(الشيطان) أي البعيد عن الخير، والمتمرد والعاتي.
منذ ذلك الوقت -رفضه السجود لآدم- بدأت بين الشيطان والإنسان علاقة بغض وعداء مستمرين، إذ أنه بعد هذه المعصية التي تحدد بها مصيره وهو الشقاء الأبدي قرر أن يسوق معه هذا الإنسان نحو مصيره بما يستطيع من قدرات، وطلب من الله تعالى أن يعمّره إلى نهاية الدنيا، وأعطاه الله ذلك، فأعلن عليه مشروعه الإفسادي لبني الإنسان.
الجن والشياطين في الأدب العربي القديم: كان عالم الجن أحد العوالم الثلاثة التي شغل العرب وغيرهم منذ القدم، وهي: عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الملائكة، ويرى بعض اللغويين أن الجن يقابل الإنس وأنه بذلك يشمل الملائكة، على اختلاف في السلوك، وأنه قد اشتق من الإجتنان أي التستر والخفاء عن الأبصار..وذهبوا إلى أن الشياطين هم كفار الجن، وأن الملائكة جنود الله يسكنون السماء، بينما يسكن الجن والشياطين الأرض مع الإنسان، وفصل بعض اللغويين القول فذهب إلى أن العرب كانوا إذا ذكر الجن خالصًا قالوا جنى، فإن أرادوا أنه مما يسكن مع الناس قالوا عامرًا واحد العامر بتضعيف الميم، فإن كان ممن يعرض للصبيان ويغويهم قالوا أرواح، فإن خبث وأضل فهو الشيطان، فإن زاد عن ذلك وضل ضلالا بعيدا فهو مارد، فإن تجاوز ذلك وطغى طغيانا شديدًا قالوا عفريت. وكذلك قالوا أن الغول والسعلاة من الجن مثل العفريت.
كان عرب الجاهلية ينسجون الكثير من الأساطير والأقاصيص حول الجن .. وكانوا يرونهم حوريات الصحراء وغيلانها التي لم يستطع الإنسان إخضاعها لسلطانه، على حين يستطيع إيقاع الشر الجسيم والإضرار البالغ به، وذلك بحكم خفائها وتلونها وشدة بأسها وأنها وراء الطبيعة الإنسانية والكونية.
وتشير الروايات العربية بأن الجن سبقوا الإنسان في سكنى الأرض، وأن أباهم (سوبيا) أو(شوبيا) سبق آبانا آدم بسنين تعد بالعشرات أو الألوف على اختلاف الروايات . وروى أن الله تعالى خلق الجن وأمرهم بعمارة الأرض، فكانوا يعبدون الله جل ثناؤه حتى طال بهم الأمد فعصوه وحينئذ أنزل الله عليهم جندا من ملائكة السماء الدنيا أو الأولى، فيهم أبليس، فأجلوهم عن جملة الأرض، وأسكنوهم جزائر البحر، وسكن الجن الأرض من بعدهم..
وأعراب البادية قد بالغوا في ذكر مصاحبتهم للجن، ومخاصمتهم ومقاتلتهم أو مصاحبتهم والزواج منهم، وقد فسر ذلك أبو أسحاق المتكلم، صاحب الجاحظ، بأنه ضرب من الوهم الذي لا يستند إلى أساس ومن أقواله فيه: “أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم عملت فيهم الوحشة .. ومن انفرد مقامه في الفلاة والخلاء والبعد عن الأنس استوحش، ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرة.
والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى والتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة.. وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير ويسمع ما لا يسمع ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم ذلك شعرًا تناشدوه، وأحاديث توارثوها، فازدادوا بذلك إيمانا، ونشأ عليه الناشيء وربي عليه الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس. وعند أول وحشة أو فزعة وعند صباح يوم ومجاوبة صدى، تجده وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور.. وربما كان في المجلس وأصل الطبيعة تفاجأ كذابا أو صاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك الشعر .. ويقول : رأيت الغيلان، وكلمت السعلاة، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها أو وافقتها أو تزوجتها.
ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم ومد لهم فيه، أنهم ليسوا يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيا مثلهم.. وإلا غبيا لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب أو التصديق أو الشك.. ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط. وأما أن يلقوا رواية الشعر أو صاحب خور، فالرواة عندهم كلما كان الإعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر..
وهكذا يفسر أبو إسحاق، لنحو اثنى عشر قرنا خلت، منشأ أقاصيص الجن وأساطير الشياطين تفسيرًا علميًّا مستنيرًا، خلاصته الوحشة وأوهام الوحدة، والجهل، والافتقار إلى ملكة النقد السليم، والرغبة في رواية الغريب المضحك، تزجية للوقت وتسلية للمكدودين ..! ويمكن أن يضاف إلى ذلك ضعف الإنسان، وعجزه عن تفسير مظاهر الكون وإنجذابه إلى ما وراء الطبيعة.
يتابع..