القرن الماضي كان حافلاً بالاكتشافات الأثرية لمدن عربية ظلت مجهولة وغلفتها الأساطير لآلاف السنين؛ ففي بداية عام 1990م امتلأت الجرائد العالمية الكبرى بتقارير صحفية تعلن عن “اكتشاف مدينة عربية خرافية مفقودة” و”اكتشاف مدينة عربية أسطورية” و”أسطورة الرمال (عُبار)” التي جاء ذكرها في القرآن باسم “إِرَمِ ذات العماد”. ثم في15 أكتوبر2015م أعلن علماء آثار من أمريكا، عن عثورهم على بقايا بلدة ترجع للعصر البرونزي شرق نهر الأردن ، ويعود تاريخها إلى ما بين 3500 و1540 سنة قبل الميلاد. وكانت مدينة “سدوم” لقوم لوط، الأمـر الـذي جعــل الاكتشافَين مثيرين للاهتمام، فهما المدينتان اللتان ذكرهما القرآن الكريم تفصيلاً بأوصافهما عندما تم اكتشافهما.
منذ ذلك الحين والعديد من الناس الذين كانوا يعتقدون أن “عادًا” التي ذكرها القرآن الكريم “مجرد أسطورة” ولا يمكن اكتشاف مكانها، لم يستطيعوا إخفاء دهشتهم أمام ذلك الاكتشاف. فاكتشاف تلك المدينة التي لم تُذكر إلا على ألسنة البدو، أثار اهتمامًا وفضولاً كبيرًا لدى “نيكولاس كلاب” المنتج السينمائي الأمريكي وعالم الآثار الهاوي، الذي اكتشف تلك المدينة الأسطورية، ولأنه مغرم بكل ما هو عربي، مع كونه منتجًا للأفلام الوثائقية الساحرة، فقد عثر على كتاب مثير جدًّا في أثناء بحثه حول التاريخ العربي، كان عنوان ذلك الكتاب “أرابيا فيليكس” لمؤلفه “بيرترام توماس” الباحث الإنجليزي الذي ألفه عام 1932م.
و”أرابيا فيليكس” هو الاسم الروماني للجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، الذي يضم اليمن والجزء الأكبر من عمان. وقد أطلق اليونان على تلك المنطقة اسم “العرب السعيد”، وأطلق عليها علماء العرب في العصور الوسطي اسم “اليمن السعيد”. وسبب تلك التسميات أن السكان القدامى لتلك المنطقة، كانوا أكثر من في عصرهم حظًّا، بسبب موقعهم الإستراتيجي من ناحية، حيث إنهم اعتُبروا وسطاء في تجارة التوابل بين بلاد الهند وبلاد شمال شبه الجزيرة العربية، ومن الناحية الأخرى فإن سكان تلك المنطقة اشتهروا بإنتاج “اللبان” وهو مادة صمغية عطرية تستخرج من نوع نادر من الأشجار. وكان ذلك النبات لا يقل قيمة عن الذهب، حيث كانت المجتمعات القديمة تُقبل عليه كثيرًا.
وأسهب الباحث الإنجليزي “توماس” في وصف تلك القبائل “السعيدة الحظ”، ورغم أنه اكتشف آثارًا لمدينة قديمة أسستها واحدة من تلك القبائل، كانت تلك المدينة هي التي يطلق عليها البدو اسم “عُبار”. وفي إحدى رحلاته إلى تلك المنطقة، أراه سكان المنطقة من البدو آثارًا شديدة القدم، وقالوا إن تلك الآثار تؤدي إلى مدينة “عُبار” القديمة.
ومنذ ذلك الوقت حاول فريق من رجال الآثار البريطانيين والأمريكيين -بالاشتراك مع باحثين عُمانيين يقودهم “رانولف فاينز”- الكشف عن بقايا مدينة “إرم” في صحراء الربع الخالي الواقع بين اليمن وجنوب سلطنة عمان، استنادًا إلى الصور التي التقطها رادار وضع على المكوك الفضائي الأمريكي “تشالنجر” يصاحبه قمر صناعي لرسم الخرائط. وأظهرت الصور وجود نبع قديم للماء جف منذ مئات السنين.. فقرر “فاينز” الحفر في الموقع الذي حددته الصور، وأزاح الرمال عن بعض البقايا العمرانية وفيها أسوار وأبراج. وأعلن الأثريون أن الموقع الذي كشفوا عنه يمثل المدينة البائدة، التي عرفت في المصادر الكلاسيكية باسم “وبار” أو “أوبار” أو”عُبار” أو “إرم”. كما عثر على جدران عريضة وقواعد لأبراج للحراسة، ووجدت عدة أعمدة في هذه المدينة، وتَبين أن المنطقة التي كشف عنها تربض على جرف كلسي فوق بحيرة من المياه الجوفية. ومنذ اللحظة التي بدأت فيها بقايا المدينة في الظهور، كان من الواضح أن تلك المدينة المحطمة تنتمي لقوم “عاد” ولعماد مدينة “إرَم”، حيث إن الأعمدة الضخمة التي أشار إليها القرآن بوجه خاص، كانت من ضمن الأبنية التي كشفت عنها الرمال.
قال الدكتور “زارينز” وهو أحد أعضاء فريق البحث وقائد عملية الحفر، إنه بما أن الأعمدة الضخمة تُعد من العلامات المميزة لمدينة “عُبار”، وحيث إن مدينة “إرَم” وُصفت في القرآن بأنها ذات العماد أي الأعمدة الضخمة؛ فإن ذلك يعد خير دليل على أن المدينة التي اكتُشفت هي مدينة “إرَم”، وتقع في القسم الجنوبي لشبه الجزيرة العربية.
أطلانتس الرمال المفقودة
لقد جرت عدة محاولات على مدى التاريخ للكشف عنها، أشهرها محاولة المستكشف البريطاني الشهير “فيلكس” بين عامي 1927-1930م، غير أن هذه المحاولة فشلت كغيرها، مما دعا لورنس العرب إلى وصفها بـ”أطلانطس الرمال المفقودة” نسبة إلى قارة أطلانطس المفقودة في المحيط الأطلسي.
في عام 1981م تصادف وجود المنتج السينمائي الأمريكي “نيكولاس كلاب” في سلطنة عمان، حين سمع عن مدينة أوبار المدفونة لأول مرة. وحين عاد لأمريكا لم يكف عن التفكير في هذه المدينة، فانكب على دراسة كل ما ألف عنها وعن رحلات الاستكشاف التي فشلت في العثور عليها.. وذات يوم قرأ في مجلة “ساينس” العلوم الأمريكية، أن الأقمار الصناعية استطاعت تصوير مجاري أنهار مدفونة تحت رمال الربع الخالي، فتساءل إنْ كانت الأقمار الصناعية قادرة على رؤية مجاري الأنهار تحت الرمال أليس بإمكانها اكتشاف طرق القوافل القديمة التي تمر بمدينة أوبار؟ ومن المعروف أن المدينة كانت ممرًّا للقوافل ومركزًا لتجارة البخور، وكانت تتعامل تجاريًّا مع الشام وفارس وروما.
وعلى الفور اتصل “نيكولاس” بكاتب المقال الذي أبدى استعداده لمخاطبة وكالة ناسا الفضائية وتزويده بالصور اللازمة، وهكذا تم الاتفاق على أخذ صور لأعماق الربع الخالي في المنطقة التي حددها “نيكولاس” لكشف ما أسماه “طريق القوافل الرئيسي” المار بأوبار. وفي أكتوبر عام 1984م التقط مكوك الفضاء “تشالنجر” صورًا رادارية أثبتت -مع صور أخذت من القمر راندسات- وجود ذلك الطريق، غير أن تشكيل فريق البحث وإيجاد التمويل اللازم، لم يتيحا لنيكولاس بدء حملة الاستكشاف إلا في يوليو 1990م. ومن مدينة صلالة انطلقت قافلة من عربات “جيبات لاند روفر” لأعماق الصحراء في خط افترض نيكولاس أنه سوف يمر “فوق” طريق القوافل المدفون تحت الرمال، غير أن مهمتهم فشلت ولم يعودوا إلا بقطع خزفية أثبتت رغم الإحباط الذي أصابهم، وجود حضارة قديمة ازدهرت في تلك المنطقة. بعد عودته إلى الولايات المتحدة اكتشف “نيك” أنهم ساروا في الاتجاه الخاطئ.
في نوفمبر 1991م ، عاد مجددًا إلى عُمان مسلّحًا هذه المرة بصور أكثر دقة، وفريق بحث من جامعة ميسوري، فضلاً عن الإمكانات الهائلة التي قدمتها الحكومة العمانية. وفي منطقة لا تبعد كثيرًا عن واحة سيشر، بدأ عمال الحفر يكتشفون بيوتًا وطرقات ونظام ري في أعماق الرمال.. وكان أفضل ما اكتشفوه سلسلة من الأبراج كانت معدة لحماية الممتلكات الثمينة، وحلي، وأوان زجاجية من روما وفارس والهند، كدليل على تلاقي الحضارات في هذه المنطقة. في الرابع من فبراير1992م، عقد نيكولاس مؤتمرًا ضخمًا، وأعلن فيه اكتشاف “أطلانطس الرمال المفقودة” بعد سلسلة من المحاولات التاريخية الفاشلة.
المدينة الملعونة
لقد حاول عشرات الرسامين أن يتخيلوا عبر القرون ما حل بسدوم تلك المدينة الملعونة من خراب نادر، من خلال الكتب السماوية، ولكن منذ فترة وجيزة انشغل علماء الآثار بخبر العثور على ما يميلون إلى أنه بقايا مدينة “سدوم” المعروفة إسلاميًّا بمدينة “قوم لوط”، والتي تُجْمِع الكتب السماوية -وأهمها القرآن- على ما حدث لها بواقعية علمية، من أن قَصاصًا إلهيًّا جعلها وأهلها كأنها لم تكن، ولم ينج منه سوى النبي لوط وعائلته باستثناء زوجته، وفق ما روى القرآن فصوله بسلسلة آيات.
لقد عثرت بعثة آثار أمريكية ثابرت على التنقيب عشر سنوات في منطقة “تل الحمام” بالأردن، على “الآية” التي طال غيابها، وهي خرائب “سدوم” التي بدأ يتضح أن الحياة “توقفت فيها فجأة” طبقًا لما ذكره البروفيسور “ستيفن كوللينز” (Steven Collins).
“إلا أن كل مظاهر الحياة توقفت فجأة”، هذا الكلام قاله “كوللينز” لأول من نشر خبر العثور على آثار سدوم بالجنوب الأردني في دورية “Popular Archaeology” التي أعدت تحقيقًا معززًا بصور وبيانات، ومنه وصل الخبر الى وسائل إعلام عالمية ما زالت تتطرق للآن إلى مستجدات ما تم العثور عليه، ووصفه رئيس البعثة بأنه “مبان قديمة وأدوات من مدينة كبيرة جدًّا كانت في العصر البرونزي، وكانت دولة ضخمة سيطرت على كل منطقة جنوب غور الأردن”.
في منطقة تل الحمام في الجنوب الأردني، كانت سدوم التي حل فيها الخراب فجأة، تلك المدينة/الدولة التي ذكرت التوراة في “سفر التكوين” بأن الله عاقبها بالنار والكبريت. “لم تتهدم بكاملها بحسب ما كان متوقعا” وفق ما أكده “كوللينز” الذي اعتبر أن ما تم العثور عليه، أشبه “بكنز حقيقي في كل ما يخص علم الآثار من ناحية نشوء وإدارة مدن/دولة بين 1540 إلى 3500 قبل الميلاد”، مضيفًا أن المعلومات عن الحياة في منطقة غور الأردن بالعصر البرونزي، لم تكن متوفرة قبل تنقيبات البعثة الأمريكية، ولا وجود حتى لإشارة في معظم الخرائط الأثرية عنها بأن مدينة قديمة كانت فيها.
وشرح أن ما تم العثور عليه هو مدينة بقسمين، علوي وسفلي، وفيها ظهر جدار من الطوب الطيني، بارتفاع 10 وعرض 5.2 أمتار. كما ظهرت بقايا بوابات لمعبد، ومثلها لأبراج مع ساحة رئيسة، إضافة إلى موقع يبدو أنه كان مميزًا، لأنه كان مدعّم بحمايات خاصة، وكلها منشآت تطلبت أحجارًا من الطوب بالملايين، إضافة إلى عدد كبير من العمال، “إلا أن كل مظاهر الحياة توقفت فجأة بنهاية منتصف العصر البرونزي” وهو لغز يرسم الحل عبر التنقيبات للتعرف إلى ما حدث في “سدوم”، وأشار إليه القرآن بما يختلف عن التدمير بنار وكبريت، وكأن كويكبا ارتطم بالمدينة وجعل أسفلها أعلاها، ونجا منه النبي لوط عليه السلام.
الشائع عن النبي لوط عليه السلام أنه ابن أخي النبي إبراهيم عليه السلام، وكانا يسكنان بمنطقة واحدة هي “بيت إيل” القريبة حاليًّا من رام الله بالضفة الغربية بالأردن، على حد ما يمكن استنتاجه مما قرأت في شرح لما ورد بشأنه في التوراة، ثم انفصل كلٌّ بأهله وماشيته، وراح لوط عليه السلام يبحث شرقًا عن منطقة ريّانة خضراء تتوافر فيها المياه والمراعي، فوجدها قرب مدينتي “سدوم وعمورة” المروية أراضيهما الخصبة بمياه نهر الأردن، فحط رحاله هناك واختار “سدوم” للسكن.. وعنها يذكر القرآن وحده ما اكتشفه “كوللينز” بعد 14 قرنًا، وهو أن “سدوم” كانت عليا وسفلى، طبقًا لما ورد في الآية 82 من “سورة هود” من القرآن الكريم.
سريعًا وجد لوط عليه السلام “السدوميين” متهافتين على الفواحش، فقرر إصلاحهم بدعوتهم إلى الله عزوجل ونهيهم عما يرتكبون، إلا أنهم صدوه فراح لوط يستغيث، فأرسل الله إليه ملائكة فطمأنوه وأخبروه بما سيفعلون: (قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ)(العنكبوت:31)، وشرحوا: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)(العنكبوت:34)، ثم بدأ القصاص الموعود: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ)(هود:82)، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ)(الحجر:73)، وتحقق الوعد: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)(الأعراف:83)، (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(العنكبوت:35).
وما يتضح من الصور حتى الآن -وهي كثيرة- الأواني الفخارية وغيرها، يثبت أن تدمير “سدوم” لم يكن “بنار وكبريت” وفق رواية التوراة، وإلا لظهرت آثار الحرائق على ما تم العثور عليه، ولا يبقي كحل للغز إلا ما ورد بالآية 34 من سورة العنكبوت، عما يمكن أن يكون كويكبا سقط عليها “رجسا من السماء” في إشارة إلى الفضاء، فانشطر إلى أحجار تساقطت عليها بالآلاف كالمطر، وجعل عاليها سافلها، وطواها تراب الحطام أكثر من 35 قرنًا من الزمان.
(*) عميدة كلية التربية بجامعة الإسكندرية سابقا / مصر.