حصان البحر هو أكثر كائنات الطبيعة غموضاً ولطفاً، يعيش بيننا منذ ملايين السنين، يفتننا ويملأ الأساطير ومع هذا لا يزال عصياً على الفهم، ولم يبدأ العلم في الاهتمام الجاد به إلا منذ عشرة سنوات … ترى ما هي حقيقته؟ ولماذا تلد ذكوره ولا تلد إناثه؟
أسئلة مّحيرة بدأ العلم في وضع إجابات لها..، فتعالوا نتابع هذه السطور للاقتراب من عالم هذا المخلوق العجيب.
سيد التمويه
إنه تنين أعماق الحياة وسيد التمويه، ولاسيما حين ينزلق بلونيه الأزرق والليلكي الوهّاجين… اسمه “حصان البحر”، وهو ينفرد برأس تكون عادة منحنية بزاوية قائمة على جذع الحيوان بطريقة تشبه الحصان، والذيل وإن كان صغيراً فإنه يستخدم كعضو حركة في الالتصاق بالحشائش والطحالب البحرية، والجسم نفسه مغطى بصفائح عظمية دائرية منظمة بشكل بديع تغيّر من الشكل للحيوان وتجعل من الصعب تمييزه في بيئته الطبيعية وخاصة حين يتلوى الذيل حول ساق من الحشائش فيبدو وكأنه نبات، ويتحرك حصان البحر بحركات فريدة من أسفل لأعلى حيث يتحرك الرأس أفقياً في حين يكون الجسم عمودياً أو رأسياً.. وأحياناً ما يرى حصان البحر زاحفاً أو ماشياً على قاع البحر من الأحياء المائية المطلوبة حية أو ميتة، ففي كل عام يتم اصطياد أكثر من عشرين مليون منها في جميع أنحاء العالم لتقدم كطعام أو دواء أو لتعرض في معارض الأحياء المائية ككائنات نادرة لذيذة الطعم، ويزداد الإقبال في شرق آسيا علي حصان البحر بغية الحصول على القدرة الجنسية نتيجة تناول لحمها اللذيذ.
وفي الصين يوجد بشمالها نبات الجنسنج الشهير، وفي جنوبها يوجد في بحرها حصان البحر.. والطب الشعبي الصيني لم يذكر هذه الكائنات البحرية كعلاج إلا منذ أربعمائة عام تقريبًا.. وكان المؤرخ الروماني (بليسني) قد ذكر فوائد حصان البحر في علاج الصلع عن طريق رماده بالصودا ثم عجنه في دهن الخنزير.
ويؤكد علماء الأحياء المائية أن أعداد هذه الأحياء المائية غير معروفة ويخشون من إهدار هذه الثروة المائية نتيجة لتلوث مياه البحر والمحيطات التي تعيش فيها من التوسع في الإتجار بها لارتفاع أسعارها.
أغرب تزاوج
يتميز حصان البحر بأن لونه أصفر عندما يواجه الخطر ويهرب في مياه استراليا، ويتدرج لونه من الأسمر الفاتح للون الأبيض المتوهج مثل مصباح “نيون”، وكانت “آماندا فبنست” عالمة الأحياء المائية بجامعة كمبريدج قد راقبت حصان البحر في خليج بميناء سيدني الإسترالي، والغريب أن الذكور تحمل والإناث تضع البيض ليفقس في جيب ذكرها، وكانت آماندا تراقب ذكراً حاملاً عندما داهمه حيوان مجهول وخرق جيبه مصيباً الأجنة وظل الجرح حتى التأم بعد أسابيع عديدة، وكان حصان البحر في هذا الوقت من العام في فصل التزاوج النشط لكن أنثى الذكر المجروح ظلت علي عفتها ووفائها لرفيقها ولم تمارس الجنس حتى التأم الجرح.
ومن المدهش حقاً أن الذكور تحمل … فلا يعُرف حيوان آخر يقوم بهذه المهمة، ولاسيما عنايته الأبوية لصغاره، وبعد ما تفقس من البيض، فالذكور تحرك البيض في جيوبها وتقوم بمده بالأوكسجين عن طريق مروحته لكن هذه الذكور كبقية الأسماك تقوم بإنتاج الحيوانات المنوية، والإناث تفرز البيض لتضعه في جيب فوق ذيل رفيقها الذكر الذي يظل يرعاه محتضناً الأجنة التي تظهر كخيوط رفيعة من أحصنة البحر الصغيرة… وتعيش هذه الأسماك في مياه كندا حتى تسمانيا بين الحشائش البحرية والشعاب المرجانية ، ويوجد منها 35 نوعاً منتشرة في بحار العالم ، وهي تواجه دوماً خطر الصيد لشدة الإقبال عليها ولاسيما في مناطق شرق آسيا لأنها تقوى الناحية الجنسية ولأن طعمها لذيذ .
العشق والوفاء حتى الموت
وقد أجريت التجارب على نوع من حصان البحر، هو فوسكس Fuscus يعيش قرب سواحل سريلانكا فوجد الباحثون أن الذكور تمتاز بروعة ألوانها الزاهية وعلي غير المتوقع، فرغم حرص الذكور والإناث علي التزاوج –إلا أن الذكر أكثر إقبالاً لحمل بيض أنثاه في جيبه– فنراه أكثر نشاطاً في المغازلة والتودد ومطارحة العشق ، وقد ينشب قتال مخيف بينه وبين رفيقته، فالذكر المشتاق غير متسامح ولاسيما عندما يصوب أنفه تجاه منافسه – مع أن الإناث عادة تنمى العلاقة التزاوجية وتتنافس في الجماع بطريقتها الخاصة .
وقامت آماندا بوضع ذكر حصان البحر مع انثيين في حوض مائي ثم وضعت أنثى مع ذكرين – لكنها وجدت أن الذكر أكثر حرصاً علي القيام بعملية الحمل من الأنثى لأن مهمة الإناث إنتاج البيض وسرعة التخلص منه، لهذا شاهدت أن الذكور أكثر نشاطاً وتنافساً لمطارحة الغرام لأن شهوتها قوية وغير محتملة، ويعتبر مرور أي أنثى بين الذكور في الحياة مخاطرة.
ولقد أثبتت كل الدراسات –رغم حمل الذكور– إلا أنها تقوم بعملية التزاوج الجنسي التقليدية وتتنافس عليها كبقية الحيوانات، لكن الإناث تنتظر ذكورها حتى تفرغ من حضانة البيض وحتى يفقس الصغار، وفي هذه الفترة لا تقبل هذه الإناث ممارسة الجنس مع ذكور أخرى مهما كان اشتياقها.
وتستمر فترة حضانة البيض حتى يفقس –ما بين أكتوبر وإبريل من كل عام– وهذا التوقيت تحرص عليه أحصنة البحر بدقة متناهية في المياه الأسترالية حيث تعيش وتضع ذيولها فوق أوراق الحشائش البحرية، وتوجد فوق ذيل حصان البحر عين سمكية تتلّفت حولها باستمرار للمراقبة ورصد الأعداء، وطول الذيل يصل إلى أربع بوصات ونصف ووزنه ربع أوقية.
ويعيش حصان البحر في المياه على أطراف مراعي الحشائش البحرية لتأكل الجمبري الذي يتزايد بكثرة هناك، ويعوم حصان البحر متجولاً بين هذه الحشائش البحرية وقد انتفخ جيبه بالهواء ليساعده على الطفو والعوم في المياه ولا يظهر منه سوى ذيله.
الأمومة للذكور
وأثناء فترة حمل الذكور يعتبر لون الإناث من البني العسلي إلى الأصفر الكريمي، وينحرف الرفيقان في اتجاه بعضهما البعض ويقتربان من نصل إحدى الحشائش ويمسكان به ويأخذ كل منهما يثني رأسه علي استحياء ويتنزهان معاً، وتستغرق هذه العملية عشر دقائق، وأثناء فترة حمل الذكر التي تظل ثلاثة أسابيع تتم هذه الطقوس كل صباح لتؤكد له الأنثى أنها باقية علي وفائها وعهدها معه ويقوم كل منهما بتحية الآخر خلال فترة الحمل؛ وهي فترة الانفصال بينهما، وهذه التحية اليومية تقوّى أواصر العلاقة الزوجية بينهما حتى تشعر الأنثى أن دورها قد أتي لتحمل بيضاً جديداً وتلقي به في جيب ذكرها … فالذكور لا تنتظر وهي خاوية الجيوب من البيض أثناء فصل التزاوج السنوي لأنها دائماً تكون حاملاً خلاله. يعتبر العلماء أن حمل الذكر حقيقي يشبه تقريباً حمل الثدييات بما فيها النساء لأن الذكور تقوم بكل أعمال الأمومة حيث تمد الأجنة بالأوكسجين والمواد الغذائية بطريقة منتظمة عندما تكون هذه الأجنة داخل جيبه فنرى أن هرمون “برولاكنتين” الذي ينشط إفراز اللبن في ثدي الأم المرضع يتحكم أيضاً في حمل ذكر حصان البحر ، لهذا يستخرج هذا الهرمون من الذكر أثناء فترة حملها ويعطي كدواء للسيدات المرضعات لزيادة إفراز اللبن في أثدائهن، ولا يتعدى جيب الذكر في حجمه حجم نصف ملعقة شوربة – لكنه يتسع لحوالي 1572 طفلاً من حصان البحر .
أرقى وأغلى الأطعمة
ويعتبر حصان البحر من أغلى الأطعمة في موائد المطاعم الراقية، لذا يزداد الإقبال عليها وإهدارها بشكل مخيف، فالفلبين تصدر سنوياً حوالي مليون من النوع الأسود والأصفر، وهناك يغوص الصيادون ليلاً أثناء الجزر لصيدها بسهولة، كما يقومون بقتل الأنواع الكبيرة منها لتصديرها إلى الصين بعد تجفيفها في الشمس ليستعملها الأطباء لمداواة مرضاهم بمسحوقها، وتعد الصين أكبر مستهلك لحصان البحر حيث تستخدم في علاج الضعف الجنسي، وفي هونج كونج تعتبر أفضل علاج للربو وتصلُّب الشرايين وتقوية الرغبة الجنسية.
ولابد من الإشارة إلى أن هذا الحيوان الذي يعتبر واحداً من أكبر الكائنات غموضاً وفتنة.. يعيش مهدداً بشكل متواصل، فأبناء مملكة الحيوان هؤلاء الذين تقول لنا الأساطير الإغريقية أنهم هم الذين يجرون عربة نبتون، ويتم بشكل عشوائي اصطيادهم في كل أنحاء الدنيا لتحويل أجسادهم إلى مواد طبية شرقية أو قطّاعات ورق أو ميداليات، وهناك من الأساطير ما يؤكد أن حصان البحر يعتبر من أبناء الطبيعة المدللين فالطبيعة لحبها له أعطته رأس حصان وعنقه وجسم حشرة وذنب قرد وقفز الكنغر.
وفي بعض الحضارات البدائية تحمل النساء حول أعناقهن جسد حصان بحر منشف لاعتقادهن بأن وجوده يساعد علي در حليب الأمومة لديهن، وفي أوروبا يستخدمونه ترياقاً ضد احتباس البول، وفي اليونان القديمة كانوا يستخدمونهم كترياق ضد السرطان والصلع .