الهند تفتخر بثقافة ثرية ومواد تاريخية غزيرة تتعلق بمعيشة الأمم في الأزمان الغابرة، والثقافات التي أثْرَت سطور التاريخ الهندي بصفحاتها النيرة لها مكانة مرموقة لا تلغى في تشكيل الحياة الفردية والاجتماعية في شبه القارة، لقد اكتشفت التحفيرات للآثار القديمة المعلومات الجديدة عن الثقافات التي أنارت الهند بمساهماتها الملحوظة في التعايش السلمي والتعددية الثقافية.
نماذج من العصر المنصرم
كانت المعطيات عن الثقافات القديمة في الهند قصيرة في أواخر القرن التاسع عشرة حينما شرعت التحفيرات الآثارية القديمة، وأبدت الاكتشافات بأن الطبقة الآرية لم تكن هي الأمة القديمة التي تستحق التراث لهذه الأرض الهندية، وكان من نتائج تلك الاكتشافات المرموقة من هذا النوع أن ثقافات موهنجدارو وهاربا لهما أيد لا تلغى في إثراء الثقافة الهندية بشكل فريد.
وكان السكان بهتين المدينتين احتفظوا بشعور الاجتماعية التي كانت منتفية في أنواع مثل الطيور والحيوانات وتلقّت فكراتهم الحادة تطورًا غير مسبوق بنفوذ البيئات التي يعيشون فيها، وامتازت هذه الطبقة بثلاثة مزايا في الثقافة، أحدهما: لم يكن بينهم دولة مستقلة أو ممتلكات فردية أو فروق سلالية، الثانية: وجدت بينهم الاعتقادات التي تربط فيما بينهم الثالثة: أن العلاقة الدموية كانت أهم العناصر حيث إنها حددت الاتحاد والمهام.
ويقول ستورد فكت: كان كل واحد من هاربا وموهنجدارو عاصمتين على حدة لإمبراطورية واحدة باسم هاربا، فعلى هذا الرأي كانت العلاقة بين السكان متوفرة بشعور التعددية الثقافية.
وكانت كلتا الثقافتين التين ترعرعت على وادي سندو مدنية الغزيرة والمصدر الرئيسي للأموال كان التبادلات التجارية، فلا مرية أن هذه العلاقات كانت وطيدة بين متعددة الأطياف والأطراف الاجتماعية مع قطع النظر إلى ما يتبنون من المفاهيم التفكيرية والمبادئ الثقافية.
كانت للتعددية الثقافية جذور راسخة فيما بين الطبقة الآرية حيث اقتبسوا مفاهيمهم الاعتقادية من تلك التي اتخذها غير الآريين للعبادة حتى تضمّنت ذكر القوات في زيّ الإلهات في الكتب المقدسة.
يقول دامودرن: كانت الطبقة الآرية يقودون حياة اجتماعية يكتسبون ويعيشون بالجماعة لا توجد فيهم الفروق حسب الفقر والغنى أو الشرف ونحوه، فعلى مرّ الدهور وكرّ الأزمنة تشتّتت العلاقات العريقة بين الطبقات المختلفة، وكان ذلك بقدوم التفريق الطبقي باسم المنصب الذي يتحلاه كل شخص في المجتمع.
ورغم الاختلافات عما يتعلق لأهداف الكتب المقدسة قائمة إلاّ أن الأخلاق كانت تحتلّ المكانة الرئيسية فيها كما يرى ذلك في النظرية البوذية أيضا، وقد ولدت الهند عديدا من النظريات الموافقة والمعارضة فى طبعها مثل النظرية الجينية ونظرية العدد لكبلن ونظرية شنكرن في الديانة الهندوسية والنظرية الخصوصية ونظرية الويداندية، ثم صدرت الهندوسة من الديانة البرهمنية.
سلطة المسلمين إسهامات للتعددية
كانت الامبراطورية الغورية هي الأولى من نوعها مسلمة الطبع، وعندما توفي غورى سنة 1206 تولى قطب الدين أيبك زمام السلطة، ثم تعاقبت الإمبراطوريات باسم الخلجية والتغلقية والسيدية واللودية ومغول، وكان التوغل قد بذر بذور التحير في قلوب الملوك المسلمين لان معظم السكان كانوا ينتمون إلي الهندوسية لا يربطهم اعتقاد وحداني، فتبصر الحكام بأن استئصال تلك العقائد سينتج نتائج سلبية ربما يحيل الاستمرار في السلطة، فرأى من الأصلح أن يتركوا العقائد على سبيلها، وحتى خالطوهم بالمعايشة الاجتماعية في مجتمع واحد فمحت العناصر التي سببت العائقة فيما بينهم ويؤيده ما قاله تارا جند في كتابه “نفوذ الإسلام في الثقافة الهندية: “كان التفكير في عصر الملك بابر على طريقة واحدة حتى لم يجد الملك أي مندوحة في أن لا يوجه نظره إزاء الأساليب والثقافات الهندوستانية”.
افترق مجتمع المسلمين الى الطبقتين الأجلف والأشرف كما كان في الهندوسية إلا أنه لم تكن حاسمة كما هي في الديانة البرهمنية، وكان ذلك في صحيح النظر مما لا بد منه لاستمرار الهيمنة السياسية فوق المجتمع ولم يتحقق بذلك كما قاله تارا جند الاندماج والمخالطة فيما بين الثقافتين لأن الشعور السلالي كان مهيمنا في كلا الطرفين.
دور الملك أكبر في توطيد التعددية الثقافية
وكان الملك أكبر من مغول من كبار الملوك الذين تساهموا في توطيد وإنماء التفاهم الثنائي بين الديانات المختلفة، وقد أزال إتاوة الجزية لغير المسلمين وشكّل دينا من عند نفسه سماه دين إلهي والذي تحرر بواسطته من سائر القيود الدينية التقليدية وكان يستدعى العلماء العباقرة من شتى الديانات والمذاهب ويعقد المناقشات الجادة معهم لتؤدي إلى مفهوم ديني سليم، وفي ضوء التجربات تحت حكومة أكبر يقول أبو الفضل في آيينه أكبر: فكان على الملك أن يكون اهتمامه فوق كل الاختلافات النظرية وأن لا تكون الديانة عائقة في توفير وتأدية مهامه تجاه الطبقات الاجتماعية.
الاندماج الثقافي في القرون الوسطى
كانت الحركات الرمزية والغامضية سائدة الأوضاع فى القرون الوسطى، ويشير كي دامودرن في كتابه “الفلسفة الهندية” إلى أنه من المحتمل أن تقتبس الحركات الناشطة آنذاك من أبشت وغيرها من الكتب المقدسة من الديانة الهندوكية.
ولنأخذ مثالا على ذلك: وذلك أن نظرية الفناء بمعنى التلاشي في الإله ملجما لجميع الشهوات وصارما لسائر التعلقات الكونية تضاهي للنظرية الحلولية في البوذية، ولقد أشار رينولد نكلسن إلى أنه توجد فيها أيضا أجزاء الفلسفة الهندية وأن الصوفية في ذلك الزمان اعتقدوا بأن كل الديانات حقة ومتحدة الهدف مهما تعددت في الأشكال والعبادات، وهذا مما تعدّد روح الثقافة الهندية ووجّه طرقها إلى عدة جداول نظرية.
والحركات التي بدت باسم بهكتى في الهند ولا سيما في شمال شبة القارة اتسع نطاقها إلى معظم أرجائها والذي كان لها تأثير واضح لا يلغى في نشر مفاهيم التعددية الثقافية، وقد كتب مكاليف في كتابه “الديانة السكهية: “ومما لا ينتطح فيه عنزان ما يقال أن رامانندن قد لقي بالأعلام من المسلمين بكاشي”.
كان أئمة حركة بهكتي وأصحابها يقودون حياة متذللة يكتسبون من كد عروقهم ويخالطون العوام ولا يتميزون بين الديانات المختلفة ويعلنون بأن حياتهم ليس كحياة الكسالى من المتدينين، وأيضا رفضت بأن الفروق القائمة باسم السلالة والجنس لا يعتنى إلاها بين يدي الخالق، ويقول كبير: إن كلا الطرفين يتوخون هدفا يتيهون من أجلها من غير وصول إليها، ولم يطلع بعدُ أحد على رامن، أحدهما يجزر الشاة والآخر يجزر البقرة يضيّعون حياتهم في ثورات لا جدوى فيها.
حالات الهند بعد القرن التاسع عشرة
كانت الهند مهد الحضارات والثقافات المتعددة منذ أمد بعيد حيث كان سكانها يقودون حياة سليمة مع تباع الأيديولوجيات والثقافات المختلفة، إلا أنه وقعت هناك نزاعات في شتى الأمور، لكن تلك الصراعات الصادرة فيما بين متعدد الثقافات درجَت إلى مستوى النظام المدبر في القرن التاسع عشرة الميلادي، وكانت الديانة البرهمنية في طليعة تلك الأيديولوجيات التي تشكلت في صورة الغلو والتشدد.
حركة الهندوكية المتشددة
إن كلمة الهندوكية مشتقة من سندو التي عرفت بثقافتي موهنجدارو وهاربا، وتشير الوثائق التاريخية أن الأمم الخارجية استعملت هذا اللفظ للتعبير عن السكان في شبة القارة الهندية.
كانت هذه الحركة هي التى صدعت بفلسفة “الشعور نحن” فى أوائل تشكيله، وكتابها الفلسفيون خطوا دائرة خيالية سموها بالقومية البحت خرّجوا منها الأمم التى لا يشغفون فى آراءهم المعارضة لهم وحاولوا أن تكون لهم السيادة فى الأوساط السياسية كمتهمين أن المسلمين والنصرانيين والبوذيين ونحوهم لا حق لهم للإقامة فى دائرتهم القومية.
وتطورّت الدائرة القومية إلى خيالية نزح غير الهندوسيين من الهند وصورا نظرية الدولة الهندوكية، وقدم هذه النظرية أولا الراهب شرادانتا في كراسته المشهورة “النظام الهندوكي: منقذ السلالة المتردية”، وزعم الراهب شرداننتا أنه لا بد من تأسيس مبنى هندوكي فى كل مدينة من المدن الهندية،
الهجمات جسر الاستئصال
الهجمات ضد الأقليات الدينية والجنسية التي أطلقت من قِبل المشددين الهندوكيين جراحات لا تندمل في تاريخ الهند السليم، وقد اتخذتها الفئات الإرهابية جسرا ممدودا إلى السلطة، كان إغارات جبلفور سنة 1961 أولى من نوعها بعد الاستقلال حيث ارتفعت قضية المعارضة بين الأقلية والأكثرية، وفى الوقت نفسه ساهمت كل ذلك في نماء الفئات المتشددة بقدر كبير غير مرفوض، وتبدو هذه الحقيقة كالشمس في رابعة النهار حينما نتفحص تحول حزب جنَسَنْكم إلى جزب بَهارَتى جنتا حتى اعتلت إلى عرش حكومة الهند سنة 1996، فما بعد جبلفور من العقود المتتالية شهدت فيها الهند تيارات عارمة من الإغارات ووقعت العمليات التشديدية فى زي الهجمات فى بيهار سنة 1962 وأحمد آباد بغجرات سنة 1969، وتضمن هذه الهجمات ما قامت به المتشددون في زي الشرطات الرسمية، ويقول عمر الخالدي: إن حوادث بوابة تركمان(1976) ومراد آباد(1980) ونلي ونوكاو بآسام(1983) وبيوندي(1984) زميرت (1987) مما لا ينسى من قلوبنا أبدا حيث قتل أكثر من ألف رجل.
وتجسد الحركات من هذا النوع بهدم مسجد البابري سنة 1992 بعدما انتهت رحلة لال كرشنا أدوانى والتى كانت هي التي أجّجت العمليات الشنيعة أُوار حماسة المسلمين وقضَى على الأخضر واليابس بمومباي وسورت، ويتحقق أن ذلك لأهداف سياسية خاصة إهمالا لجانب الثقافي الهندي حيث تردّت واضمحلت قبّات العلمانية والديموقراطية وعلاوة على ذلك تراث الثقافة الهندية الثرية،
ويقول عمر الخالدي أن الإغارات التى تستهدف المسلمين خاصة هي لإعياء قُواهم اقتصاديا واجتماعيا واذا أُهلكت موادهم بأسرها فيكون من الممكن للأكثرية أن يجلبوهم تحت هيمنتهم الفتاكة، ومن أقوى دليل على إنكار المتشددين الهندوكيين لتعددية الثقافة أنهم يشدّون أزرهم لتحطيم الأقلية النصرانية، وتشير الإحصائيات أنه حدثت سبع إغارات تجاه النصرانيين سنة 1966 وتفاقم عدده المهيب الى 120 سنة 1998، وكانت واقعة مقتل كْرَهام سْتَين من أبشع هذا النوع والذى أضرم الاحتجاجات ضد الثقافة الهندية طول المعمورة، وانحطت نسبة الشعبية من 2.60 في المائة سنة 1971 إلى 2.32 في المائة سنة 1991، وهذه الإحصائيات مرعبة جدا إلى حد يقرع النفوس بشدة التنفيذ.
تحديات التعددية الثقافية
إن الفئات الهندوكية المتشددة لا يسمحون للديانات الأخرى أي حق فى الدولة الهندية، وفى نفس الوقت يزعمون الانتماء إلى الرهبان الهندوكية القديمة من غير اكتراث لآراءهم في التعايش السلمي والاحترام الثنائي والاقتباس السليم من المفاهيم الأخرى،
يزعمون علاقتهم الوطيدة لسوامى وويكانتن لكنهم لا يعبأون بقوله التليد الذي لا يزال صداه باقيا إلى الآن: لو كنت تِربا للمسيح عيسى لكنت أمسح كلا رجليه بقطرات من دمي الساخنة”
ويقول الكاتب والناقد المشهور فى مليالم كى ايى اين كنج احمد: إن سَنْكفروار لا يرون قبل الأبقار عملية فردية يقوم بها المتناول بل يرونه مؤامرة سرية وعلنية بشكل الإغارات التي أطلقها الحكام المسلمون والنصرانيون لتحطيم الثقافة الهندوكية.
وقد تفاقم اليوم قلق الأمم الأقلية من قِبل الأبقار ونحوه، وأن ما قرع أذنينا من سماع خبر مقتل أخلاق بدادري تصبح الأخبار من نوعها أخبارا معتادة كل يوم! لكن الفرق الوحيد هو تغير أسماء الضحايا، حتى أصبحت الجرائد اليومية لا تتسع فسحة كافية للأخبار المتعلقة بتلك المجزرات.
إن روح الثقافة الهندية هي ملتبنة من الأيديولوجيا والمبادئ الدينية المختلفة فلا يكون من العقلي أن يتقلص نظرها إلى مواقف أُحادية الجوانب لأن التعددية هي القوة الأصلية في الواقع ولكن ما نشاهد ونرى مما يعارض هذه المواقف القيمة، ولقد اعلن مُرَلي مَنوهر جوشي أن من يسكنون الهند هم الهندوكيون فقط، ولا يزال أئمتهم يُفرزون السم إزاء الأقلية حتى يواجهون أقسى المراحل في التناول والمعايشة في الهند وكل ما يعانون مهما كانوا أقلية من المتدينين أو اللبراليين أو العلمانيين لا يتوصل إلى النهاية إلا بالاستيعاد للتراث الأبي والتليد وذلك إنما يمكن تحققه بقوة التعددية الثقافية فقط.