هل كان بوسع شاعر فرنسا العظيم آرثر رامبو أن يغنى مع جان دارك أغنيات الوجع الشهي وهى تتلقى بسرور وغبطة حكم المحكمة الجائر وغير الحكيم؟! أم تراه يرافق المسيح فى حله وترحاله ومجادلاته مع الحواريين، ليعقد المفارقة العظيمة بين الخير والشر، والشقاء والحزن؟ أم تراه يتجرع السم راضياً مثل سقراط العظيم وهو يلقن أثينا درساً فى الأخلاق والحكمة؟!
إنها الفلسفة الرمزية التي تبلورت فى ذهنه منذ أن ولد عام 1854م فى مدينة شارلفيل بشمال شرقي فرنسا، ثم تبلورت أكثر عندما ترك منزل الأسرة ليهيم فى طرقات فرنسا ويكتب عن الصراع الثوري هناك، ثم يتبلور كل ذلك فيكتب قصيدة ” القارب الثمل” وفيها يدون كل ما بداخله من حيرة وثورة وشعور بالاثم التماساً للحرية والتحرر، ثم تبدأ مرحلة أخرى فيتعرف إلى الشاعر “بول فرلين” والذي يهرب معه إلى انجلترا متسكعاً بعد أن يترك عروسه ومنزله فنراهما هائمين معاً فى طرقات العالم، يكتبان الشعر ويحاولان فى صراع عتيد إثبات ذاتهما ولو بإفناء أحدهما للآخر فنرى فرلين يصوب مسدسه نحوه ليقتله فتنطلق الرصاصة لتصيب يد رامبو بجراح، فيحكم على فرلين بالحبس لمدة عامين، ويعود رامبو ثانية إلى جوار أمه جزيناً، ثم لايلبث أن يترك فرنسا ثم نراه يهرب إلى باريس عام 1871م ويتحمس لحكومة الكومون La commune الاشتراكية فنراه يكتب شعراً ثورياً ضد الأوضاع السي! اسية وفيه يمجد الصراع الثوري، ثم يهرب بعد ذلك لحياة الحانات بعيداً عن الشعر ونراه ينقطع بعد ذلك عنه ليقوم بسلسلة من الرحلات بدأ بألمانيا حيث عمل تاجراً هناك، ثم ذهب إلى هولندا وتطوع بالجيش فتم إرساله لجزر الهند الشرقية (أندونيسيا) ؛ إلا أن حياته المتقلبة جعلته يهرب مرة أخرى فتراه يعمل بحاراً فى سفينة شراعية فى باتافيا (جاكارتا)، ثم عاد إلى فرنسا عام 1877م، ولم يكمل العام فى فرنسا حتى رأيناه يهرب مرة أخرى إلى النمسا وهولندا والسويد وسويسرا ثم إلى قبرص وهناك مرض بالتيفوئيد فعاد إلى فرنسا، ثم أبحر إلى الإسكندرية والأقصر ولكنه لم يجد عملاً فى مصر فأبحر إلى عدن وإلى مدينة هرر بأثيوبيا وهناك تعلم العربية والسواحلية، ثم رأيناه بذهب منفرداً إلى صحراء الأجادين ليكتب للشركة التي عين فيها فى أثيوبيا تقريراً علمياً بعثه إلى جمعية الجغرافيا الفرنسية ولعل هذا التقرير كما يقول – مجدي وهبة – فى تقديمه لديوان فصل فى الجحيم – هو الشئ الوحيد الذي كتبه بعد أن هجر الأدب، وهناك نراه يتصل بالإمبراطور الأثيوبي ” مينليك الأكبر ” كما عمل بتجارة الرقيق مع عرب السواحل والإمبراطور الحبشي إلا أنه أصيب بآلا م شديدة فى ساقه فعاد إلى فرنسا، وفى مرسيليا ظل قابعاً فى المستشفى حتى بترت ساقه ثم مات يوم 10 نوفمبر سنة 1891م عن عمر يناهز السابعة والثلاثين من عمره .ومع قصر هذه المدة إلا أن رامبو استطاع أن يؤثر فى الشعر الأوروبي كله آنذاك، بل وأنه وصديقه فرلين استطاعا أن يؤثرا فى مدرسة الشعراء الرمزيين فى فرنسا كلها .
انها رحلة حياة قلقة مترحلة هائمة فى محراب الحياة، عاشها رامبو من أجل البحث عن فلسفة الذات والصدق المطلق، وهذا ماجعله يؤثر في الشعر الأوروبي آنذاك والذي التزم الصيغ الشعرية وانضباط النظم، إلا أن ظهور الرومانتيكيات الأوروبية ورامبو قد غير مسيرة الشعر لا فى فرنسا وحدها بل فى أوروبا أجمع إذ أن مسألة الصدق المطلق والذي يصل إلى درجة الغموض والتعقيد قد جعل رامبو من رواد الرمزية فى العالم، وكيف لا وحياته كلها غموض ورموز وإشارات وعدم هدوء، وما رحلاته الكثيرة إلا من أجل الوصول إلى حقيقة النفس وماهية الروح فكان أشبه بفيلسوف يحاول إعادة صياغة الوجود بروح الشعر الحالمة، وبرمزية مغلقة باستشراف لأفق مستقبل غير معلوم، مستقبل فيه الجوهر هو المثال، وما الشكل والشكلية سوى طلاسم وخيالات، فماذا عساه ان يكتب؟ وبماذا كان ينادى فى ديوانه فصل فى الجحيم ؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج منا إلى تحليل عميق لرؤية آرثر رامبو، وسنكون أكثر ظلماً له إذ قلنا بأننا سنحلل كل قصائده، وسنصل إلى مدى العمق فيها برمزيتها واشاريتها وتصاويرها وجمالياتها ولكننا سنحاول أن نستشف المعايير العامة، والقيم الإنسانية التي ينادى بها، كما سنتخير النماذج الدالة لرؤيته للعالم والحب والشقاء والسعادة والخير والشر، وما إلى ذلك،ومع علمنا بأن هذه ليست من مباحث الشعر، بل هي فى صميم مباحث علم الفلسفة والأخلاق، لذا جاء حكمنا عليه بأنه فيلسوف الشعر الفرنسي بل فيلسوف أوروبا كلها والذي اتخذ من الرمزية أساساً لبناء فكر إنساني يتمثل فى القيم الإنسانية الجميلة، ولكن ومع كل ذلك يبقى السؤال : هل يعد آرثر رامبو فيلسوفاً يدعوا إلى الفضيلة وهو القائل : إني وحش همج : أتكلم لتضلون ؟! وهو القائل أيضاً : الرصاص !! اقذفوني بالرصاص . هنا وإلا استسلمت، يا للجبناء ! سأقتل نفسي ! سألقي بنفسي تحت سنابك الخيل. آه !!
وأقول : نعم هو فيلسوف يدعو إلى الفضيلة، بل يدعو إلى التطهر من الرذيلة والآثام والخيانة يعيش حياة التمرد ليصل إلى الهدوء، يتمرد على الواقع ليصل إلى الحلم، ويتمرد على الحلم واللاوعي ليصل إلى السديم اللامتناه والمتناه فى الآن نفسه، لذا رأيناه يغلف الحزن بالدموع، ويغسل آهاته على عتبات الروح، ويصلى فى البراح وحيداً، انه يصيح من أجل العالم وسعادة الكون لا من أجل الشقاء والبؤس، هو البائس والشقي والتعس وحده يقول :
“بغير مأوى ولا ملبس ولاقوت، كنت أسمع صوتاً يأخذ بقلبي المجمد، أهذا ضعف أم قوة : هاك إنه لقوة : إنك لاتعلم إلى أين ولا لماذا تسير، فأقتحم كل الأبواب واستجب لكل نداء، انك لن تقتل أكثر مما لو كنت جثة هامدة ” .
هذا ولقد أذاع النقاد عنه أنه شاعر ماجن، شاعر يجب العربدة ويعشق الترحال ويبحث عن المغامرات، ولكنه لم يكن كذلك، بل كان إنسانا يشعر بالآم البسطاء، وكم عانى مثلهم ودافع من أجلهم، لأنه كما يرى قد خلق ليتكلم بلغتهم يقول:
آه، من أجل أولئك الكادحين، رعايا ملك بابلي فاتنين، فارقى أيا ربة الحب العاشقين، ذوى القلوب المتوجة، أيا ملكة الرعاة، احملي للصناع ماء الحياة، كي تظل قواهم فى سلام . ومع أن رامبو قد بدأ يكتب الشعر على الطريقة البرناسية أولاً، ثم على طريقة بودلير إلا أن شخصيته الفنية ما لبثت أن تبلورت حينما ألقى عن كاهلة عبء التقليد، وأخذ كما يقول يتندال W. Y. Tindall, Forces – يعرض كل حمي الوجود الروحي مجتازاً منطق العقل والمادة فى شبه غيبوبة صوفية تدق باب المجهول وتغامر فى أنهار همجية طالما حن إليها فى أحلامه الأولى، ولقد كانت وسيلته إلى ذلك موهبة بصرية Visionary Faculty أو ما يعرف بالتراسل السحري والرقى إلى خداع الحواس والارتفاع فوقها . وهو يعنى بذلك لغة الروح من أجل الروح وقد صاغ هذا كله فى أسلوب متمرد على العقل، ومنتصراً فيه لهذه الروح الخالدة.
ولكنه مع كل هذا كانت تجربته غاية فى الرمزية، ومع انه لم يصرح بذلك إلا أن كلماته وآهاته كانت تشي بذلك وتفضح كرهه للطبقة البرجوازية الرأسمالية، لذا فهو يتحمس للبروليتارية وللإشتراكية ومع كل ينادى بالمحبة والحرية والعدالة والإيمان، لقد كان رحيماً مع العالم ولكنه كان يغلف هذه الرحمة برمزية خاصة، إنها الفلسفة الذاتية للحب وللماهية وللإنسان فى كل أنحاء الكون يقول :
”لدى كل المواهب ! ليس هنا أحد وهنا أحد: لا أود بعثرة كنزي أتريدون أغنية زنجية، حوريات ترقص؟ أتريدون أن أختفي، أن أغطس بحثاً عن الخاتم؟ أتريدون؟ بوسعي أن أصنع ذهباً، وأودية شافية. فلتؤمنوا بي فالإيمان يعزّى ويهدى ويشفى . تعالوا جميعاً – حتى الأطفال لأعزيكم، ولأبذل لكم قلبي – القلب الرائع، أيها المساكين أيها العمال، لست أطلب صلوات، تكفيني ثقتكم لأسعد ” ثم نراه ينهى ذلك بقوله: (ولتذكروني، حتى لاأتحسر على العالم ..)
فهو هنا يرى حياته طيش ونزق فنراه يدعو الجميع إلى المحبة والتطهر والإيمان، هو يفنى من أجل أن يبقى الآخرون ولكن العزاء عنده فى أن يتذكره الآخرون، فقط الذكرى وكأنه يريد أن يؤكد أمام ذاته أنه موجود، فهو الشمعة التي تحترق لتنير للآخرين ولكن هل سيذكر أحدهم هذه الشمعة المحترقة ؟!
لقد ظل رامبو يحترق من أجل العالم، ومن أجل القيم، فكان ككنز ملئ بالأسرار يوزع الحكمة، ويصطرع عندما يستشعر أوار النار وهو فى جوفها يشعر أنه رجيم ولعين وأنه وقود النار، فنراه يتحدث عن الظلم وعن الموت والبؤس والشقاء، وعن الهذيان، وعن العذارى الطائشات وهن يتمايلن على صدر البعل الجهنمي وهن يعترفن للرب بالاثم والخطيئة، ونراه مع ذلك يبث همومه وأحزانه وآثامه وأسقامه على لسان العذارى وهن ينشدن الصدق المطلق للتحرر من الخطيئة وإلا أثم يقول : أنصتوا إلى اعتراف رفيقات الجحيم:” أيها البعل السماوي، أيا ربى، لا ترفضّ اعتراف أتعس خادماتك. إني ضالة . إني ثملة . إني نجسة . تباً لها من حياة ! ثم يضيف قائلاً: وفيما بعدا سأعرف البعل السماوي ! لقد ولدت خاضعة له – أما الآن، فالبعل الآخر قد يضربني !! “
إنها المفارقة فى الصراع، مفارقة من أجل الخير والشر، والإثم والخطيئة، إنها محاولة للتحرر من ربقة وأدران الجسد للوصول بالروح إلى آفاق السعادة والدفء والتحرر للوصول إلى الحقيقة المطلقة والإيمان المطلق بعد تحرر الذات فنراه يقول على لسان رفيقة الجحيم : ” إني أمَةٌ البعل الجهنمي ذلك الذي أهلك العذارى الطائشات، هو ذلك الشيطان بالذات، ما هو بطيف وما هو بشبح، ولكنى أنا التي فقدت الرشد، أنا اللعينة الهالكة فى نظر العالم لن يستطيع أحد قتلى .. كيف أصفه لكم ! لقد فقدت حتى القدرة على الكلام .. إني فى حداد، أبكى فى هلعٍ ! نسمة من الهواء، ياربى، لوسمحت، من فضلك ” .
هذا ومع أن رؤاه يأباها منطق العقل، إلا أنها رؤى سحرية بها قوة مذهلة وجمال غريب وفتنة غنائية تنبعث من نثر شعري ذا نغم ظليل فى الصوت والإيقاع، ولعله اختط بذلك طريقة شعرية جديدة أسماها كيمياء الفعل Alchimieduverbe وهى كما يقول فورسز : ” هي محاولة لتملك ما فوق الواقع وتحرير الخيال من قيود العقل والعادة عن طريق استغلال القيم الصوتية والإنفعالية للحروف ،وهذا ما حدا بالناقد أنطون كرم إلى أن يقول : ان كل حركة لون عند رامبو توحيه بمجرد سماعها ولكل لون تداعياته وعلاقاته وبذلك يغدوا الصوت قيمة نفسية وانفعالية غير محدود ة.
هذا وفى قصيدتة هذيان . أو كيمياء الكلمة ” يستشرف لنا فيلسوف أوروبا وشاعر فرنسا العظيم مايحدث الآن فى العالم وكأنها، نبوءة رامبو ” تظهر فى هذا الزمان يقول :
أما عن نفسي، فهاكم شيئاً من هوسي ؛ …. حلمت بحروب جهاد، ورحلات كشف لم ترو، وجمهوريات ليس لها تاريخ، ومعارك دينية قمعت، وثورات فى العادات والتقاليد، وتنقلات شعوب وقارات، آمنت بسحري المفاتن جميعاً ” .
وهو هنا كأنه يعيش بيننا الآن، حيث سقطت دول وحضارات، وعلت شعوب وحكومات، وتفردت دول لقيادة العالم، ورأينا المعارك الدينية التي تنبأ بها رامبو، والحروب الطائفية والعرقية، ثم تلك الثورة الكبرى فى العادات والتقاليد، وغلبت عادات أمم على أمم وتشبهت أمم بأمم فى المأكل والمشرب، بل وقد تنبأ بالحروب الكبرى حين قال بتنقل الشعوب والقارات وكأنه يعيش عصر العولمة الآنية، ولكنه مع هذا لم يكن مستبشراً الخير للبشرية مثلنا تماماً، ولقد شرع يقول :
” واخترعت ألواناً للحروف المتحركة ! فالألف سوداء، والواو زرقاء والياء حمراء – وسويت أشكال الحروف الصائتة وحركتها بإيقاعات غريزية، تباهيت بابتكار لغة شعرية ستصبح يوماً فى متناول جميع الحواس ” . وها هو رامبو يصدق فى هذه النبوءة أيضاً فالألف السوداء هي بداية للبؤس والجحيم والسواد هو الذي سيعم العالم، والواو الزرقاء هي المنتصف من قلب هذا العالم الذي يعيش فى ضباب واستسلام، أما الياء التي تعنى – كما نرى فى رمزيته – نهاية العالم فقد جعلها حمراء مثل لون الدم الذي يراق وكأنه يقصد الشعوب وحالتها وأن هناك شعوب سيتم محوها مثل الحروف ذات الجرس الصائت المتحرك والتي سوّاها لعدم فعاليتها ومع كلاً فهو يتباهى بهذه اللغة الجديدة والتي ستصبح يوماً فى متناول جميع الحواس ” فأي نبوءة تلك لشاعرنا العظيم ؟!
ثم نرى شاعرنا يجول البلدان والمدن يبحث عن ماذا ؟ عن المال ؟ أم عن المرأة ؟ أم عن أي شئ يبحث ؟! .. إنه يبحث عن شئ جديد غامض شئ غير محس لكنه هو المراد فماذا عساه هذا الشئ ؟ يقول :
“وأخيراً، يالغبطتي وحكمتي، نحيت عن السماء لازوردها، الذي هو أسود وعشت، ومضة ذهبية بالنور الطبيعي . ومن بهجتي، تصنعت المجون والتيهان بقدر ما استطعت ” :
وجدتها ! الأبدية، الأبدية، إنها البحر مختلطاً بالشمس .
هذا ولقد اعتمد رامبو فى بناء القصيدة على اللاوعي وتداعى الصور تداعياً حراً تتراسل منه المدركات على نحو لايتقيد بالزمان والمكان كما أسلفنا. وبهذا يمكن القول كما يقول د./ محمد فتوح أحمد ” بأن رامبو يعتبر أباً للتيار السوريالى الذي يستغل نظريته فى اللاوعي إلى أبعد حد، كما أن مفهومه الشعري عموماً قد ترك للشباب اقتناعاً لايتزعزع بأن الشعر قوة داخلية تعمل بطريقة ورؤية غامضتين، وأن المنطق والزخرف البلاغي ألد أعدائه “.
ولعل رامبو وفرلين ومالارميه ونوفاليس وبودلير قد ظلوا مجهولين نسبياً لفترة من الزمن ولكن شهرتهم ذاعت عندما كتب هوسيمان عنهم واصفاً إياهم بالشعراء المنبوذين (يقصد الرمزيين) ومنذ ذلك الحين فى عام 1885م أصبحت الرمزية علامة بارزة على مسار التاريخ الأدبي .
هذا ولقد دعي رامبو إلى التنوير الحداثة فى رأيي – حينما صاح قائلاً : ” يجب أن نكون عصريين إطلاقا، لاترانيم : فلنتمسك بما كسبناه .. لاتقل معركة النفس عن معركة البشر وحشية ؟ لكن رؤية العدالة متعة الله وحده . هذا ولم يمهل القدر بودلير ليعود إلى الكتابة من جديد، ولعله قد اكتفى بما قدمه فنراه يصيح : يارب، يامريم، لم أعد استطيع الكلام، علىّ أن أعتقد أنى قد أتممت اليوم قصة جحيمي انه الجحيم حقاً الجحيم القديم، ذاك الذي فتح ابن الانسان أبوابه ” ،وهكذا لم يستطع رامبو وسط هذا الجحيم أن يعيش إلى النهاية، وكأنه فى ديوانه فصل فى الجحيم يعلن ذلك صراحة، وأنه لن يعيش من الحياة إلا فصلاً، قدم فيه غايته، وشكي لنا أوجاعه، وسافر مع هذه الأوجاع إلى الصدق المطلق الذي كان يبحث عنه إنها رحلة جميلة مدهشة غريبة وصاخبة، رحلة تتجاوز الوعي إلى المطلق، إلى المجهول، إلى اللاوعي والانطلاق، إلى الأبدية المطلقة، فهل وصل رامبو إلى مبتغاه ؟ وهل كان الصدق المطلق والعذاب هو طريقه إلى الأبدية المشتهاة ؟!
إنها رحلة عبر الذات، رحلة أخذنا فيها رامبو إلى عوالم غامضة، ولكنها تشي بالحكمة والوحشية والفزع، ومع هذا فقد استطاع أن يترك لنا علامات مضيئة وفارقة، لذا فلا غرو أن يلقب برائد الرمزية والأب الروحي لشعراء فرنسا بل والقارة الأوربية كلها، ولقد أثر رامبو فى مسيرة الشعراء العرب أيضاً فيما أرى – بعد ذلك، بل وفى مسيرة الوعي العالمي، ولعل شعره فيما أحسب – لم يتم دراسته جيداً بعد، لذا كانت هذه الدراسة فيما أحسب مقدمة للكشف عن رامبو الانسان، العاشق للكون وللطبيعة وإلى ما وراء السديم المجهول !!