لعل من أهم خصائص الإنسان أن يكون واعيًا بذاته، قادرًا على مراقبتها ومحاسبتها. ومن عجبٍ أن هذا الجانب هو الأكثر عرضة للتجاهل والنسيان لدى أغلبية الناس منّا.
أجل، كم إنسانًا يمكنك أن تريني لا يفتأ ينقد “نفسه” بإلحاحٍ ليل نهار؟ كم إنسانًا تستطيع أن تريني يسعى إلى اكتشاف “ذاته” كل يوم من جديد، يسبر أغوارها لمعرفة قدراتها ومكامن الضعف فيها، وإدراك ثغراتها ومواطن القوة فيها، وإحصاء مكاسبها وما مُنِيت به من خسائر؟ كم فردًا تستطيع أن تريني قد وضع “نفسه” على أريكة أمامه، وراح يفحصها بمنتهى الواقعية -مثل طبيب منصف بارع واقعي أثناء فحصه لمريضه- بعيدًا عن الانبهار العابر أو التدقيق العارض، بل بعيدًا أيضًا عن الرغبة في نبش سلبياتها بُغيةَ جَلدها أو إهانتها، إنما بغرض الكشف عن حقيقتها والتعرف على أسرارها؟
كان “سقراط” يردد عبارة فريدة أمر بنقشها على مدخل مدرسته تقول: “أيها الإنسان، اِعرِف نفسَك”. لقد رفرفت هذه العبارة كالراية في سماء مجامع علمية حفلتْ بدرر الحكمة والمعرفة طيلة قرون؛ حتى وصلت إلى مدارسنا الصوفية حيث واصلت مسيرتها مع تغيير طفيف ذي نكهة روحية فصارت “من عرف نفسه فقد عرف ربه”. لكن يا ترى، كم عقلاً عرف قدر هذه الحكمة ووفّاها حقها من الفهم، وكم صاحب همة عالية أدرك كيف تُمتثَل حقيقُتها؟ أحسب أن عددهم ليس بالكثير.
محال لبائس لا يملك أدنى معرفة بجوهره وحقيقة ذاته، وأخفق أيما إخفاق في اكتشاف مكنوناته لضيق أفقه وتحجر فكره.. محال لهذا المسكين أن تكون له قدرة على معرفة غيره من أفراد أو أشياء أو وقائع. إن أيّ حكم يصدر عنه في حقهم هو حكم ضحلٌ ومهزوزٌ بلا شك. انظروا إلى الكرة الأرضية حين تمتد في بهاءٍ من مشارقها إلى مغاربها، وانظروا إلى الجبال حينما تشمخ بعزة ووقار، وإلى الأنهار وهي تشدو بألحان الخلود، ثم ارفعوا أبصاركم إلى السماء وقد أسدل الليل البهيم ستائره.. يا لروعة تلك الأعماق في لانهائيتها والنجوم في تلألؤها! يا لحسن هذا المهرجان الذي يبهر أعيننا كل ليلة بجمال آخر! أيّ عذوبة تلك وأيّ نغمة وأيّ سحر؟! ثم انتبهوا إلى عالم الخلود وهو يفتن وجدانَنا بغمازاته الآسرة بين الحين والحين، عبر ألوان تتجدد وأشعة تتدفق من وراء تلك “الستائر الكونية الشفافة”. إن هذه الصور الباهرة التي تبعث على الحيرة في كل حين، لا تنجلي قيمتها الحقيقية أو تظهر معانيها المنشودة إلا بعد تحليلها في “موشور المعرفة البِلَّوْريّ” المكنون في أعماق الذات الإنسانية. وإلا فإن هذا الوجود الذي نُسِج في مناسج “اللوح المحفوظ”، والذي تجلى لنا في صورة منظومة فريدة -من ألفاظ كونية وكلمات ملموسة- سوف يخلو من كل معنى، ولن يبقى أي فارق بينه وبين الفوضى.
لقد تبوأ الإنسان موقع “الكائن الأهمّ” في هذا الوجود، لدى أولي النّهى من اللحظة الأولى التي لفت فيها إليه الأنظار حتى يومنا، وحظي باهتمام بالغ لم يحظ به كائن آخر. لقد تم فحصُه مرارًا جملة وتفصيلاً، بعمق حينًا وسطحية حينًا آخر، بسرعة تارة وتريّث تارة أخرى، كما تمت دراسته من جوانب شتى بدنًا وروحًا، جسدًا وقلبًا، عاطفة وعقلاً دون كلل أو ملل. ومن العجيب أنه يفاجئنا بصور شتى بل ومتناقضة في كثير من الأحيان، فنجده حبيبًا إلى النفس يفيض نعومة وأنسًا في حين، مائعًا متعفنًا يبعث على التقزز في حين آخر.. مبحرًا نحو الخلود كأنه قد تجرد عن القيود زمنًا، ضيّق الأفق أحمق منكفئًا على ذاته في زمن آخر.. قريبًا إلى النفوس بتواضعه وامحائه آنًا، حبيس وحدته بغروره وكبره في آنٍ آخر.. متلفّعًا بالخبث والخيانة تارة، منفتحًا شفافًا يبعث الأمن والطمأنينة تارة أخرى.. أنانيًّا يدور حول “محور أناه” ردحًا من الزمن، متألقًا إيثارًا وتضحية وعزيمة في أوقات أخرى.. مفترسًا فتاكًا غدارًا حينًا، عطوفًا عادلاً رحيمًا في حين آخر.. زائفًا مرائيًّا متملقًا فجأة، مخلصًا متجردًا صريحًا في أوقات أخرى.. واعيًا بصيرًا سديد النظر حينًا، ضيق الرؤية غبيًّا متقلبًا في أحيان أخرى.
إن الذين اختزلوا الإنسان في عقله، ووعيه ولاوعيه، وغرائزه الحيوانية، أو نزعاته الاجتماعية، لم يستطيعوا أن يصوغوا رؤية موزونة أو طرحًا متماسكًا عن حقيقته، بل زادوه غموضًا وتعقيدًا وحوّلوه إلى كائن مشوَّه.
ولكنه، ورغم تلكم التناقضات كلها فهو هو الإنسان؛ إلا أنه لا صلة -في الأساس- لهذه الصور المتناقضة بجوهره. كما لا علاقة لها بغرائزه الباطنية مثل غريزة الدفاع عن النفس أو غريزة التناسل كما يزعم البعض. كذلك لا يصح ربطها بفكرة الوجودية التي تزعم أن الإنسان هو الهيئة التي أراد أن يكون عليها فصاغ نفسه على ضوئها.
ينبغي أن نبحث عن سر هذا التناقض في فطرته الفريدة؛ تلك الفطرة التي أُودِع فيها من المواهب والقدرات ما يؤهّلها أن تكون “كل شيء”، من الرقي عبر أمداء لامتناهية في أعالي علّيّين إلى التردّي إلى مهاوٍ سحيقة في أسفل سافلين.. وفي ماهيته التي غُرِست فيها أنوار الروح وظلمات النفس، ومن ثم في توجيه تلك الفطرة الفريدة نحو غاية سامية ذات أفق أزلي ومحور نبوي أو عدم توجيهها.. في إدراك الجواهر الإنسانية المكنونة فيها أو عدم إدراكها.. في الوعي بالطاقة الكامنة في ذاتها واستثمارها أو عدم وعيها.. في الغوص في طبقات القلب أثناء التنقيب في أعماقها الجوانية أو الفشل في ذلك.. في توفية الإرادة حقها أو الإخلال بذلك.. في اكتشاف أسرار ما وراء الشعور أو في الغفلة عن ذلك.. في توجيه الحس إلى ما وراء المنظور أو العجز عن ذلك.. في معرفة آلية الوجدان وكيفية عملها أو الجهل بها تمامًا.
إن السعداء الذين يمضون حياتهم في آفاق الروح وأعماق القلب ويدورون في محور الوجدان، حُقّ لهم أن يرفرفوا نحو القمم السامقة من أعلى علّيّين دومًا حتى ولو تعثروا ببعض النتوءات القابعة في طبائعهم أحيانًا أو ببعض الأشواك المتناثرة حول أطراف فطرتهم أحيانًا أخر. أما أولئك الذين يقضون أعمارهم في سجن الجسد والنفس، فمثلهم كمثل من وقع في دوامة مهولة تشدّه نحو أغوارها المظلمة شيئًا فشيئًا وترمي به في أسفل سافلين.
إن الذين اختزلوا الإنسان في عقله، ووعيه ولاوعيه، وغرائزه الحيوانية، أو نزعاته الاجتماعية، لم يستطيعوا أن يصوغوا رؤية موزونة أو طرحًا متماسكًا عن حقيقته، بل زادوه غموضًا وتعقيدًا وحوّلوه إلى كائن مشوَّه. إنه في نظر بعض أنصاف العقول هؤلاء “حيوان يفكر”، وفي نظر البعض بائس تمت برمجة حياته ليقضيها على موائد أنظمة الأكل والهضم ثم الإفراز، وفي نظر آخرين هو كائن قد جُهّزتْ كل جوارحه للسعي وراء المتعة الجسدية حصريًّا، فهو -إن صحّت مقولة هؤلاء- مخلوق غريب يبعث على التقزز بوعيه ولاوعيه الذي يشبه مزبلة مشحونة برغبات الإشباع الجنسي لا غير.
وحقيقة الأمر أن العقل والوعي واللاوعي والنزعات الاجتماعية، مكوِّنات لها ما لها من الأهمية في ماهية الإنسان، لكنه أفضل من ذلك وأرقى، فهو يمتلك من القدرات والمواهب ما يُمكّنه -إن أراد حقًّا ومهّدت الأقدار سُبُله- من تجاوز كل عقبة تعترض طريقه في هذه الحياة؛ والتاريخ شاهد على ذلك. نعم، إنه يمتلك دينامية باطنية بها يستطيع أن يتجاوز ذاته ويتجاوز جميع الفضاءات والأكوان. فهو إن استطاع أن يوجه قدراته وطاقاته المخبوءة في جوهره إلى “مصدر” تلك الطاقات والقدرات كافة، فسوف يتجاوز ذاته، يتجاوز فناءه، ويضفي على الأشياء الزهيدة الموسومة بالفناء والتلاشي والبِلَى في هذا الوجود ماهية ومعنى لا يقدّر بثمن، بل ويؤهّلها للخلود.
إن الإنسان الذي استطاع أن يمسك بالبرق في السماء ويقدمه لخدمة البشرية، واستطاع أن يَنفُذ إلى عالم الذرة المتناهي في الصغر ويرتب رحلات إلى عالم الجزئيات، ويتواصل مع عوالم تبعد عنّا ملايين السنين، ويرى الأجرام القابعة في تلك المسافات السحيقة ويسمعها بل ويأتي بها يعرضها على الأنظار، ويتجاوز أبعد المسافات برؤاه وتصوراته وأحلامه واكتشافاته واختراعاته.. هذا الإنسان يدفع اليوم ثمن عدم استيعابه للمعنى الكامن في جوهره، وثمن بحثه عن حقيقته في مراتع الرغبات الحيوانية والشهوات الجسدية. فمن أراد أن يعرف سرّ أنانيّته وفتكه وتوحّشه وتجاهله للحق وانتهاكه للحقوق، وأطماعه ولامبالاته، ووَلَعه بالترف والراحة وهَوَسه بالرفاه والرخاء، فليبحث عنه في “انحرافه” هذا.
أجل، إنه يدفع ثمن إخفاقه في تفسير ذاته وتعريف جوهره، برغم ما يمتلك من عبقرية تتجاوز آفاق الأكوان برمتها.
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:١٧٢ (مايو 1993)، تحت عنوان “Kendi Derinlikleriyle İnsan -1”. الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.