سعة الخلاف النوعية والتربية الإسلامية الحضارية

يرى بعض الباحثين أن التربية والتعليم واحد لا فرق بينهما ويرى آخرون أن التعليم أعم وأشمل من التربية، وفي الرأي الحديث أن التربية في مفهومها أعم وأشمل من التعليم لأنها تشمل جوانب شخصية الفرد من السلوك والعاطفة والاتجاهات الأخلاقية، أما التعليم فقد يكون مقصورا على المعرفة بجانبيها النظري والتطبيقي، ولا يمكن أن يصح التعليم إلا بتعليم الفقه، فالفقه أساس العلوم، وليس هناك علم من العلوم اعتنى به العلماء عناية تامة على توالي القرون مثل الفقه الإسلامي، فقد كان العلماء يطلبونه بروية وصبر وفق منهج معين.

قال الإمام أحمد رحمه الله: يعجبني أن يكون الرجل فهما في الفقه، وقال معرفة الحديث والفقه فيه أعجب إليّ من حَفظه، وعنه رحمه الله أنه عاب على محدِّث لا يتفقه. وقال ابن الجوزي رحمه الله: بضاعة الفقه أربح البضائع، وعنه: الفقه عمدة العلوم، وقال رحمه الله: الفقه عليه مدار العلوم، وعنه: إن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع. والعلماء يأخذون من كل فن من العلم مهمَّه، ثم يجعلون جلّ اشتغالهم بالفقه لأنه سيد العلوم.

الطريقة المثلى في طلب الفقه هي ما كان عليه الأئمة- رحمة الله عليهم- حيث كانوا يتفقهون على أحد المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة المعتبرة، وإنما كانت طريقة دراسة الفقه وفق المذاهب الفقهية المعتبرة هي أمثل الطرق وذلك للأسباب التالية:

لأن المذاهب الأربعة هي التي حفظت العلم، ونقلته صحيحًا مرتبًا، بعد أن استوفت النظر في نصوص الكتاب والسنة.

ولأنها كذلك الطريقة التي يؤول سالكها بعد عون الله تعالى له إلى باب الاجتهاد بعد أن يكون حصل آلته واستجمع أدواته، إذ باب الاجتهاد مفتوح إلى يوم القيامة ويتفضل الله به على من شاء من أهل العلم الربانيين.

ولأن هذا السبيل يؤصل لفكرة طالما نادى بها الأئمة، وهي سعة الخلاف، وأن ما اشتهر من تعارض بعض الاجتهادات إنما هو من الرحمة التي بثها الله تعالى في هذه الأمة، وأن ذلك لم ينشأ بين الأئمة لهوى بينهم، وإنما هو من تفاوت نظراتهم وتنوع فهمهم للنصوص.

هذه الطريقة هي التي تقدم التوجيهات النافعة التي تنير الطريق وتكشف الحقائق، وتسهم في علاج الأمراض، فتهدي إلى الحق، وتدل على الرشد، وتطهر القلب وتزكيه. وهي الكفيلة بالقضاء على المعضلة والآفة التي طالما صدت عن العلم الصحيح، وانحرفت بطلاب العلم عن الطريق المستقيم، فقطعوا الأوقات وأضاعوا الأعمار فيما لا طائل منه، فكانوا كالمنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

إذن فثمرة هذه الطريقة مواجهة تلك الظاهرة التي مازالت تلقي بظلالها في قلوب بعض الناشئة، وتتجدد على مر العصور، ليكون طلاب العلم على بصيرة من أمرهم، وليدفعوا هذه الأخطار عن أنفسهم.

ولا ريب أن الله تعالى حفظ هذا الدين للأمة حفظا لم يكن لدين قبله، ذلك أن هذه الأمة ليس لها نبي بعد نبيها محمد بن عبد الله “صلى الله عليه وسلم ” يجدد ما دثر من دينها كما كان للأمم الأخرى ممن كانوا قبلنا، فتكفل الله سبحانه بحفظ هذا الدين، وأقام له في كل عصر حملة ينفون عنه تحريف المغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فاقتضت حكمته جل وعلا ضبط الدين وحفظه، فنصب للناس أئمة مجتمعًا على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية القصوى في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى، فصار الناس كلهم يعوِّلون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم.

وأقام الله تعالى من يضبط مذاهبهم، ويحرر قواعدهم، فضبط مذهب كل إمام من حيث أصوله وقواعده وفصوله، حتى ترد إلى ذلك الأحكام، ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام، وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين. ولولا ذلك لرأى الناس العجب العجاب، من كل متكلف معجب برأيه جريء على الناس وثاب. فلا تقضي المصلحة غير ما قدره الله وقضاه من جمع الناس على مذاهب هؤلاء الأئمة المشهورين، رضي الله عنهم أجمعين.

التعصب المذموم مرفوض

وعلة المنع من ذلك أن مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نسب إليهم ما لم يقولوه، أو فهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذب عنها، وينبه على ما يقع من الخلل فيها، بخلاف هذه المذاهب المشهورة.

كل هذا مع الأخذ في الحسبان أن التعصب المذموم للمذاهب أمر منهي عنه شرعًا وعقلاً، ولذا لا يفهم من هذه الطريقة المقررة مناصرة التعصب المشؤوم، وإنما غاية ما ترمي إليه اقتفاء سبيل العلماء في أخذ العلم على منهاج المدارس الفقهية الأربعة المشتهرة. فمن يدعو الناس إلى نبذ التمذهب للأئمة الأربعة المتبوعين فإنما يدعوهم في حقيقة الأمر إلى فوضى العلم وضياع الفقه، والذي يدعوهم إلى التفقه دون نظر إلى كلام الأئمة الفقهاء، ودون اعتبار لمدارسهم الفقهية، زعمًا أنه لا حاجة إلى ذلك، وحسب طالب العلم أن يطالع النصوص الواردة في الكتاب والسنة وسيستفيد منها الأحكام مباشرة وبلا واسطة أحد..، هذا الداعية على خطأ واضح، لأن دعواه تؤدي إلى اختلال نظام الدين، في ظل ضعف العلم وانحسار المعرفة وغلبة الهوى وقلة الدين والورع.

إن أبناؤنا وبناتنا فلذات أكبادنا، ومن حقهم علينا- كآباء وأمهات ومربين ومربيات- إحاطتهم بالرعاية والاهتمام والتربية الصحيحة منذ الصغر حتى ينشأوا نشأة سليمة سوية يقدمون الخير لأنفسهم ولأمتهم، ويكونون لبنة صالحة في بنيان الوطن.

إن الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم، بدءا من الأسرة ومرورا بالمدرسة ومن ثم الجامعة، مطالبة بالاستفادة من منهج الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في العملية التربوية والتعليمية من أجل بناء الإنسان المسلم بناءً صحيحًا متوازنًا، وتطوير كفاءاته وتنمية مهاراته وتزويده بشتى أنواع العلوم والمعارف، لأن العلم والتعليم سبيلنا إلى التنمية التي نسعى من خلالها إلى تحقيق سعادة الإنسان المسلم المادية والمعنوية، بما ينسجم مع مقاصد الشريعة في استخلاف الإنسان على سطح الأرض وخاصة التربية الاقتصادية الإسلامية، فالاقتصاد عماد أي أمة وقوة الأمة في قوة اقتصادها.

ويعد هذا النمط الحديث من التربية أهم الأنماط التربوية الإسلامية التي دارت حولها النظريات والفلسفات التربوية المعاصرة، وباتت أهميته على جانب كبير من الحساسية والخطورة في الحقل التربوي المعاصر للمجتمعات الإنسانية التي قطعت شوطا كبيرا في الرقي الحضاري والمعرفي، ذلك لأن هذا النمط يتأسس على جانبين متكاملين متداخلين يشكلان معا أساسا لا غنى عنه في بناء الشخصية الحضارية الإسلامية المنشودة للأبناء، تتمتع بالتأصيل الأخلاقي والمعرفي والاجتماعي، بالإضافة إلى التوجه العقلاني العلمي المنتج، وهذان الجانبان هما:

1- الجانب الروحاني المعرفي، بما يشمله من جملة القيم الأخلاقية والوجدانية ومنظومة المعارف العقلية والمبادئ الفكرية التي تحرك الشخصية الإنسانية الإسلامية ضمن محيطها الحيوي تحريكا فعالا قائما على النفع المتبادل، وتضمن دوام التلاؤم الإيجابي مع الطبيعة المتجددة والمتغيرة للحضارة الإنسانية.

2- الجانب السلوكي، بما يشمله من جملة السلوكيات والتصرفات التي تحكم أسلوب الأداء الفاعل والمنتج للشخصية الإنسانية في محيطها الحيوي، ويحدد مجموعة الطرائق والأساليب العملية التي تضمن حسن التعامل مع الذات والعالم من منظور حضاري قائم على الغنى والنفع والسمو.

في الحقيقة إننا نستطيع-إلى حد كبير- أن نعتبر سورة “لقمان” سورة تربوية حضارية بامتياز، قبل أن تكون شيئًا آخر، ذلك لأنها تصدت لتربية الإنسان الواعي المؤمن المنفتح على الذات والعالم والثقافة والمجتمع والحضارة والإله من منظور حضاري رائد للمعاني الحضارية الراقية التي تضمها هذه السورة الشريفة.

التجديد الذاتي للخطاب الديني

والواقع أن نظرة متأنية نسلطها على الخطاب الفكري والثقافي والتربوي الذي تجسده هذه السورة، لاسيما المشهد الحواري الذي يجمع سيدنا لقمان عليه السلام مع ابنه وهو يعظه، تمكننا من أن نتمثل المنظور الحضاري التربوي في القرآن الكريم من خلال سباقات معرفية وجوانب توعوية تمتزج فيها الأبعاد الوجدانية والمعرفية والأخلاقية والنفسية والمهارية امتزاجا حضاريا لافتا للنظر، ولعل أبرز هذه السياقات:

1- تربية العلاقة الحضارية الناضجة التي تربط الإنسان بالخالق على أساس من الوعي والمعرفة:

ينفتح المشهد القرآني الحواري على شخصيتين رئيستين هما “لقمان الحكيم” وابنه، ونظرًا لأن شخصية لقمان الحكيم تمثل الشخصية الرئيسة في هذا الحوار، والتي تنطلق منها العملية التربوية الحضارية فإن القرآن الكريم قد أحسن بناءها من كل الجوانب الخلقية والفكرية والتربوية والإيمانية، وذلك من خلال ربطها بـ “الحكمة الإلهية” المقبلة من الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾(لقمان:12)، وهذا معناه أن شخصية “لقمان الحكيم” تختزن المعرفة الصافية القادمة من الله سبحانه وتعالى، فلا يكدرها الشك ولا الخطأ المعرفي، وبالتالي تنطوي على الفلسفة التربوية الحضارية التي ترتقي بالإنسان نحو مستويات سامية من الرقي المعرفي والأخلاقي، وهي بذلك تمثل النموذج المحتذى في الأداء التربوي المنشود.

لما كان التأثير يتم بمقدار عظمة المؤثر ظهر تأثير هذه الأصول التربوية والتفقه فيها في بناء شخصية الإنسان قويًّا وفاعلاً وكاملاً يصعب علينا حصر جميع جوانب هذا التأثير في بناء شخصية الإنسان واتزانها واعتدالها، ولسوف نقتصر على بعض الجوانب فقط، لأن مصدر هذه الأصول هو القرآن الكريم، وموضوع القرآن الكريم هو الإنسان نفسه، ولقد استلهمت هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾(الرحمن4:1)، فقدم تعليم القرآن على خلق الإنسان، وهو متأخر عنه في الوجود لأن تعليم القرآن هو السبب في إيجاده، فبتعليم القرآن يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان.

كما قدم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(الأنفال:24)، الدليل على أن الاستجابة للقرآن حياة أخرى من نوع آخر، ولا يمكن حمل الحياة هاهنا على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فوجب حمله إلى حياة أخرى من نوع آخر، فالاستجابة لأوامر القرآن واجتناب نواهيه، والعمل به هو الحياة الحقيقية.

من أهم ما تثمره هذه الأصول التربوية في شخصية الإنسان والطالب التخلص من التعصب والتقليد، بل إذا ابتدأ الطالب بعد حفظ القرآن بتعلم تفسيره وبيانه والتفقه فيه كما رتبه الله، لم يجد هذا الهاجس إلى نفسه سبيلاً، وما وجد التعصب والتقليد إلا بمخالفة المنهج الذي رسمه القرآن في التربية والتعليم، وهو تعليم الخط والكتابة، ثم التلاوة ثم التفسير والحكمة والتزكية.

أيضا من ثمرات هذه الأصول التربوية على شخصية الطالب أنها تعلمه الاستقلال في الأخذ والترجيح، وعدم التبعية والتقليد، فهذا ابن العربي المالكي في أحكام القرآن كثيرا ما يتعصب لمذهبه ويحمل على المخالفين، إلا أن أسلوب القرآن وروعة بيانه أرغمه في بعض المواضع من أحكامه على عدم التعصب، ونسي نفسه ورجح بقوة مذهب المخالفين لمذهبه، مبينا الوجه والسبب.

أهمية استخدام الأدلة العقلية بالوسائل المعاصرة

كذلك من ثمرات هذه الأصول التربوية وفوائدها وأثرها أنها تكسب شخصية الطالب اتزانًا واعتدالاً وتكاملاً، فلا ينحاز ولا يميل، لأن المصدر الذي يتلقى منه علومه ومعارفه واحد، فلا يطغى عليه جانب دون جانب، فهو عند آيات الأسماء والصفات، يتعلم أسماء الله وصفاته بدون تعطيل ولا تمثيل، وإذا جاء إلى آيات الجهاد -وما أكثرها- تعلم وتفقه في أحكام الجهاد، وإذا جاء إلى آيات الأحكام تعلم الفقه والأحكام الشرعية والحدود، وإذا مر على آيات الفرائض تعلم ذلك ولاشك، وإذا مر على الآيات المتعلقة بالبر والإحسان تعلم ذلك وتطبع وعمل به، وإذا مر على الآيات التي تذكر فيها الأمم السابقة وأحوالهم، وما آل إليه أمرهم اعتبر بذلك واتعظ، وتعلم قصص الأنبياء والرسل وما لاقوه في سبيل الدعوة، وعلم طرق الدعوة ووسائلها وأهدافها.

إن أهم خطوة على طريق تصحيح الخطاب الديني هي وضع منهج متكامل يحتوي على العناصر التي تؤهل الداعية للقيام بواجبه في مجال الدعوة الإسلامية على الوجه الأكمل في المجتمع المعاصر بحيث يكون قادراً على فهم التيارات الفكرية الدينية وغير الدينية الموجودة في المجتمعات الأوروبية والإسلامية وتشتمل على دراسة مناهج الرسل في الدعوة إلى الله التي اختلفت بين مجتمع وآخر بسبب التفاوت الثقافي والبيئي والزمني للمدعوين.

ودراسة المناهج المعاصرة والاستفادة منها على قدر الإمكان إلى جانب ذلك تجب دراسة منهج القرآن في الدعوة الإسلامية الذي يقوم على استخدام الحكمة وهي تعني استخدام الأدلة العقلية مع غير المسلمين مع الاستشهاد بأحداث التاريخ ومناهج البحوث الاجتماعية والعلمية في مجالات الكون والطبيعة والإنسان. واستخدام الأدلة العقلية مطلوب أيضا مع المسلمين عند تناول القضايا التي تهم حاضرهم ومستقبلهم. فمنهج القرآن يجب أن يدرس للدعاة بما يشمل عليه من حكمة وموعظة حسنة ومجادلة بالتي هي أحسن أيضا يجب أن يدرس الدعاة القضايا الفكرية المعاصرة التي لها صلة بالدعوة والتي ترتبط بأفكار مثل الأصولية والتطرف والإرهاب والتكفير والهجرة والتعصب للرأي والتقليد الأعمى للآخرين وقبول الرأي الآخر.

كذلك يجب دراسة الآليات والوسائل المعاصرة التي يستخدمها الدعاة في مجال المواجهة وذلك بتبصيرهم بالاتهامات التي توجه للإسلام من جانب الحاقدين عليه وبيان مفهوم العولمة وأثاره على المجتمعات الإسلامية، كما يجب التركيز في الدعوة على السماحة والتيسير واحترام الآخر والبعد عن الخرافات وعدم الانفصال عن الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي.