إن السؤال الأساس الذي يمكن طرحه في عصر الهيمنة التكنولوجية على عالم الإنسان يتمحور حول كيفية المواءمة بين الإنسان والطبيعة بعد أن سلبته التكنولوجيا طبيعته الإنسانية وقامت بتشييئه، ومن ثمة فإنه يمكننا القول إن التكنولوجيات سلبت الإنسان الحرية باعتبارها أعلى قيمة لدى الإنسان من خلال التحكم في حركاته وأفعاله؛ إننا أصبحنا أمام شبه تعطيل لكثير من القدرات أو الكفايات الإنسانية من قبيل ملكة الذاكرة، وملكة اليد المبدعة، وملكة العقل، وأمام ضمور استخدام كفايات إنسانية كثيرة من قبيل التفكير والحركة.
التكنولوجيا وتعليم الكسل
إن التكنولوجيا عطلت الحركة لدى الإنسان؛ فلم يعد يستطيع التحرك بشكل كاف بسبب توافر وسائل النقل الحديثة التي لم تترك للإنسان إمكانية الحركة خارج بوتقة الآلة؛ لقد كان أجدادنا يعيشون في صحة جسدية ونفسية جيدة، فكانت الحركة الدؤوبة من أجل الكسب رياضتهم، أما في زمننا، حيث القاعات الرياضية ممتلئة عن آخرها، فإن جل الناس في غياب الحركة والعمل اليدوي يعانون صحيًّا، سواء ارتبط الأمر بالصحة الجسدية أو بالصحة النفسية.
التكنولوجيا وتعطيل الذاكرة
إن الذاكرة في عصر الآلة صارت شبه مغيبة، فقد انتهى زمن الحفظ، وحتى المعلومات البسيطة والعمليات الحسابية السهلة لم يسعد دماغ الإنسان قادرًا على تخزينها أو استيعابها، معوّلاً في ذلك على الآلات الحاسبة والرقمية، ولم تعد لدى الطفل أي طاقة استيعابية للحفظ، فضاعت منه مهارات الحفظ والقياس والمقارنة والتحليل والتركيب، معتمدًا على مخزون الآلة في اشتغاله على أبسط التمارين العلمية أو التطبيقية، وهو ما غيّب لدى الإنسان عمومًا، سلطة المعرفة التي كانت تميزه عن غيره من الكائنات باعتباره كائنًا عاقلاً، بحيث يتم التوجه في البحث عن أبسط الحلول إلى الحاسوب والهاتف واللوحات الإلكترونية وإلى محرك البحث غوغل؛ فقد شغلت التكنولوجيات والرقميات الإنسان عن تخزين العلم والمعرفة والتجارب في ذاكرته، من خلال تسجيلها في الأجندات الإلكترونية.
تعطيل الكفاءات الأساس لدى الإنسان
مجموعة من الفنون الإنسانية المحضة تم قتلها بسبب الآلة التي عوضت عمل الإنسان وفنه وضيعت مجموعة من المهارات من قبيل مهارة الخط التي لم يعد اليوم هناك اهتمام بها، فضلاً عن مهارة كتابة الرسائل، وغيرها من المهارات الفنية والأدبية، كما أن الإبداع الإنساني انحسر في الأمور الرقمية والآلية ولم يعد الطفل مثلا تستهويه فنون الرسم والموسيقا والنحت وغيرها، بل انشغل بالتفاهات المسماة ألعابا إلكترونية، والتي تضيع كثيرا من وقته، وقد لا تفيده في شيء، ومن ثمة أصبحنا عالقين في قفص الآلة بما تفرضه علينا من قوانين لمواكبة عصر السرعة.
اختفى كذلك فن الصورة والتصوير الفوتوغرافي الذي كان يدرّس في المعاهد بسبب انتشار البرمجيات التطبيقية للتصوير الرقمي، ولم يعد المرء بحاجة إلى امتلاك فن التصوير الفوتوغرافي، أو حتى الرسم بسبب الآليات الجديدة المبرمجة للتخطيط للصورة بمختلف أشكالها، فكما اختفى فن الخط العربي وصار من التراث، تكاد تختفي معه فنون أخرى من قبيل الرسم والتصوير. إننا أمام تعطيل حقيقي لأهم الملكات والمهارات الإنسانية التي جعلتنا نربح الوقت وننجح في إتقان أمور كثيرة لكنها في الوقت ذاته عطلت قدراتنا ومهاراتنا اليدوية الجميلة.
الآلة وقتل الوقت
تقتل الآلة الوقت وتقتل معها طموحات الإنسان وانشغالاته التي كانت ذات أهمية، حيث كان الإنسان قبل ظهور التكنولوجيا الحديثة ملزمًا بأن يقوم بأعماله وحاجياته بنفسه، فصار اليوم مقيدًا بالآلة التي تذكره وتوجهه وتملي عليه ما يجب أن يفعله كما أنها تفكر أحيانًا مكانه. إنه قتل حقيقي لحرية الفعل لدى الإنسان حين يربط أفعاله بالآلة.
ورغم أن الآلة توفر للإنسان الوقت، كما يفترض، إلا أنه، في الواقع، لم يعد يجد الوقت الكافي لقضاء أموره الأساسية، وصارت أوقاته كلها تضيع في تتبع مجريات الأحداث والأخبار الزائفة والألعاب التافهة التي يصادفها في قنوات الإعلام السمعية البصرية التكنولوجية والرقمية التي تدمر وقته بشكل يجعله قابعا أمامها إلى آخر نبض في يومه.
إن الزمن النفسي يشتغل كثيرا في التعامل مع الآلة فأن تجلس أمام شاشة التلفاز لثلاث ساعات أهون بكثير من أن تتمشى في الطبيعة لنصف ساعة، فلم يعد لدى الإنسان الوقت الكافي لأموره الأساسية والحيوية وصار يجري وراء التفاهات من خلال تزجية الوقت في مشاهدة الأفلام السينمائية ومتابعة مباريات كرة القدم وغيرها من الانشغالات التي تقتل لديه الوقت والطموحات.
هذا الواقع يدعونا إلى طرح السؤال الأساس: كيف يمكن للإنسان أن يخلق نوعا من المواءمة بين إغراءات التكنولوجيا وواقعها، وبين ذاته وقيمه ومتطلباته هو كإنسان؟ إذ يبدو أن الإنسان، اليوم، في خصام مع ذاته بشكل كبير، حيث لم يعد يمنح نفسه وأهله ومجتمعه وبيئته أي أهمية، ومنح الآلة نفسه ووقته.
إن هذا الواقع يجرنا إلى تأمل ما فعلته الحضارة المادية عمومًا بالإنسان حيث قتلت فيه جانبه الروحي ودمرت الأشياء الجميلة لديه، مثل علاقته بالطبيعة وممارسة الرياضة وعلاقات الصداقة، ومطالعة الأدب، والسفر، وغيرها من الأمور التي ميزت أجيالنا السابقة؛ كما نقرأ ذلك فيما خلفوه من تراث جميل يجعل الجميع يحن إلى العصور الأولى، حيث فهم الإنسان الحياة وعاشها في بساطتها، حتى إن العارفين من أهل الزهد والحكمة تركوا شهوات الدنيا ولجأوا إلى الوحدة والتأمل والسفر بحثا عن ذواتهم الضائعة.
ضرورة العودة إلى الذات والطبيعة
إن أهم ما يجعل الإنسان إنسانا هو جانبه الروحي الذي متعه الله به خاصة ما حباه به من عقل ومن مشاعر والتي تستطيع أن تُبنى من خلال تحفيز الجانب الروحي وتغليبه على الطبيعة المادية التي طغت على الحضارة المعاصرة. إننا بذلك نكون أمام الإنسان الكامل الذي يعلم كيف يوازن بين الطبيعة والحضارة.
يرتاح الإنسان الى الطبيعة، إلى البادية، إلى صوت الحيوان وخرير المياه وزقزقة العصافير، إلى أن يلعب، أن يسافر، إلى أن يعبث بقدر ما يجدُّ، إلى أن يتعايش اجتماعيا مع الآخرين، حيث نرى اليوم أن الناس أهملوا زيارة الأقارب وصاروا يزورون الأباعد الافتراضيين عبر صفحات فيسبوك وتويتر، وهي صداقة كالسراب قربت البعيد وأبعدت القريب.
تنظيم الوقت
إن تنظيم الوقت من أولويات تدبير الحياة التي على الإنسان أن يتعلمها في المدرسة من خلال العمل على الموازنة بين متطلبات الحياة المتوازنة عبر التنظيم القائم على الأولويات التي تعطي كل ذي حق حقه؛ فيبدو، بذلك، أن تمضية ساعة يوميا في فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي كافية جدا ما دام الأمر يتعلق بأمور ثانوية وافتراضية.
وإذا احتجنا إلى ساعة في التواصل الافتراضي فإننا سنكون بحاجة إلى ساعتين في اليوم للتواصل الواقعي بأناس هم أهم ما لدينا في هذه الحياة من خلال تخصيص ساعتين لزيارة قريب أو صديق أو عيادة مريض، وهو ما يقوي أواصر العلاقات الإنسانية.
لا بد أن يترك الإنسان في برنامجه القائم على الأولويات وقتا خاصا بالرياضة التي عليه أن يخصص لها ضِعف ما يخصصه للتواصل الافتراضي؛ وعوض أن يتابع المرء مباراة لكرة القدم لم لا يشارك هو في مباراة لكرة القدم مع أصدقائه وهو ما سيفيده في تنشيط جسده وعقله ويقوي علاقته بأصدقائه؛ حيث يحز في النفس أن نرى الشباب يمضون بياض يومهم بالمقاهي في متابعة مباريات كرة القدم المباشرة والمسجلة.
نخلص إلى أن الإنسان ينبغي أن يتخذ التكنولوجيا وسيلة للحياة لا هدفًا من الحياة، وأن يعمل على خلق توازن حقيقي بين متطلبات حياته الخاصة كإنسان وبين واقع الحضارة المعاصرة التي تطغى عليها الآلة؛ أن يكون هو المتحكم في التكنولوجيا لا أن يتركها متحكمة في حياته وفي وقته.
إننا بحاجة إلى ثقافة تكنولوجية ينبغي أن يساهم في بنائها التعليم والإعلام، ثقافة تجعلنا ندرك القيمة الأساس للتكنولوجيا في تيسير حياة الإنسان وفي تحقيق الرفاهية له، على ألا تكون عائقًا أمام رقيه أو عاملاً مدمرًا لقيمه.