يجب أن يتمتع المرشح الرباني المكلف بأداء أعظم الأمانات بمواصفات ذات خصوصية؛ صفات خَلقية وخُلقية؛ صفات تتناسب مع التهيئة الربانية لجنوده لاستقبال هذا الفذ، لأن تهيئة الكون للجنود تكون على قدر عطائهم المرتجى، ومن المنن واللطائف اختيار الحنان المنان لعبده وخيره خلقه محمد صلى الله عليه وسلم لحمل الأمانة العظيمة؛ ليُختم كنز الوحي بخاتمٍ قُرشي يتصل بإسماعيل.
تهيئة المكان
تهيئة المكان لاستقبال أعظم القواد من الرسل بدأ البداية الفعلية في معجزة الله بإنشاء مكة ليمضي قطار التهيئة المكاني ببناء الكعبة والدعاء المبارك، والبشارات من إخوانه من الأنبياء والرسل السابقين، والمتأمل لموقع مكة الجغرافي يدرك أن اختيار الله لهذا المكان في قلب الصحراء القاحلة بين الجبال المشرعة سيوف الجدب كان بمثابة آلة التفريخ التي يجب أن تكون بعيدة عن كل ما يفسد بيضها؛ فالماء في تلك الأرض لا يفي لعملية الزراعة التي تجعل البلاد والعباد مطمعًا للغزاة، والبيئة الوعرة البعيدة عن سواحل البحار كفيلة بأن تمنح المدينة خصوصية في العادات والتقاليد والمُسلمات، وتبعدها عن وسائل الرزق التي تتيح لأهلها مزيداً من الاختلاط كالصيد وإنشاء المواني، وتبعدها كل البعد عن عيون السفن الحربية الطوافة ، والطبيعة الوعرة مع التوقيت الوعر من المعايش والأقوات والخمول الصناعي إلا ما ندر من صناعة السيوف والدروع والغزل؛ كفيل بأن يجعل المدينة مهملة لا يطمع فيها طامع ، وهو ما يعنى حفظ الأنساب بها وحمايتها من الأسر والعبودية والاختلاط ؛ ليبقى نسل قائدنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واضحًا لم تشبه شائبة.
تهيئة الزمان
مر على ميلاد المسيح عليه السلام ما يزيد عن ستةِ قرون كانت كافية لخضوع العالم إلى تجارب عقائدية فاسدة، وتأرجحت البشرية فيها من حينٍ لآخر لأراء الفلاسفة وأصحاب الأهواء، حتى المناطق التي عاش فيها الأنبياء تمرد أهلها وتركوا ما جاء به أنبياؤهم وخاضوا في الشرك بكافة الصور؛ ليمضي القطار البشرى متخبطاً شرقاً وغرباً، ويصبح التخبط في أعلى مراحله إبان بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليصل الكفر في تلك الفترة إلى عنق الزجاجة لتستغيث عقارب الساعة سائلةً مَنَّ يدمر تلك الزجاجة العفنة.
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت في موعدها المضبوط بعد أن بلغ التبديل والتغير في دين إبراهيم الحنيف مداه، استقسام بالأزلام، ميسر، بحيرة، سائبة، تلبية بها شرك، قلوب قاسية تجلد العبيد، راياتٌ حُمر، قطع طريق، وعدم وقوف أهل مكة بعرفات وغيرها من المنكرات التي أشار لبعضها جعفر بن أبى طالب رضي الله عنه في رده على النجاشي عندما فر الصحابة بدينهم إلى الحبشة في الهجرة الثانية.
تهيئة النبي
هيأ الله المكان والزمان لآخر الرسالات وأعظمها؛ بعد أن اختار أفضل من خَلقَ للقيام بأعبائها وواجبات جنديتها -محمد بن عبد الله- وهذه الرسالة بحجمها واختصاصاتها ووظائفها تحتاج لقائدٍ عظيم يتمتع بأعظم خصائص الجُندية الربانية وأرقى مراتب القيادة البشرية، ومن هنا هيأ الله عز وجل خير خلقة لخير رسالاته؛ تهيئة تليق بالرسول والمرسل به، ومن مظاهر تهيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
– بشريته صلى الله عليه وسلم وبما تعنى البشرية قُلْ إنما أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ. ولكن هذه البشرية هيأ الله لها خير الأنساب وأزكاها قاطبة لتأتى منها؛ لتمضى الهوية المحمدية من رحم ذكى إلى أذكى فتتمثل وضاءةً وطهر ويكون الاصطفاء الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم فيولد حاملاً أعظم صفات الجينات الوراثية المخلوقة من الله على الإطلاق.
– موت أبيه صلى الله عليه وسلم بعد أن سلم الأمانة إلى أذكى رحم – رحم السيدة آمنة بنت وهب – هو من التهيئة الربانية لكي يولد صلى الله عليه وسلم وحيداً يتيم الأب موصول الرب؛ وتخيل معي لو ظل والد النبي صلى الله عليه وسلم حيًّا وأنجبت السيدة آمنه أخا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم وشاء الله أن يتجه ذلك الأخ إلى ما اتجه إليه أهل مكة فماذا يكون موقفه، أو شاء الله وأسلم أخيه على يديه، كيف تكون علاقة المسلمين بأخيه في حياته وبعد موته، وماذا لو ظلت السيدة المباركة على قيد الحياة وكبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولعدله ولأخلاقه الكريمة رفض أن تظل أمه دون زوج واختار لها زوجًا طيبًا فأنجبت منه أخاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
– فقد النبي صلى الله عليه وسلم والديه لخمسِ من عمره أضفى على حياته لمسة حزن جعلته قريباً من اليتامى والمساكين دون ذلة وضعة، كما أضفى عليه مزيدًا من الأسئلة التي يطرحها الصغار عن الموت وكيفيته ومَنْ هو المميت، تلك الأسئلة علا شأنها بعد فقد الكافل الثالث –جده عبد المطلب- وكان عمره آنذاك تسعِ سنوات؛ لتتحول الأسئلة إلى سكوت وتأملات وفكرٍ راقٍ، هذا التفكر دعمه الله في المدة التي أُرضع فيها النبي صلى الله عليه وسلم في بني سعد في بيت السيدة حليمة فنما عوده في بيئة نقية بعيدة عن المعتقدات الفاسدة والأخلاق المنكرة ، وتزيد التهيئة الربانية في إذكاء الفكر المحمدي بحادثة شق الصدر؛ لتزيل حظ الشيطان من قلب النبي r قبل ثلاث سنوات من عُمره، لينمو النبي ذكيًّا حليمًا صابرًا متأملاً متسائلاً عن الموت ومن الذي يرسله.
– جانباً آخر أجده في فقد النبي صلى الله عليه وسلم لمن يكفلونه تدريجيًّا وهو من عظيم التهيئة الربانية؛ وهي مشيئة الله أن يكون النبي أُميًّا، فماذا لو ظلت أمه على قيد الحياة ورغبت في تعليمه القراءة والكتابة؛ لكنها مشيئة الله ليعلمه جل وعلا تعليماً خاصاً لم يتح لغيره صلى الله عليه وسلم.