القصة القصيرة فن أدبي ظهر في العالم العربي في أوائل العشرينيات بعد ظهوره في الآداب الأوروبية، وكما حافظ الشعر العربي في فترات طويلة متقدمة على اللغة العربية، كان للقصة القصيرة أيضًا إسهام في الحفاظ على العربية رغم ما حلّ بها من عامية اللغة، إلا أن هناك بعض المحافظين عليها، الذين يرتسمون خطى السابقين ويسيرون عليها.
وكما أسهمت المجلات في ظهور هذا الفن ونشره منذ زمن، كان لمجلة “حراء” الدولية دورها في الحفاظ على العربية من خلال ما يتم نشره من مقالات وأشعار، وكان للقصة القصيرة مكانتها في المجلة.
يضم موقع “حراء” الإلكتروني ما يقرب من الأربعين قصة قصيرة، لحوالي ثلاثين كاتبًا من جنسيات مختلفة، اختلفوا فيما بينهم واجتمعوا على لسان عربي مبين.
من خلال القراءة المتأنية لبعض القصص، نستطيع أن نقف على فنيات القصة القصيرة في مجلة حراء؛ فالقصة هدفها تعليمي تربوي، إسلامي في طابعه العام، يمكن أن ندرج الكثير منها تحت مسمى “الأدب الإسلامي”. وهذا ما نجده في قصة “التوبة”، وقصة “مناجاة أم” التي يبين من خلالها الكاتب، أن الإنسان مهما كان به من ألم أو ضيق، يستطيع أن يقدِّم المساعدة للآخرين؛ فالأم الطبيبة رغم ما تعانيه من ألم على مرض ابنها، فإنها تذهب لتقدم يد المساعدة لطفل آخر في قرية نائية، وعندما يشتد الكرب بأم الطفل الفقير، تطلب من الجميع أن يصلّي ويناجي الله ليفرج الكرب عن طفلها.. فتتذكر الأم الطبيبة طفلها، ثم يجلسون جميعًا يتضرعون إلى الله، ثم تترك الطبيبة مَبلغًا من المال لأم الطفل لترعى ولدها وتعتني بصحته جيدًا.
أما قصة “وابناه.. لتكن أنت الفداء” فهي قصة تربوية تبرز قيمة المبادئ والقيم التي يتحلى بها معلمو الأجيال، ليكونوا عبرة وقدوة لغيرهم.
وفي قصة “الحروف المهاجرة” يصور الكاتب حالة من الاغتراب والهروب للغة لطالما لملم صاحبها بقاياها؛ ليتعلم أبجدياتها من جديد حتى يكتب لمن يحب عمن يحب.. فاللغة دائمًا تعجز أمام الأشواق الملتهبة بين الضلوع.
من السطور الأولى يأتينا يقين أن هذه الأم ما هي إلا رمز لأم أكبر، وحضن أرحب هو الوطن (فلسطين)، رغم أن الكاتب لم يصرح عن اسمها إلا في نهاية القصة حين قال: “كان متلهفًا لصباح الغد حين يجيء ويأخذ خطابه أول ذاهب لفلسطين”.
القصة تصف حالة من المشاعر الفياضة نحو وطن مغتصب.. تشرد أبناؤه، والأمل يملؤهم بالعودة ظافرين، يكتفون بمجرد رسائل يرسلونها إلى الأم في صورتها الحقيقية والمجازية المتمثلة في الوطن.. تصف القصة حالة التيه والحرمان التي يشعر بها أبناء الوطن وحلمهم بالعودة ظافرين، محملين بالأمل الذي يغير وجه المدائن المسجونة في دموعها. أما عن الكتابة التي تعلمها الابن البار، فما هي إلا حالة الوعي الجمعي له ولإخوانه الذين قرروا العودة وعدم الاستسلام.. فمهما طال الزمن وتناءت المسافات، فلا بد من عودة تغسل وجه المدينة من دموعها.
أما عن “نهاية الجبروت”، فالقصة تعتمد على عنصر التشويق الذي يدفع المتلقي إلى تصور بعض الأحداث مسبقًا، ثم يتقدم الحدث ليغير ما نتوقعه.. فالملك يبدأ رحلة في البحر، فنظن أنه يريد أن يدع حياة الملوك ليعيش حياته الطبيعية كإنسان حر لا تقيده سلطة، يريد أن يستمتع بالطبيعة وجمالها في حالة من التأمل الذاتي، لكن سرعان ما يتلاشى هذا الإحساس والتعاطف الذي أخذنا معه، إذ يبدأ تسلطه وكأنه يريد من الطبيعة أن تأتمر بأمره كما الجنود والحراس.. وحين تأتي لحظة النهاية تكون المفارقة بين حال الملك في استقباله للصباح، وحال العامة البسطاء في استقبالهم لنسيم الصباح. القصة على بساطتها، تحمل العديد من المفارقات، ومع هذه المفارقات نضع الكثير من التساؤلات حول طبيعة النفس البشرية حين تتولى سلطة؛ لتنتهي القصة إلى حالة من العظة من حياة هؤلاء المتجبرين المتكبرين في الأرض.
عتبات النص
من المصطلحات التي ظهرت على الساحة حديثًا، ما عُرف بعتبات النص، أو النص الموازي، أو النص المحيط؛ وتعرف هذه العتبات على أنها الباب الذي ندلف منه للفضاء النصي لفتح مغاليقه.. فهي تمثل مستوى من مستويات قراءة النص. ومن هذه العتبات: العنوان، الغلاف، الإهداء، الحواشي، التصدير، كلمة الناشر، كلمة المؤلف. وما يعنينا في هذا المقام حسب ما تقتضيه طبيعة القصص المنشورة، عتبة العنوان، وعتبة الغلاف المتمثلة في الصورة المرفقة بكل قصة. هاتان العتبتان تمثلان رأي مجلة “حراء” فيما تختاره من غلاف، ومن تدخل -أحيانًا- لتعديل في عنوان القصة المنشورة. فهي بذلك تمهد الطريق أمام القارئ للدخول إلى عالم النص، حاملاً معه إشاراته الدلالية والإيحائية، والتي قد تتوحد مع النص أو تختلف معه.
العنوان
العنوان هو الخطوة الأولى التي يقدم بها العمل نفسه إلى المتلقي، فهو بذلك يمتلك بنية ودلالة لا تنفصل عن خصوصية العمل الأدبي. فهو بنية ليست زائدة، وإنما نظام له أبعاده الدلالية والرمزية والسيميائية. فهو نص مواز للنص الأدبي، له وظيفتان؛ وظيفة المطابقة، والوظيفة الإيحائية الدلالية. ومن خلال القراءة المتأنية لعدد من القصص وعناوينها، نستطيع أن نقف على وظائف العنوان في بعض القصص المختارة.
1- التوبة: جاء العنوان صريحًا ومطابقًا لأحداث القصة التي تسرد حياة فتاة بدأت حياتها بين والدين لا يعرفان للاستقامة طريقًا، تستمر حياتها هكذا إلى أن تدخل الجامعة وتصادف صديقة تكون لها بمثابة الطريق الذي تسير فيه نحو الهداية.
فالعنوان جاء مطابقًا للنص لا يشتمل على أي نوع من أنواع المفارقة. وكذلك معظم القصص المنشورة بالمجلة التي تعتمد الوضوح والسهولة والمطابقة بين العنوان وبين النص؛ لتحقق هدفًا من أهدافها المرجوة في توصيل الفكرة، والقيام بدور إصلاحي وعظي ديني.
2- نور: جاء العنوان صريحًا ومطابقًا لاسم بطلة القصة الطفلة نور، ومع هذا العنوان الصريح يأتي المعنى الضمني الذي حملته القصة؛ فنور كانت بمثابة طاقة نور تعيد للرجل ابتسامته، وتنير طريقه رغم المأساة التي يمر بها.
3- لست وحيدًا: جملة تكررت مع بطلين رددها المؤلف مرتين ليؤكد على أن الإنسان لم يخلق وحيدًا. فالبطل الأول وهبه صاحب المرسم حياة أخرى غير الحياة اللاآدمية التي كان يحياها، وحين كبر وقف أمامه نموذج مصغر من حياته الماضية وكأن الزمن لا يكف عن الدوران، وكأن الأيام تعيد نفسها مع اختلاف طفيف في اسم وشكل الشخصيات، فقرر أن يهب لهذا الغلام حياة أخرى كما وُهِبَت له من قبل. فالقصة توقفنا على البعد الإنساني في حياة البشر، وكيف أن الإنسان لا يكون وحيدًا مهما كانت الظروف من حوله، فقد يسخّر الله له من يخرج له من رحم اليأس أملاً.
الوظيفة الإيحائية
تظهر هذه الوظيفة في قصة “بين السماء والأرض”، فالقصة تسرد حياة طفل تعلق بجده الذي توفي في سن مبكرة، فحين يزوره مع أمه في قبره ويسألها عن وضعه، وكيف يعيش جده في هذا المكان الضيق، تخبره أن هناك سلمًا يربط بين القبر والجنة التي يسكنها جده، إلى أن يحين موعد اللحاق به لمرضه وعدم تمكنه من العلاج، فيخبر أمه أنه سيكتب قصة عن حياته ويتقدم بها ويبدأ في سرد أحلامه، وتنتهي القصة بأن الفقراء موطنهم السماء. فجاء العنوان تلميحًا وليس تصريحًا عن الحياة التي يعيشها هؤلاء الفقراء على الأرض وآمالهم المؤجلة، لحين صعود السماء، فإن تأخر الأجل تظل الآمال معلقة بين السماء والأرض.
أما عن “جواز مرور”، فجاء العنوان إيحاءً عن الواسطة والمحسوبية التي تسير بها بعض الشعوب ضاربة بالشهادات والخبرة وكفاءة الشباب عرض الحائط، وهذا ما كان مع الشاب الذي يملك الذكاء والخبرة والشهادات التي تؤهله للعمل بإحدى السفارات، لكن لم يتوفر معه أهم شيء وهو “الواسطة”، فجاء العنوان “جواز مرور”، وكأن “كارتًا” من أحدهم بمثابة إشارة لقبول هذا الشخص، وهذا ما لم يتم معه.
عتبة الغلاف
تبوح هذه العتبة بالكثير، يقف أمامها المتلقي ليتعرف على النص، ويحرص الناشر على أن تعبر عن النص المكتوب بحملها لدلالاته. وللغلاف تشكيلان: تشكيل واقعي، وتشكيل تجريدي. وأغلب الصور المرفقة بالقصص تشكيلها واقعي؛ حيث تشير بشكل مباشر إلى أحداث القصة، أو على الأقل تشير إلى مشهد مجسد من أحداث القصة.
ففي قصة “الشوكة” ترفق معها صورة غصن به أشواك لونها أحمر دامي، وهي إشارة إلى الشوكة التي أصابت البطل في صغره، ورغم أنها شوكة واحدة مادية أصابته فإن الغصن يحمل العديد منها، في إشارة إلى الشوك المعنوي الذي أصاب قلبه في الكبر. وقد ترددت هذه اللفظة مرات عديدة إشارة إلى الشوك المادي والمعنوي في القصة.
أما قصة “العائد إلى الله”، فهي لشاب يمر بوعكة صحية تجعله يعود إلى رشده، ويترك طريق الشيطان، ويسير في طريق النور والهداية بمساعدة إحدى قريباته.. فجاءت الصورة معبرة بشكل مباشر عن هذا الصعود في العلاقة مع الله؛ حيث يصعد الشاب درجات سلم تاركًا السفح متجهًا نحو القمة.
تشكيل تجريدي
يقصد به صورة تجريدية تحمل دلالات تعود على النص ذاته، وإن كان هذا النوع من الصور يعود في تأويله إلى ذاتية المتلقي، ومدى قبوله أو رفضه في حمل الصورة لدلالات النص ومضمونه. وذلك في قصة “لست وحيدًا”؛ فالصورة المرفقة عبارة عن طائر يحلق، ولأن عادة الطير الطيران، ومن يتخلف في عشه ولا يلحق بالسرب يكون وحيدًا، فقد جاءت الصورة لطائر يحلق عاليًا بين إخوانه، فهو ليس وحيدًا.
ليلة ممطرة: تكتمل في هذه القصة عناصرها من شخصيات، ووحدة الزمان والمكان والحدث، وتصاعد الحبكة حتى تصل بنا إلى المفارقة، محققة عنصر التشويق.
تبدأ القصة بوصف لوحة جميلة عبّر العنوان عن جزء منها، والغلاف عن جزء آخر. فالقصة لوحة تتراءى من خلالها الأحداث بمكوناتها السمعية والبصرية المتمثلة في المطر والرعد والبرق. وتأتي الصورة ليكتمل مشهد الرؤية بفنجان القهوة، والضوء الخافت حولها، وظل الفنجان المنعكس بجانبه، وبذلك تكتمل الصورة البصرية والسمعية لدينا، ثم تستكمل القصة بالبطل الوحيد سعيد بهذا المنظر الجميل، حتى وصل به الأمر إلى حد أنه لا يشعر معه بوحدة رغم وحدته الحقيقية، وفي لحظة الصفو هذه، يدق جرس الباب فيقوم على مهل ليفتحه، فيجد فتاة حسناء تريد أن تحتمي من المطر ببيته، يدخل ليحضّر لها فنجان القهوة ليخرج فلا يجدها، ويتفاجئ بساعته الذهبية قد اختفت من على مكتبه، فيعود إلى جلسته صامتًا وحيدًا حزينًا. وهنا تكمن المفارقة، فرغم سعادته المؤقتة بوجودها، فقد خلفت له حزنًا وعمقت بداخله صمته ووحدته وخيبته في وجود البشر من حوله. أخيرًا نجد أن العنوان والصورة المرفقة بالقصة تضافرا معًا ليرسما مشهدًا حيًّا لنا.
وبعد جولتنا بين ربوع بعض الدول التي مثل مبدعوها ثقافتها، نستطيع أن نختم بقولنا: استطاعت مجلة “حراء” أن تجمع بين العلوم والثقافات المختلفة، وأن تجعل من صرحها بيتًا يجتمع فيه مبدعون وكتّاب من دول مختلفة، فرقهم الزمان والمكان والثقافات، شتَّتتهم سياسات وحسابات أخرى فرضت عليهم؛ لكنهم اجتمعوا على لسان عربي وقيم إنسانية مشتركة، فظهروا جميعًا في ثوب واحد. وفي خضم معركة الصراع المتلاحق والتقدم، لم تكتف بالوقوف ناظرة فواكبت في ثوب القصة والشعر والدراسات الحديثة، فجمعت بين الأصالة والمعاصرة.
لقد حاولت مجلة “حراء” من خلال قصصها القصيرة، أن تواجه تحديات العولمة وأثرها الخطير في تنشئة أجيال جديرة بالحياة، قادرة على تحمل المخاطر المحيطة من كل جانب، مصوبة سهامها على الدين والقيم والمثل والمبادئ وغياب القدوة والصحبة الصالحة. فقد ركزت القصص على كل الغياب الذي لا بد من حضوره حتى نرتقي بأنفسنا أولاً وتتبعنا البقية.
(*) كاتبة أديبة مصرية.