التعاون على إعمار الكون، والمحافظة على البيئة، وحفظ حياة الإنسان وحقوقه، وتوفير ضروريات معاشه التي تكفل له الكرامة والاحترام، ومحاربة الفساد والعبث في الأرض.. كلها أمور يشترك فيها الناس بصفتهم الإنسانية. ويجب على المسلم أن تكون مشاركته في مثل هذه المصالح العامة التي تخدم الإنسان، مشاركة إيجابية، يكون له فيها دور السبق والريادة، ولا يكون المسلم أبدًا متخاذلاً عن مثل هذا التفاعل والتعاون.
فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم مساعدة عمه أبي طالب وما قام به من دور بارز في مؤازرة دعوة الإسلام في مهدها الأول، على الرغم من أن أبا طالب لم يقبل الدخول في الإسلام، ولكنه آوى رسول الله وأسبل عليه الحماية والرعاية، ودافع عنه في مواقف كثيرة ضد صناديد قريش. وكان رسول الله يُكبّر أبا طالب في كل موقف، ويحترم رأيه وكلمته طالما أنه لم يأمره بالتخلي عن دعوته وحريته.
والذي جعل موقف النبي صلى الله عليه وسلم يختلف في معاملته بين عميه أبي لهب وأبي طالب على الرغم من بقاء كليهما على الكفر، أن أبا طالب احترم إرادة النبي وقدر له حقه في اختيار الدين والدعوة إليه، ولكن أبا لهب ناصب النبي العداء ولم يرض إلا أن يجبر رسول الله وأصحابه على العودة إلى دين الأصنام، ولم يقتنع أبو لهب يومًا بحرية الإنسان في اختيار عقيدته.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته، بعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل، فدخل رسول الله فطاف بالبيت وصلى عنده. ثم انصرف إلى منزله.
ثم دخلت بنو هاشم جميعها طواعية في الحصار مع بني عبد المطلب، وقام بعض المشركين بمساعدتهم بالطعام أثناء الحصار. وقد وثِق النبيُّ صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن أريقط، واتخذه دليلاً ومرشدًا في طريق هجرته إلى المدينة المنورة، وكان ابن أريقط مشركًا ولم يثبت أنه أسلم قط. ولم يكن ابن أريقط مجرد أجير أو عامل، بل كان رجلاً مقتنعًا بشخص النبي، مجِلاًّ له ومقدرًا لقضيته ودينه؛ فقد عمل ابن أريقط على تضليل قريش عن رسول الله وصاحبه بكل سبيل، ولو كان مجرد عامل يبتغي مالاً لأرشد عن النبي وصاحبه، وفاز بالمائة ناقة التي رصدتها قريش جائزة لمن يدل عليهما.
احترام النبي صلى الله عليه وسلم لملك الحبشة النجاشي وشعوره بالأخوة الإنسانية معه، جعله يأمر أصحابه بالهجرة إليه قائلاً: “إنه لا يُظلم أحد عنده”.
وعندما عقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة مع قريش في الحديبية، تواثبتْ خُزاعةُ فقالوا: نحن في عقْدِ محمد وعهدِه. فقبل النبي دخول قبيلة خزاعة مسلمهم وكافرهم في حلفه وعهده.
ولما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدرعًا وسلاحًا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك، فقال: “يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غدًا”. فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟ قال: “بل عارية، ومضمونة حتى نؤديها إليك”. قال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مئة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها، ففعل.
ولقد أتاحت الدولة الإسلامية لأهل الذمة سبل المشاركة الفعالة في الحياة الاقتصادية، وذلك بما كفلته لهم من حقوق وحريات، جعلتهم يحيزوا الثروات الضخمة والمناصب الكبيرة في العصر العباسي وما بعده.
فأتاحت لأهل الذمة سبل الاشتغال بالتجارة، ويسرت لهم حرية التنقل على امتداد العالم الإسلامي كله، مثال ذلك ما حواه عهد أهل “بعلبك”؛ أنه لتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها. وقد تيسر على إثر ذلك لأهل الذمة أن يحتكروا بعض التجارات في أواخر القرن الثالث الهجري مثل الصيرفة.
وكما جاء في “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” أن أهل الذمة تمتعوا في البلاد الإسلامية بوضعية اقتصادية واجتماعية كانت تؤهلهم لأن يكونوا الثروات الكبيرة ويرتقوا المناصب السياسية الرفيعة، وأن يتمكنوا من ممارسة كافة الشعائر الدينية، مثل الاحتفال بالأعياد والمناسبات بحرية وأمان.. ومثال ذلك ما وصل إليه نصارى بغداد من مكانة اجتماعية واقتصادية؛ ففي أيام الخليفة المتوكل، صارت لهم ثروات ضخمة وسكنوا القصور، حتى كان الطبيب بختيشوع يضاهي الخليفة المتوكل في اللباس وعدد الجواري والعبيد.
(*) مفتي الديار المصرية الأسبق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف / مصر.