بكاء فقد الحيوان

بكاء فقد الحيوان صورة من صور الوفاء النقي البعيد عن مظنة الرياء الاجتماعي، فهو يعكس الرابطة العريقة بين الإنسان، وبين أمة الحيوان والطير. وحديثًا توجد مراكز تعالج “صدمة من فقدوا حيواناتهم الأليفة”. وبكي شعراؤناـ قديمًا وحديثًا على حيواناتهم التي نفقت أو قتلت سواء كانت خيلاً شقت الصفوف في حومة الوغي، أو مطية ذلولاً حملت صاحبها لبلد لم يكن بالغه إلا بشق النفس، أو حيوانا شارك الصيد، أو كلبًا وفيًّا حرس الدار والمال، أو عجلاً أو رأسًا من الضأن أو داجنًا من الدواجن.

فرس السليك بن السلكة

السليك بن عمير بن يثربي بن سنان السعدي التميمي، والسلكة أمه. كان شاعرًا أسودًا، وفاتك أعداء من شياطين الجاهلية يلقب بـ”الرئبال”. كما كان أعرف الناس بالأرض وأعلمهم بمسالكها، وله وقائع وأخبار كثيرة. إلا أنه لم يكن يغير على “مُضَر” وإنما يغير على “اليمن” أو على “ربيعة”. وبكي الشاعر “السليك” فرسه “النحَّام” وافتقد صحبته الطويلة، وصفاته الجليلة فقال:

كَأَنَّ قَوائِمَ النَحامِ لَمّا *** تَحَمَّلَ صُحبَتي أُصُلاً مَحــارُ

عَـــلى قَــــرماءَ عاليَةٌ شَواهُ *** كَأَنَّ بَياضَ غُرَّتِهِ خِمَـــــارُ

وَما يُدريكَ ما فَقري إِلَيهِ *** إِذا مَا القَومُ وَلَّوا أَو أَغـــــاروا

وَيُحضِرُ فَوقَ جُهدِ الحُضرِ نَصّاً *** يَصيدُكَ قافِلاً وَالمُخُّ رارُ

فرس ابن الزيات

أخذ الخليفة العباسي “المعتصم” من الشاعر الوزير محمد بن عبد الملك الزيات  فرسًا أشهبًا أحمًا، كان عنده مكينًا، وبه ضنينا، فقال يبكيه:

قالوا جَزِعتَ فَقُلتُ إِنَّ مُصيبَةً *** جَلَّت رَزِيَّتُها وَضاقَ المَـــــذهَبُ

كَـــيفَ العَزاءُ وَقَد مَضى لِسَبيلِهِ *** عَنّا فَوَدَّعنا الأَحَمُّ الأَشهَــــــــــبُ

دَبَّ الــوُشاةُ فَباعَدوهُ وَرُبَّما *** بَعُدَ الفَتى وَهوَ الحَبيبُ الأَقـــرَبُ

لِلَّهِ يَومَ غَدَوتَ عَنّي ظاعِناً *** وَسُلِبتُ قُربكَ أَيَّ عِـــــلق أسلـــــــــّبُ

نَفسي مُقَسَّمَةٌ أَقامَ فَريقُها *** وَغَدا لِطِيَّتِهِ فَــــــــريق يُجـــنِب

الآنَ إِذ كَمَــــلَت أَداتُكَ كُلُّها *** وَدَعـــا العُيونَ إِلَيكَ لَونٌ مُعجِبُ

مُهر المتنبي

أغار الإخشيديون على “إنطاكية” عندما قصدها “أبو الطيب المتنبي”، فقتل مهره (الطخرور) أي السحاب، وأمه (الحجر)، فتوعد بالثأر لمقتلهما، وتخطي معني البكاء إلي الشجاعة والحكمة، فقال:

ستَبكي شَجوهَا فَرَسي ومُهري *** صَفائحُ دَمْعُها ماءُ الجُسُومِ

قُرِينَ النّارَ ثمّ نَشَأنَ فيهَا *** كمَا نَشأ العَذارَى في النّعيمِ

وفارَقْنَ الصّياقِلَ مُخْلَصاتٍ *** وأيْديهَا كَثيراتُ الكُلُــــــومِ

يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ *** وتِلكَ خَديعَةُ الطّبعِ اللّئيــــمِ

وكلّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغني *** ولا مِثلَ الشّجاعَةِ في الحَكيمِ

حمار “طياب”

كان لـ “طيّاب” السقّاء حمار قديم الصحبة، ضعيف الحملة، شديد الهُزال، كاسف البال، يسقي عليه، ويرفق به، وكان عُرضة لشعر أبي غُلالة المخزومي، هجاه بنيَّفٍ وعشرين مقطوعة، وصف فيها حاله، وشكواه من الظلم، الأمر الذي جعل حمار طيّاب يظفر بالاهتمام، ونضرب به الأمثال. وقد أورد “حمزة الأصفهاني” في كتابه -ضاحك الأشعار- شعر أبي غُلالة في حمار طيّاب، ورتبه على حروف الهجاء. وقال الثعالبي: وحكى محمد بن داود الجرّاح عن “جعفر” رفيق “طياب”، أن حمار “طياب” مات فمات “طياب” على أثره بعد أسبوع، ثم مات “غلالة” على أثر “طيّاب”، فكان ذلك من عجيب الاتفاقات. ومما قاله “أبو غلالة” في هذا الحمار:

يا سائلي عن حمار طيّاب *** ذاك حمارٌ حليفُ أوصابِ

كأنه والذُّباب يأخذه من *** وجهه: ذو جِنّة، متصابي

ومما أورد “حمزة الأصفهاني”، و”النويري” في “نهاية الأرب” قوله:

وحمارٍ بكتْ عليه الحميرُ  *** دقَّ حتى به الرياحُ تطيرُ

كان فيما مضى يقوم بضعفٍ *** فهُوَ اليوم واقفٌ لا يسير

كيف يمشي، وليس يُعلفُ شيئا *** وهو شيخٌ من الحمير كبير

يأكل التبن في الزمان، ولكن *** أبعدُ الأبعدين عنه الشعير

لمح القتَّ مرّةً من بعيدٍ *** فتغنَّى، وفي الفؤاد سعير

ليس لي منك يا ظلوم نصيبٌ *** أنا عبد الهوى، وأنت أمير

حمار “الجزار”

كان جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم الجزار المصري أحد الشعراء الصعاليك في العصر المملوكي. فنفق فبكاه بعد أن عز التنقل بدونه للسفر والتكسب بالشعر فقال:

ما كل حين تنجح الأسفار *** نفق الحمار وبارت الأشعار

خرجي على كتفي وها أنا دائر *** بين البيوت وكأنني عطار

لم أدر عيباً فبـــــــه إلا أنه *** مع ذا الذكاء بقال عنه حمار

ويلين في وقت المضيق ويلتوى*** فكأنما بيديك منه سوار

ولقد تحامته الكلاب وأحجمت *** عنه وفيه كل ما تختار

فرعت لصاحبه عهوداً قد مضت   لما علمن أنه جــــزار

كلب “أبي نواس”

لسعت حية كلب “الحسن بن هانئ” (أبو نواس) فنفق لوقته، وحزّ ذلك في نفس الشاعر فرثاه بأبيات يعدد فيها ميزاته:

يا بُؤسَ كلبي سيّدِ الكلاب***قد كان أغناني عن العُقابِ

وكان قد أجزى عن القصّابِ *** وعَن شِراءِ الجَلَبِ الجَلاّبِ

يا عَينُ جودي لي على حلاّبِ *** مَن للظّباءِ العُفْرِ والذّئابِ

وكلّ صَقرٍ طالِـــــــعٍ وَثّاب ***يختطفُ القُطّانَ في الروابي

“بيجو” كلب “العقاد”

امتلأت دواوين العقاد بكثير من المراثي التي عكست فجيعته برحيل رفاقه وأصدقائه. وعلي كثرة مراثيه تلك، فان قصيدته في رثاء كلبه الأثير “بيجو” تبدو كواسطة العقد، شاعرية وإنسانية وجمالاً تصويريًا: “خير رثاء كتبه العقاد فهي في قمة شعره الشجي، والإيقاع الذائب لهفه وحنيناَ”. ومع إن حياة “العقاد” مع الكلب “بيجو” لم تعمر طويلاَ، فقد جُلب إليه لحل مشكلة ابن صديق له مرض فأرادوا إبعاده عنه، فوجد “العقاد” فيه “أنموذجا للوفاء والود، والألفة والآمن”، ربما كان “العقاد” يفتقدها في وحدته!. وفي رثائه لكلبه الوفي فاضت أحزانه من الكلمة الأولي لقصيدته الطويلة:

حزنًا على بيجو تفيض الدموعْ *** حزنًا على بيجو تثور الضلوع

حزنًا عليه جهدَ ما أستطيع *** وإن حزنًا بعد ذاك الوَلــــــوع

هرّ “ابن العلاف”

كان الشاعر العباسي “أبو بكر الحسن بن علي العلاف‏ النهرواني”،‏ ضعيف البصر,‏ ورفيع المقام في عصره حتى أصبح قريباً من بعض الخلفاء (كالمعصم) الذين حرصوا على أن يكون نديما لهم،‏ يكتب الإشعار عنهم ويرويها لهم‏،‏ ويستمتعون بما لديه من علم غزير وذوق أدبي رفيع‏.‏ وقد اقترب الشاعر كثيرًا من “عبد الله بن المعتز” الخليفة العباسي وأحد أهم شعراء العصر العباسي.‏ ويقول “ابن العلاف” في رثاء هره الذي قتله جيرانه جراء انقضاضه وأكله أفراخ حمامهم، ولعله اتخذ رمزًا لرثاء صديقه “عبد الله بن المعتز”‏:‏

يا هر‏‏ فارقتنا ولم تعد *** وكنت منا بمنزل الولد

فكيف تنفك عن هواك وقد *** كنت لنا عدة من العدد

تطرد عنا الأذى وتحرسنا *** بالغيب من حية ومن جرد

يلقاك في البيت منهم مدد *** وأنت تلقاهم بلا مدد

ديك “الأصفهاني”

فُجِع “أبو الفرج الأصفهاني” في ديك له رشيق وعزيز، رثاه بأصدق العواطف، وأنبلها وبكاه بكاءً حقيقيًّا، يواسي نفسه، ولا يتركن شاردة وواردة من خصال الديك إلا وأتى عليها من عُرفه إلى ألوان ريشه، إلى خفقه لجناحه قبل الصياح إلى فحولته، الى صفاء عينيه صفاءَ العقيق، ومما يدمي الشاعر المفجوع هو تذكره ديكه كلما صاح ديك في بيت جاره ما يدل على رقي إنساني ورقة قلب مكلوم، فلنسمع لبيات من قصيدته المطولة:

لهفي عليك أبا النذير لو أنه *** دفع المنايا عنك لهف شفيـــــقِ

وعلى شمائلكَ اللواتي ما سمت *** حتى ذوت من بعد حسن سموقِ

وتكاملت جمل الجمال بأسرها *** متلألئا ذا رونق وبريــــــــقِ

من حمرة في صفرة في خضرة *** تخيلها يُغني عن التحقيـــقِ

عرضٌ يجل عن القياس وجوهرٌ *** لطفت معانيه عن التدقيـــقِ

خروف الشاعر “الأسمر”‏

أهدي إلى الشاعر محمد الأسمر خروف من خراف العيد، غير أنه لم يلبث أن نفق فقام صاحبه يرثيه:‏

ولم أزل مبتهجاً منتظراً‏ قدومه مطبلاً مزمرًا‏

حتى علمت أنه فُجاءَةً مات‏ ولاقى حتفه مشمِّرًا‏

وأنه استعجل ما كان له‏ – لو لم يمت – مهيًأ مقدرًا‏