يمثل الحديث النبوي النص الثاني بعد القرآن الكريم، في المنظومة المعرفية والتشريعية للإسلام، وقد ثارت بشأنه عدة اشكالات مختلفة على مستوى النقل أو اللفظ أو المعنى، فبذل العلماء عبر القرون جهودًا جمة في ضبطها وتقعيد القواعد العلمية والمنهجية للتعامل معها، ومنها (مراعاة مقاصد الشرع وكلياته) في عملية استنباط وفهم معنى الحديث.
وضمن هذا السياق يعرض هذا البحث المتواضع لمسألة (التحالف مع غير المسلمين)، من خلال استقراء الأحاديث الواردة فيها، ومنهج العلماء في الجمع بينها، ثم البحث عن كيفية إعمال النظر المقاصدي في شأنها في السياق الخاص بالأقليات المسلمة، وأعني به ما يتعلق بتحالف المسلمين سياسيا وتعاونهم مع غيرهم في بلدان المهجر .
إنها محاولة بسيطة لربط الدرس النظري في الحديث بقضايا العصر ومشكلاته، أروم من خلالها تحقيق الأهداف التالية:
- الإلماع إلى أصل مراعاة النظر المقاصدي في فهم الحديث النبوي.
- ابراز اختلاف الأحاديث في مسألة التحالف وكيفية جمع المتقدمين بينها.
- بيان أهمية الفقه المقاصدي وأثره في تخريج مناط حكم التحالف مع غير المسلمين.
أولاً: تعريف المقاصد وبيان أهميتها في فهم الحديث النبوي
إن مقاصد الشريعة العامة هي: ” المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا: أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها.
ويدخل في هذا أيضًا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها.
ويعرفها العلامة المغربي علال الفاسي رحمه الله بقوله: والمراد بمقاصد الشريعة الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها.
كما نجد العلامة أحمد الريسوني يعرفها بقوله: مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها، لمصلحة العباد “.
أثر اعتبار المقاصد في فهم الحديث
اختلف الناس في نظرهم للنصوص عموما – كما يقول الشاطبي – على ثلاث ملل: الأولى طائفة رأت حملها على الظاهر، وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص، والثانية الباطنية ومتعمقوا القياس، وهم يقابلون الظاهرية، فينظرون إلى أن مقصود الشارع الالتفات الى معاني الألفاظ، حيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق، فإن خالف النص المعنى النظري اطرح وقدم المعنى النظري.
وأما الثالثة فقالت باعتبار الأمرين جميعا، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين.
ووفقًا لمنهج جمهور العلماء الراسخين في اعتبار مقاصد التشريع وكلياته، نجد كثيرًا من المحدثين والفقهاء يردون الحديث لمعارضته مقصدًا شرعيًّا، أو مخالفته قاعدة كلية، ويحاولون البحث عن تأويل ومخرج يتماشى ويتلاءم مع روح الشريعة وكلياتها ومثال ذلك: ما رواه أبو هريرة قال: “أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى، دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب”.
إن حاجة الأمة كبيرة لإعمال النظر المصلحي في فقه النص الحديثي، وفهمه في ضوء مقاصد الشريعة، وخاصة ما تعلق بقضايا السياسة الشرعية وفقه الأقليات
فهذا الحديث يتعارض مع مقصد شرعي قطعي هو التيسير، ورفع الحرج لقوله عز وجل ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾[البقرة /185]، وقوله تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾[الحج /78]، وقد جاء هذا المقصد بخصوص رفع الحرج عن الأعمى خاصة، عند قوله تعالى: ﴿ليس على الأعمى حرج﴾[النور /61].
إن جمهور الفقهاء عدلوا عن الحديث موضع البحث، ونقل النووي حجتهم أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين، وتأولوا المسألة بكون ابن أم مكتوم إنما سأل عن الرخصة للصلاة في بيته بسبب العذر، وهل تحصل له فضيلة الجماعة، فقيل له: لا. قال رحمه الله: “وفي هذا الحديث دلالة لمن قال الجماعة فرض عين وأجاب الجمهور عنه بأنه سأل هل له رخصة أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة بسبب عذره فقيل لا ويؤيد هذا أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين”.
ونقل الشوكاني تأويلاً آخر فقال: وأجاب البعض عن حديث الأعمى بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – علم منه أنه يمشي بلا قائد لحذقه وذكائه كما هو مشاهد في بعض العميان يمشي بلا قائد، لا سيما إذا كان يعرف المكان قبل العمى أو بتكرر المشي إليه استغنى عن القائد.
ثم علل هذا التأويل معقبًا: ولا بد من التأويل لقوله تعالى ﴿ليس على الاعمى حرج﴾[النور /61]، وفي أمر الأعمى بحضور الجماعة مع عدم القائد ومع شكايته من كثرة السباع والهوام في طريقه غاية الحرج.
ومما رد به الحديث أيضًا أنه يعارض حديثا آخر، فقد روى مالك عن عتبان بن مالك أنه كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنها تكون الظلمة والمطر والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أين تحب أن أصلي؟ فأشار له إلى مكان من البيت، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًّا: التحالف السياسي للمسلمين مع غيرهم في السنة النبوية.
التحالف عملية متبادلة فهي استعانة بالغير في حين، وإعانة لهذا الغير في حين آخر، ولذلك فصيغة التفاعل أليق في التعبير عن فحواه، بأن نسميه التحالف لدلالة الصيغة على حصوله من الطرفين، فالعَقد حلف والتعاقد عليه تحالف.
لقد وردت في كتب السنة أحاديث تبدو متعارضة بخصوص جواز التحالف أو الإستعانة بغير المسلمين، من حيث أن بعضها يفيد جواز التحالف مع الذميين، في حين يأتي النهي في أخرى.
ما روي في صحيح مسلم عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك، وأصيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تؤمن بالله ورسوله؟” قال: لا، قال: «فارجع، فلن أستعين بمشرك، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال: “فارجع، فلن أستعين بمشرك”، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: “تؤمن بالله ورسوله؟” قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فانطلق”.
ما رواه الإمام أحمد عن خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي صلى لله عليه وسلم وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم يسلم فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا لا، فقال: إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين فأسلمنا وشهدنا معه .
ففي هذين الحديثين نفي صريح للاستعانة والتحالف مع عموم المشركين، لأن لفظ مشرك نكرة في سياق النفي، ولفظ المشركين في الحديث الثاني جمع معرف بأداة الاستغراق فيفيد العموم، كما لم يقبل منهم النبي صلى الله عليه الاستعانة في القتال مع شدة رغبتهم فيه حتى أسلموا.
وهناك أحاديث أخرى صريحة في نفي الحلف في الإسلام منها، ما رواه جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية.
لم يزده الإسلام إلا شدة، وفي سنن الدارمي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا حلف في الإسلام، والحلف في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة وجدة”.
وفي حديث آخر: “أوفوا بحلف الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام”.
ومن الأحاديث التي يستفاد منها جواز التحالف أو الاستعانة بغير المسلم ما روي عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال: “لا، بل عارية مضمونة. وله شاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومن السنة أيضا ما رواه ابن شهاب عن مالك أن صفوان بن أمية خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كافر وشهد حنينا والطائف، وهو كافر. وهو يدل على جواز الاستعانة بغير المسلمين.
كما ثبت في وقائع كثيرة استعانته صلى الله وسلم بالذميين، منها ما يروى عن الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه، ومنها استعانته يوم هجرته بمشرك، وهو عبد الله ابن أريقط، ودخوله في حماية المطعم ابن عدي.
إن مجمل الآثار والنصوص النبوية الواردة في قضية التحالف أو الاستعانة بالذمي يضعنا أمام اشكال تعارض بين فطن له العلماء قديما و تعرضوا له، منهم ابن الأثير، حيث يقول مبينا سبيل الجمع بين الأحاديث الواردة بشأن نفي الحلف مع غير المسلمين في الإسلام : أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: “لا حلف في الإسلام” وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام، كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه – صلى الله عليه وسلم-: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة.
يريد: من المعاقدة على الخير، والنصر للحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا الحلف هو الذي يقتضيه الاسلام، والممنوع منه مخالف للإسلام.
لكن كيف نظر العلماء المعاصرون لمسألة التحالف مع الآخر في مجتمعات غير المسلمة وبخاصة تحالف الأقليات الملسمة مع الأحزاب والتنظيمات الغربية في مجتمعات المهجر؟ وما أثر النظر المقاصدي في معالجة الإشكالية؟
ثالثًا: النظر المقاصدي في مسألة التحالف مع غير المسلمين في الغرب
- التحالف مع غير المسلمين في الغرب ودواعيه
يعيش المسلمون في المجتمعات غير المسلمة واقعا وأوضاعا خاصة، مما يستدعي مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار في الفتوى والاجتهاد، وقد أفضى اعتبار هذه الخصوصية إلى ظهور فقه خاص بهذه الفئة، عرِف بفقه الأقليات المسلمة، وهو فقه يقوم على اجتهاد شرعي قويم يراعي مكانها
وزمانها وظروفها الخاصة، ويرتكز على عدة منطلقات منها مراعاة القواعد الفقهية الكلية، والعناية بفقه الواقع المعيش، ومراعاة قاعدة تغير الفتوى بتغير موجباتها، ومراعاة سنة التدرج، والتيسير ورفع الحرج، وقاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة، والعرف وتحقيق المناط والنظر في المآلات.
وفي إطار هذا الفقه وعلى ضوئه تأسست أنظار وتأصيلات لقضايا واشكالات كثيرة في مجالات متعددة، ومنها المجال السياسي، الذي تندرج ضمنه مشكلة هذا البحث المتعلقة بتحالف المسلمين السياسي مع غيرهم سواء بانتخاب غير المسلم، أو بانضمام المسلمين إلى أحزاب غير مسلمة، وهي مسألة لها اعتبارات ودواع واقعية فرضتها نذكر منها:
1- قلة المسلمين العددية والتي تحد من نسبة فوزهم في الانتخابات – في حالة ما إذا كان لهم حزب خاص – أو اشتراط بعض القوانين الانتخابية عددا معينا أو نسبة مئوية من الأصوات حتى يسمح للحزب الخاص بأقلية أو بجماعة ما بالنشاط السياسي.
2- قد يكون المسلمون بمنطقة أو مقاطعة مع غيرهم من القلة بحيث من الصعب أو من المستحيل أن يفوز مرشحهم، وهذا يدفعهم إلى التحالف مع أحزاب أخرى قريبة إليهم من حيث الرؤية، أو لكونها تحترم توجههم ومستعدة للدفاع عن حقوقهم خاصة بهدف الوقوف ضد الأحزاب المتطرفة.
3- قد تكون الانتخابات التي سيشارك فيها المسلمون انتخابات رئاسية، ولا يتصور طبعاً في أغلب الدول غير المسلمة أن يتقدم للرئاسيات مرشح مسلم، وبذلك يلجأ المسلمون إلى التحالف مع الحزب الذي يمثل أحد المرشحين .
يعيش المسلمون في المجتمعات غير المسلمة واقعا وأوضاعا خاصة، مما يستدعي مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار في الفتوى والاجتهاد
إن هذه الدواعي والأسباب تستلزم تحالفًا للمسلمين مع غيرهم، حتى يتسنى لهم الدفاع عن مصالحهم العامة وحماية حقوقهم والذب عنها، وهذا الأمر يستدعي نظرا شرعيًّا مقاصديًّا مبنيا ومؤسسا على مبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد، ومبنيا على قواعد الموازنة والترجيح ومراعاة فقه الواقع.
- أثر اعتبار المقاصد في بناء حكم التحالف مع غير المسلمين .
إن إمعان النظر في قضية التحالف انطلاقا من الأحاديث الواردة بشأنها آنفا يتبين من خلاله أن مبناها على تحقيق المصلحة للمسلمين، فالمنع إنما جاء لمخالفة الحلف لمقاصد الشريعة، وكذلك الجواز تبعا لتحقق تلك المصالح والمقاصد، واستعانة النبي صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين إنما كان مدارها على تحقق المصلحة، وعليه فقد أقر الإسلام من أحلاف الجاهلية ما قام على نصرة الحق والمظلموم، وصلة الأرحام ، وهي مقاصد سامية، ومنع ما سواها مما مبناه على العدوان و الفتنة، لذلك فإن الحلف الممنوع هو ما كان مخالفا لمقاصد الشرع، وما وافقها فهو مشروع، لأن الشريعة مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها..
واستتباعًا لهذا النظر المقاصدي، فإنه لا يتحقق الحكم القويم على مسألة التحالف في الغرب دون استحضار فقه المقاصد، وهو فقه لا تنفك عنه أحكام السياسة الشرعية في الإسلام، وذلك لعدة اعتبارات منها اعتمادها الواسع على الرأي والتجربة والملائمة المرنة للظروف المتغيرة، وقيامها على جلب المصالح ودرء المفاسد، لذلك عرفها ابن عقيل بقوله: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد.
والصلة بين المصالح المترتبة والمتحققة للمسلمين في الغرب وتحالفهم مع غيرهم جلية منها أن المشاركة والتحالف السياسي تتيح للمسلمين حرية أكبر في الممارسة الدينية ونشر الدعوة الإسلامية، كما تتيح لهم أيضا السماح بإنشاء وفتح مؤسسات التدريس والتربية الخاصة بهم، احتراما لدينهم ومشاعرهم ومبادئهم، ومراعاة قانون الأحوال الشخصية الخاص بالأسرة المسلمة، إضافة للإسهام في خدمة قضايا الجاليات وفتح المجال لإسماع صوتهم. وغير ذلك من المصالح والفوائد المتعددة.
لكن هذا النظر المقاصدي للتحالف تضبطه قواعد الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد، ومن أهمها قاعدة “ارتكاب أخف الضررين وتفويت أدنى المصلحتين، ومفادها أن يوازن المسلم بين الأمور فيختار أهون الضررين وأخف الشرين ويفوت أدنى المصلحتين ليحصل أعلاهما… ويتفادى الضرر اليسير من أجل دفع ضرر خطير، أو الضرر الخاص من أجل دفع ضرر عام، أو الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وعلى هذا الأساس يدخل المسلم أو يحالف هذا التيار السياسي بناءً على هذه الموازنة.
و هذه القاعدة يمكن أيضا أن يجاب بها على الاعتراض القائل بعدم جواز ولاية غير المسلم على المسلم، وذلك بأن يقال ( هذه الولاية قائمة بتحالفات أو بدونها، فالحاكم العام – الرئيس مثلا – ليس مسلما سواء قبل الانتخاب أو بعده، إنما هذه التحالفات إذا أدت إلى ولاية غير السلم الأقل ضررا على المسلمين، والأكثر تسامحا معهم، واعترافا بحقوقهم ، فهي تحالفات جائزة، فالموضوع المطروح بالنسبة للمسلمين الأقلية أن يتولى شؤون تلك البلاد من هو الأقدر على مراعاة حقوق الإنسان، وهذا يدخل في باب المفاضلة بين ولاية اثنين من غير المسلمين أحدهما أكثر ضررا من الآخر أو أكثر نفعا، وذلك من خلال الاعتماد على فقه الموازنات.
إن القول بجواز التحالف مراعاة للمقاصد وتحقيقا لفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد في المسألة، يعضده أمر آخر متعلق بمراعاة معطيات الواقع السياسي وملابساته فالأحزاب تتفاوت في مناهجها وبرامجها وفلسفتها، فبعضها أقرب إلى القيم الإسلامية وإلى العقيدة الإسلامية والشريعة، وإلى الأحكام والفضائل الإسلامية) لذلك فإن المسلم يختار أقرب هذه الأحزاب ويتبعها، فإذا كان الحزب متعصبا ضد المسلمين أو الأجانب وكان شديد العنصرية، فعلى المسلم أن يختار الحزب المقابل، وهذا يقوم على فقه الموازنات.
يتبين في ضوء ما قدمنا أن لاعتبار مقاصد الشريعة أثرا في فهم المراد من الحديث النبوي وتنزيله تنزيلا يتوافق مع حفظ كليات الشرع ومراعاة قواعد الشريعة ومصالحها التي عليها مدار الأحكام.
إن حاجة الأمة كبيرة لإعمال النظر المصلحي في فقه النص الحديثي، وفهمه في ضوء مقاصد الشريعة، وخاصة ما تعلق بقضايا السياسة الشرعية وفقه الأقليات – التي تناولنا احدى تجلياتها- وذلك لما لمثل هذه القضايا المعاصرة من حاجة ملحة لاجتهاد متبصر بمعطيات الواقع ومستصحب لمقاصد الشارع وكلياته التي عليها عماد الأحكام وبها تتحقق مصالح الأنام في الحال والمآل.