الأمن والطمأنينة مطلب إنساني قديم قدم الإنسان نفسه، وهدف أساس تسعى إليه البشرية وتبحث عنه؛ تبحث عن الأمن في حياتها وحركتها وحريتها ووسائل عيشها.. تبحث عن الأمن بكل حدوده وأبعاده، في أنفسها وفيمن حولها مما يحيط بها ويتصل معها بسبب.
وتتدارك البشرية منذ لحظة نزولها على هذه الأرض عناية الله ؛ يبعث رسله وأنبياءه ليقرروا هذا المطلب الإنساني، ويحثوا عليه، ويأمروا به، وينهوا عن كل ما ينال منه، أو يؤدي إلى تقويضه.
إن قضية الأمن باعتبارها هدفًا أسمى للوجود الإنساني، كانت مادة أساسية حوتها ودعت إليها الرسالات الإلهية عبر مسيرتها مع الإنسان، بدءًا بسيدنا آدم وزوجه حواء عليهما السلام؛ حيث أتاهما الوعد الإلهي عندما أُهبِطا إلى الأرض، بانتزاع عوامل الخوف والقلق؛ وما يترتب عليه من حزن، بشرط اتباع الهدى، وتجنب الزيغ والضلالة فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(البقرة:38).
لكن وللأسف الشديد، رأينا البشرية في تاريخها الطويل، تخرج على رسالات الأنبياء والمرسلين، وتدخل في صراعات مقيتة وخلافات ذميمة؛ زجت بها في اقتتال وتناحر، وسفك للدماء وضياع للأمن، وتقويض لكل حسن جميل تحتاجه الحياة ويطمع فيه الناس.
وعلاج هذا يتطلب من ذوي العلم والفهم والكياسة والعقل؛ أن تتضافر جهودهم على رد الناس إلى المعنى الجميل الذي خلقوا من أجله وهو التعارف والتآلف والاجتماع والوحدة.
وها نحن أمام زاد فكري نفيس، جادت به قرائح العلماء ذوي الخبرة في مجال البناء الفكري، ومعالجة قضايا التطرف والخلاف، والتحليل العميق لدوافعه وآثاره.
وعند التأمل الفاحص في هذه المقالات مجتمعة، يتضح أنها تلتقي حول قضية وغاية.
أما القضية فهي “الأمن” بكافة أبعاده ومستوياته، وأما الغاية فتتمثل في كيفية تحقيق هذا الأمن في صورة خطوات متكافئة، تجمع بين التأصيل النظري والتطبيق العملي.
ويتسع مفهوم الأمن، طولاً وعرضًا وعمقًا، ليستغرق الزمان والمكان والإنسان. فمن حيث الزمان يتجه الإنسان لتأمين حاضره، ومستقبله القريب والبعيد، ليس فقط على مستوى الحياة المحدودة التي يعيشها، وإنما على مستوى الحياة الدنيا والآخرة؛ ليضمن السعادة والسلامة في كليهما معًا، وذلك بامتثاله لعوامل الأمن والنجاة، واصطحابه للزاد الذي يقدمه قربة في سبيل نوال هذا الأمن.
ومن حيث المكان، فإن الإنسان يتوجه إلى السعي الحثيث لبث الأمن في أرجاء الأرض، بأوطانها المتنوعة التي تعارف البشر عليها، إذ هو نعمة عظمى يستروح الناس في ظلها شتى أنواع النعم الأخرى. وأما المستوى الإنساني للشعور بالأمن؛ فإنه لا يقتصر على تأمين الإنسان مطالب جسده فقط، وإنما يمتد ليشمل الحاجات الروحية والنفسية، فيتخذ من الأمن البدني سبيلاً لتحقيق الأمن الروحي، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(قريش:3-4).
وهنا يتساءل إنسان العصر -وحُقَّ له أن يفعل- كيف يأمن الناس على أنفسهم وعقولهم وأديانهم وأعراضهم وأموالهم، في ظل احتدام الرؤى وشيوع الأفكار الشاذة التي تقلق قطاعًا عريضًا من الناس؟! من أين يستمد الوجود الإنساني أمنه وبقاءه، وضبط أوجه النشاط والسعي، في ظل تباين التوجهات المعاصرة؟
وتكمن الإجابة ابتداء، في ضرورة البناء الفكري المنضبط بمقاصد الشرع، كمرحلة أولية، يستتبعها السعي لتحصين هذه الأفكار الرشيدة، وحمايتها من الأفكار المزيفة المدخولة، التي تحاول من حين لآخر، تشويه حقائق الفكر وتعكير صفائه ورونقه.
إن الفكر هو الوقود المحرك للحياة، وغذاؤها الذي يجدد الحركة والنشاط والسعي في أرجاء الأرض؛ فما من عمل إلا ويسبقه فكرة تمده بالنماء والاستمرار. والثروة الحقيقية التي تمتلكها المجتمعات، إنما هي ثروة فكرية في المقام الأول، تغذي مجالات البناء بخطط راشدة، تتحول إلى إعمار وتشييد.. فإذا أصيبت المجتمعات في فكرها فلا خير يُرجى من ورائها؛ لذا وجب على العلماء أن يؤدوا مسؤوليتهم تجاه المجتمع الإنساني بأكمله، حماية وصيانة للمجتمعات من خطر يتهددها، وغوائل تفترس ناشئتها على المدى القريب أو البعيد، خاصة في ظل التحول الذي تشهده المجتمعات على كافة الأصعدة، وكثرة العوارض والتحديات التي تنتاب مقصد “الأمن”.
ومن هنا يأتي هذا السفر الثمين، من خلال مقالاته الثماني عشر، تلبية لهذه الضرورة المعاصرة، وتأكيدًا على هذه القضية المفصلية في بناء المجتمعات والأوطان، إنها قضية “الأمن” في شتى أبعاده وصوره التي تستغرق الحياة كلها وتعلو فوق الزمان والمكان، كما أنها تتجه إلى تحقيق هذا الأمن من خلال مسارين؛ أولهما المسار البنائي للفكر الصحيح المتوازن، وثاني هذه المسارات اتجاه الحماية والتحصين الذي يحوط البناء بسياج منيع واق من التصدع والانهيار.
تستهل المقالاتُ الحديثَ عن حب الأوطان باعتباره فطرة مركوزة في النفس البشرية، وباعثًا لنشر الطمأنينة والأمن؛ فأساس كل بناء إنما ينبع من قلب تشَبَّع بالحب للخير والعطاء، بما يدفع الفرد للحفاظ على البقعة التي ينتمي إليها، ويبلغ المجتمع الذروة العليا في الانتماء عندما يصطف أبناؤه في إثبات هذا الانتماء الحقيقي في صورة التعايش الكامل والتماسك المجتمعي، مستلهمين النماذج النظرية والعملية لهذا التعايش من التاريخ القريب والبعيد، والاعتبار بالتجارب والأحداث التي خاضتها المجتمعات.. كما يأتي الحديث عن دور المسؤولية بأبعادها الشاملة، لتثبت أنه لا يخلو أي إنسان من مسؤولية يؤديها -كل حسب موقعه ومكانته في المجتمع- حتى ولو كانت في صورة حفاظ المرء على جوارحه وحمايته لنفسه وفكره، إذ المسؤولية الفكرية مناط الأمن.
ولمكانة القيم في حياة الأمم، وضرورتها لأمن الإنسان، تُعرِّج المقالات على القيم الإنسانية وكونها أمانًا للبشرية، كما تبحث عن مصادرها واستمدادها، وضرورة أن ترتبط بأصول سماوية، ليبقى لها قدسيتها في التطبيق ومحاولة الالتزام بها.
ونظرًا لمكانة الفهم الصحيح لرسالة الإسلام، وحقيقة الوسطية التي تنتظم عقيدته وشعائره ومبادئه، يأتي مقال عن “الوسطية” ليلقي الضوء على أثر الوسطية في تبديد كثير من الأفهام الخاطئة التي شوهت الحقائق، حيث لم يكتف بتأصيلها مفهومًا وتقديم نماذج لها، بل امتد لتصور بنائي ينسج المجتمع منه خطوات عملية لبث الوسطية في قطاعات متعددة من المجتمع، إنها موقع ينطلق منه المسلم، لإعادة بناء ما تهدَّم، وترميم الذات وتجديدها، لتبقى صُلبة لا يؤثر فيها هزات أو محاولات شاذة خارجة عن حقائق الإسلام.
وامتدادًا لترسيخ هذه الوسطية، ينتقل المقال التالي لقضية “التوازن الفكري” فإذا كان البعض ممن انحرفوا عن الجادة في فهمهم وتطبيقهم للإسلام قد توهم أن مصادر تلقي المعرفة تنحصر في الدين فقط، فإن الحاجة قاضية ببيان مصدرية استمداد الأفكار والتصورات، وإلقاء الضوء على القيمة المعرفية للمصادر التي يتلقى المرء المعرفة عن طريقها، مثل التجربة والعقل والفطرة، لما لذلك من وقع وأثر في ضبط الفكر وحمايته، وتحقيق للتوازن الفكري في المجتمع.
وفي إطار المسار التحصيني للفكر، تحتشد مجموعة من المقالات؛ لتبدأ بالبحث عن الجذور التاريخية للتطرف الفكري ومظاهره، كي يحذر المجتمع من تشابه الظروف، وسرعة البدء في العلاج، متى بدت بوادر هذا التطرف في صورة فردية أو جماعية.
وإدراكًا لقيمة الانطلاق في الحياة على هدى وبصيرة وأثر ذلك في مجابهة الغلو والتطرف، يلمح أحد المقالات إلى ضرورة اتخاذ طريق الرشد منطلقًا أوليًّا في الحياة، إذ به تتحدد كثير من الأعمال السديدة، وفي المقابل فإن التخبط يُنتج أعمالاً فاسدة، لا تعي رسالتها وحقيقة ما تقوم به من ممارسات، وما بين رصد مظاهر التطرف ووضع العلاج.. تأتي تلك التجربة الفريدة لمدارس “الخدمة” من خلال خطوات علاجية استباقية، يحفظ بها المجتمع أبناءه من خطر الانحراف والزيغ.
وفي سبيل تتبُّع الجذور البعيدة للعنف، والمؤثرات المتشابكة الحافزة لهذا النوع المضاد للفطرة السوية، يأتي الحديث عن الخلط والتداخل المفاهيمي لبعض المصطلحات، والتنميط الفكري للمفاهيم الجاهزة، وربطها في سياقات مغايرة للحقيقة بالمصطلحات الإسلامية، مثل الجهاد، والدعوة. كما تناولت المقالات الدور المحوري للإعلام في نشر المفاهيم، وعلاج مظاهر الانحراف الفكري، وذلك لما للإعلام من آليات ووسائلَ مؤثرة في المجتمعات المعاصرة، وما يستتبع ذلك من آثار في نشر الأمن المجتمعي.
وسعيًا لتحقيق عوامل القوة، خاصة في ظل الواقع الذي لا يعترف بالمهمشين أو الضعفاء، يرصد أحد المقالات دور العبادات وأركان الإسلام في تغذية وتنمية القوة لدى أفراد المجتمع، ليقدِّموا من أنفسهم نموذجًا قويًّا جاذبًا لمن حولهم من الأمم، للتعاون معهم على البر والعدل.
إن شيوع المفاهيم الخاطئة ليس حكرًا على أمة بعينها، بل قد يظهر عند أكثر الأمم رقيًّا وتمدنًا، بما يستلفت الانتباه إلى رصد العوامل المؤثرة في شيوع فكرة ما، ودراسة الأسباب البعيدة لهذه الظواهر والمفاهيم. وتطبيقًا لهذا البُعد التحليلي تعرج المقالات لتناول ظاهرة “الخوف من الإسلام” في المجتمعات الغربية، فتشير إلى الأسباب وتجلياتها وعلاجها في أسلوب متكامل متداخل.
وبأسلوب ذكي، يأتي المقال الذي يتحدث عن “الوصايا العشر لتفريق المسلمين”، وفي الحقيقة إنها ليست وصايا -إذ المسلم مأمور بالتواصي بالحق والخير- ولكنها تسجيل لواقع بعض المنتسبين للإسلام في إشاعة الفرقة وزعزعة أمن المجتمعات، في صورة تنبه على خطورة هذه الأفعال وضرورة اجتنابها.. ثم يأتي المقال الأخير في صورة بديعة، وكأنه ينبئ عن الهدف مما سبقه من مقالات، فلو سألتَ أيها القارئ، عن الهدف الذي احتشدت هذه المقالات من أجله، لجاءك الجواب “لكيلا يكون شبابنا فريسة للتنظيمات الإرهابية”.
وبهذا أيها القارئ، تلمح الخيط الجامع الذي يشد هذه الكتابات، لينسج منها قضية محورية تتصل بأمن المجتمع وبناء الأفكار وحمايتها، إنها بحق فكرة رائدة متميزة، تثبت الحاجة إلى التنقيب في العطاء الفكري للعلماء والبحث عن كنوزه، وإعادة إصدارها مرات ومرات، تثبيتًا لدعائم الخير، وحفاظًا على العقول والأفكار، لضمان صفاء الفكر ونقائه.
فإلى هذه الجرعات الفكرية التحصينية، في واقع تتناوشه آفات فكرية متجددة، عسى أن ينتفع بها المسلمون، وكل عاشق للحقيقة، متطلع للتعاون على البر والتقوى.
وبهذا يبرز الدور الريادي والتثقيفي والتوعوي الذي تضطلع به مجلة حراء، حيث قوة موضوعاتها ووضوح طرحها وواقعية معالجتها وتقديمها الحلول الناجعة لمشكلات الواقع.
إننا حقًّا بحاجة ماسة إلى الصراحة والوضوح في تناول قضايا الأمة، الذي يستتبع التشخيص السليم لما نعانيه من مشكلات فكرية تموج في جنبات عالمنا الإسلامي، والذي ينتج عنه قطعًا علاج شاف وحل كاف لهذه المشكلات.
(*) عميد كلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر / مصر.
الهامش
(1) مقدمة كتاب “نحو عالم بلا خوف”، إعداد: نور الدين صواش، دار الانبعاث للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة 2019.