خوارزميات مستوحاة من الكائنات

لا شك أن الطبيعة هي المورد الخصب الذي يلهم الباحثين في كثير من مجالات العلم. ولقد تزايد مؤخرًا، عدد الباحثين المهتمين باستنباط خوارزميات إرشادية (تجريبية) متقدمة، مستندة على سلوك الكائنات الحية، فهذه الخوارزميات تنتج أفكارًا جديدة، وتقنيات فعالة لحل المشاكل الصعبة والمعقدة التي لا تحل بواسطة الخوارزميات والأساليب القائمة، كما أنها توفر الوقت لتحقيق الأمثلية أو التحسين (Optimization) في الحل.

خوارزميات التحسين

لقد أصبحت خوارزميات التحسين المستوحاة من الطبيعة، ذات انتشار متزايد في السنوات الأخيرة، وذات أهمية بالغة في العديد من التطبيقات، مثل الهندسة والأنشطة التجارية والتصاميم الهندسية (النماذج الصناعية).. وأهداف التحسين واسعة النطاق، مثل الحد من استهلاك الطاقة والتكاليف، أو تحقيق أقصى قدر من الأرباح والمخرجات والأداء والكفاءة. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن هناك حاجة إلى التحسين في كل مكان، بدءًا من التصميم الهندسي إلى تخطيط الأعمال، ومن توجيه الإنترنت إلى تخطيط العطلات؛ لأن الموارد والوقت والمال دائمًا أمور محدودة في تطبيقات العالم الواقعي. لذلك علينا أن نجد حلولاً مثالية لاستخدام هذه الموارد القيمة في ظل مختلف المعوقات. والتحسين الحاسوبي هو دراسة مشاكل التصميم والتخطيط باستخدام أدوات رياضية حاسوبية. وبما أن معظم تطبيقات العالم الواقعي -غالبًا- غير خطية بشكل كبير، فإنها تتطلب أدوات تحسين متطورة لمعالجة المشاكل.
وخوارزميات التحسين هي إجراء تكراري، بدءًا بالتخمين وبعد عدد محدد كبير بما فيه الكفاية، من التكرارات قد تقترب من حل مقبول، أو الحصول على حل مثالي للمشكلة. ومعظم خوارزميات التحسين قائمة على ذكاء السرب (Swarm Intelligence)، مثل خوارزميات النمل والنحل، وتحسين سرب الجزئيات والخفاش، وبحث الوقواق (الكوكو) واليراعات.. وذكاء السرب هو السلوك الجماعي الذي يتجلى لدى مجموعة من الكائنات الحية.
وتقسم الخوارزميات المستوحاة من الطبيعة إلى نوعين: النوع الأول هو الخوارزميات الجينية، وهي خوارزميات بحث استنتاجية (Heuristic) متأقلمة، مبنية على الأفكار التطورية (Evolutionary Ideas) للاصطفاء الطبيعي والجيني. والمفهوم الأساسي للخوارزميات الجينية، مصمم لمحاكاة العمليات في النظام الطبيعي والضرورية للتطور، وبشكل خاص تلك التي تتبع المبادئ التي صاغها في البداية “كارلس دارون” في نظرية البقاء للأصلح. هذه الخوارزميات تمثل استغلالاً ذكيًّا للبحث العشوائي ضمن فضاء بحث محدد لحل مشكلة ما.
أما النوع الثاني فهو خوارزميات الأسراب المستلهمة من سلوك الكائنات الحية، وتعتمد الفكرة الرئيسية على الاستعاضة عن الكائن الحي بأداة البحث والبيئة المحيطة بفضاء البحث -أو ما يسمى بفضاء الحلول- وأخيرًا تحقيق هدف الكائن الحي بحلول المشكلة.
ونظرًا لاعتماد هذه الخوارزميات على ذكاء السرب، فإن طرق الإلهام ستكون متنوعة، ومن ثم سيكون هناك أنواع مختلفة من الخوارزميات، وسوف نقتصر في هذا المقال على ثلاثة أنواع منها، وهي بحث الوقواق، وخوارزمية اليراعات، وخوارزمية الخفاش.

خوارزمية الوقواق

في بحوث العمليات، بحث الوقواق (Cuckoo Search)؛ وهي خوارزمية تحسين إرشادية متقدمة، مطورة من قبل العالم Xin-She Yang والعالم Suash Deb عام 2009م، حيث تستخدم في حل مشاكل التحسين مستلهمة من التطفل الحضني، المجبر عليه بعض أنواع الوقواق عن طريق وضع بيضها في أعشاش الطيور المضيفة الأخرى. والوقواق طائر جاذب، ليس فقط بسبب صوته الجميل الذي يصدره، ولكن أيضًا بسبب إستراتيجيته التكاثرية العدوانية؛ فبعض الطيور المضيفة قد تخوض صراعًا مباشرًا مع طائر الوقواق المتطفل، وإذا اكتشف الطائر المضيف أن البيضة ليست له، إما يرمي بها بعيدًا، أو يتخلى عن العش ويبني عشًّا جديدًا في مكان آخر. وبعض أنواع الوقواق طورت طريقة تجعلها متخصصة في تقليد لون ونمط عدد قليل من الأنواع المضيفة المختارة، وهذا يقلل من احتمال أن يكون بيضها منبوذًا، وبالتالي تزيد احتمالية تكاثرها فضلاً عن بعض الأنواع. ويكون توقيت وضع البيض مدهشًا، فالوقواق المتطفل غالبًا يضع بيضه عندما يبتعد الطائر المضيف عن العش، وعمومًا بيض الوقواق يفقس قبل بيض الطير المضيف، وحالما يخرج الفرخ غريزيًّا، أول عمل يقوم به طرد بيض الطير المضيف، عن طريق دفعها عشوائيًّا من العش، مما يزيد من حصة فرخ الوقواق من المواد الغذائية. وأظهرت الدراسات أيضًا أن فرخ الوقواق يمكن أن يحاكي نداء فرخ المضيف للوصول إلى المزيد من فرصة التغذية.
وبحث الوقواق، تستند على ثلاثة احتمالات، الأول أن كل وقواق يضع بيضة واحدة في المرة الواحدة، ويلقي البيضة في عش تم اختياره عشوائيًّا.والثاني يتم نقل أفضل الأعشاش المحتوية على البيض ذي الجودة العالية (الحلول) إلى الأجيال القادمة. وأما الثالث فإن عدد أعشاش المضيف المتاحة ثابتة، والبيض الموضوع بواسطة الوقواق يكون مكتشفًا بواسطة الطائر المضيف باحتمالية قليلة للغاية. ومن جهة نظر التطبيق يمكننا استخدام التمثيل البسيط التالي: إن كل بيضة في العش تمثل الحل، وبيض الوقواق يمثل حلاًّ جديدًا، والهدف من ذلك هو استخدام حلول جديدة وربما أفضل (الوقواق)، ليحل محل الحلول غير الجيدة في الأعشاش.
لقد تم تطبيق بحث الوقواق في العديد من مجالات التحسين، والذكاء الحاسوبي، بكفاءة واعدة؛ على سبيل المثال في تطبيقات التصميم الهندسي.. كما أظهرت كفاءة في حل المشاكل اللاخطِّية مثل التوليد الشبكي (Mesh Generation) الذي يستخدم من قبل المهندسين الحاسوبين، للحصول على تنبؤات في الهندسة المعقدة، وفي مجال اندماج البيانات، وشبكات الاستشعار اللاسلكية، وغيرها من التطبيقات المهمة.

خوارزمية الخفاش

ومن الخوارزميات المستوحاة من الكائنات الحية، خوارزمية الخفاش (Bat Algorithm) المطورة بواسطة Xin-sheYang عام 2010م، وتستلهم من سلوك الخفافيش في تحديد الموقع بالصدى (Echolocation) بمعدلات تتفاوت في انبعاث الذبذبات وجهارة الصوت. والخفافيش حيوانات رائعة تعدّ الثدييات الوحيدة المزودة بالأجنحة، ولديها قدرة متقدمة لتحديد الموقع بالموجات الصوتية، ويقدّر عدد أنواعها بنحو 1000 نوع مختلف، والتي تمثل ما يصل إلى 20% من جميع أنواع الثدييات، وحجمها يتراوح بين الخفافيش الصغيرة الطنانة (من حوالي 1.5 إلى 2 جرام) إلى الخفافيش العملاقة (حوالي 2 متر)، كما يصل وزنها إلى 1 كغ. والخفافيش الصغيرة مشهورة باستخدام خاصية تحديد الموقع بالصدى على نطاق واسع، في حين أن الخفافيش الكبيرة لا تستعملها.
والخفافيش الصغيرة، من آكلات الحشرات، وتستخدم أصداء السونار للكشف عن الفريسة وتجنب العوائق، وتحديد أماكنهم في الظلام؛ فهي تطلق ذبذبات صوتية عالية جدًّا تتحول إلى تردد ينعكس وتسمع الصدى مرة أخرى من الأهداف المحيطة بها. والخفافيش تبحر باستخدام التعويق الزمني (Time Delay) من انبعاث الموجات إلى انعكاسها وتتحول إلى معلومات مفيدة لتفسير كم يبعد الهدف.
ومن أجل التوضيح، يمكن تميثل الخورازمية بالتالي: أولاً: كل الخفافيش تستخدم الصدى لتحديد الموقع لمعرفة المسافة، فتعرف الفرق بين الفريسة والحاجز. ثانيًا: عمليًّا، كل الخفافيش تطير عشوائيًّا بسرعة في الموقع (فضاء الحلول)، وتضبط الطول الموجي تلقائيًّا للموجات الصادرة، وتضبط معدل الانبعاث باحتمالية (0,1) اعتمادًا على قربهم من الهدف، والبحث يكون مكثفًا بواسطة البحث العشوائي المكاني، ويستمر حتى يحقق أفضل اختيار وفق معايير محددة. وتقنية ضبط التردد تستخدم في خوارزمية الخفاش لزيادة تنوع الحلول، وللتحكم في السلوك الديناميكي لسرب الخفافيش.
ولهذه الخوارزمية العديد من التطبيقات، منها التحسين المستمر في التصميم الهندسي، ومعالجة الصور، ومعالجة المشاكل اللاخطية بكفاءة عالية وإيجاد الحلول لها، وتصنيف وتجميع البيانات، كما أنها تستخدم في المنطق الضبابي، ولها تطبيقات في أنظمة الجمالون، وتصميم أوعية الضغط، والمباني الضخمة.
ومن خلال صياغة خوارزمية الخفاش، وتنفيذها ومقارنتها مع الخوارزميات الموجودة، يرى الباحثون أنها خوارزمية واعدة جدًّا. فمن المحتمل أن تكون أقوى من خوارزميات تحسين سرب الجزئيات والخوارزميات الوراثية، والسبب يعود إلى دمج هذه الخوارزمية للمزايا الرئيسية للخوارزميات الأخرى بطريقة أو بأخرى.

خوارزمية اليراعات

في التحسين الرياضي، خوارزمية اليراعات، إرشادية متطورة مقترحة من قبل Xin-she yang عام 2008م، وهي من أفضل الخوارزميات المستوحاة من الطبيعة، والتي تحاكي سلوك وميض اليراعات الطبيعية. ولهذا الوميض مشهد مدهش في سماء المناطق الاستوائية والمناطق المعتدلة. وهناك حوالي 2000 نوع من اليراعات، معظمها تنتج ومضات إيقاعية، ونمط هذه التوهجات غالبًا ما يكون فريدًا بالنسبة لنوع محدد. ويتم إنتاج ضوء الوميض بواسطة الإضاءة الحيوية. وهناك وظيفتان أساسيتان لمثل هذه الومضات، هي جذب شركاء التزاوج، واجتذاب الفرائس المحتملة، بالإضافة إلى ذلك قد تتوهج أيضًا آلية تحذير وقائية لتذكير الحيوانات المفترسة المحتملة من الطعم المر من اليراعات.
الوميض الإيقاعي، ومعدل التوهج، ومقدار الوقت بين الومضات، تشكل جزءًا من نظام الإشارات الذي يجمع بين الجنسين معًا، فتستجيب الإناث لنمط وميض الذكور الفريد من نفس النوع، بينما بعض أنواع الإناث تسترق إشارات الضوء الحيوي للمغازلة، حتى تحاكي النمط الوميضي للأنواع الأخرى، وذلك لإغراء وأكل ذكور اليراعات التي قد تخطئ ومضات الشريك المناسب المحتمل.
ونحن نعلم أن شدة الضوء على مسافة معينة من مصدر الضوء، تخضع لقانون التربيع العكسي، وهذا يعني أن شدة الضوء تنخفض مع زيادة المسافة، فضلاً عن امتصاص الهواء للضوء الذي يصبح أضعف مع زيادة المسافة. هذان العاملان المجتمعين، يجعلان معظم اليراعات مرئية إلى مسافة محددة؛ عادة تكون عدة مئات من الأمتار التي تكون كافية بشكل جيد لتواصل اليراعات. ويمكن صياغة ضوء الوميضة في مثل هذه الطريقة التي تربطه مع وظيفة الهدف ليكون محسّنًا، مما يجعل من الممكن صياغة خوارزمية تحسين جديدة.
وللتبسيط في وصف خوارزمية اليراع القياسية، تُستخدم ثلاث افتراضات هي:
• كل اليراعات أحادية الجنس؛ لذلك سوف ينجذب اليراع الفردي إلى اليراعات الأخرى بغض النظر عن جنسهم.
• الجاذبية تتناسب مع سطوع اليراع، وهكذا فإن وميض فردين من اليراعات، الأقل سطوعًا سوف يتحرك نحو الأكثر سطوعًا، لكن الجاذبية والسطوع يقلان مع زيادة المسافة.
• إذا لم يكن هناك يراعات أكثر توهجًا من اليراعات الأخرى، فإنها سوف تتحرك عشوائيًّا، وينبغي أن يكون الوميض مرتبطًا مع وظيفة الهدف.
لقد اجتذبت هذه الخوارزمية اهتمام الكثير من الباحثين والعلماء، في مجال الذكاء الاصطناعي، وتم تطبيقها على العديد من التطبيقات، فقد استخدمت في ضغط الصور الرقمية وتسجيلها، كما أنها قدمت حلولاً بكفاءة عالية لمشاكل التصميم الهندسي، وحققت حلولاً لمشاكل اقتصادية أفضل من الطرق الأخرى

(*) كاتب متخصص في علوم البحار والبيئة / اليمن.
المراجع
(1) الكافي من الذكاء الاصطناعي، بحبوح، حسين طياوي والحسن، هيثم صديق (2007)، مكتبة الرشد ناشرون.
(2) مجلة التقدم العلمي، العدد:91، أكتوبر 2015.
(3) مجلة العلوم، مايو 2001، المجلد:17.
(4) بعض المواقع الإلكترونية.