جرت عادة المشتغلين بالعلوم الشرعية وأصول الفقه -خصوصًا- بالحديث عن دور هذه العلوم في إذكاء روح الخلاف وتقبل الآراء المتباينة، كما أُولِعوا بدراسة الخلاف في جوانبه المنهجية من ضوابط وشروط إعماله والتعامل معه، إلى غير ذلك من قضايا الخلاف المعروفة، لكن قل من ينتبه إلى دور علم أصول الفقه في التقريب بين وجهات النظر وبناء الكليات والأصول الكبرى التي ينضوي فيها ما لا يعد ولا يحصى من الجزئيات والفروع.
ومن هذا المنطِق ترمي هذه المقالة إلى بيان أن علم أصول الفقه يشكل دعامة أساسًا لتكثير محال الوفاق، بدل تشجير الخلاف وتوليده كما هو حاصلٌ اليوم للأسف. ولا أزعم أن الخلاف مذموم، لكن لا إخال أحدًا يخالف في أن تكثير محال الوفاق مستحسن كذلك.
وعليه، قبل التمثيل بقضايا ومعالم يظهر فيها قصد التجميع وتكثير محال الوفاق العلمي في الدرس الأصولي، وجب بيان أن الخلاف الفروعي لا يدخل في مضمون قصدنا في هذه المقالة، لأنه خلاف سائغ ضروري متولد عن الخلاف القواعدي والأصولي، وإنما نقصد ههنا بيانَ كون أصول الفقه قادرًا على إرساء منظومة دليليه متكاملة يتفق على مجمل أصولها الباحثون، وإن وقع بينهم تفاوت واختلاف في إعمالها ومخرجاتها، وفيما يلي معالم تبين المقصود:
- المصدرية الأساس للكتاب والسنة:
يعد الرجوع والتحاكم إلى الكتاب والسنة، مصدري التشريع والتفكير والتربية والدعوة والتعليم، أمرًا محل إجماع بين المسلمين باختلاف تخصصاتهم ومجالات اشتغالهم، ولا يخالف في ذلك إلا من خرج عن دائرة الانتماء الحضاري للأمة وهويتها الأصيلة، ولهذا الاتفاق قوة وسلطة علمية وحاكمية على جميع التوجهات والأفكار والانتماءات الفكرية والفقهية والكلامية بدون استثناء.
فالقرآن الكريم هو النص المؤسس والمشرع الأصلي، والسنة تابعة له مبينة لمعانيه وأحكامه على جهة البيان والتوقيع، فقد اعتبر أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) القرآن أصل الأصول وعليه مدار الأحكام، يقول رحمه الله: “الأصل الأول من أصول الأدلة: كتاب الله تعالى، واعلم أنا إذا حققنا النظر بَانَ أن أصل الأحكام واحدٌ، وهو قولُ الله تعالى، إذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده”، وهذا لا يعني قطعا استبعاد بقية الأدلة والأصول، وإنما المقصود بيان أصلها ومنبعها الذي منه تستمد مشروعيتها وحاكميتها.
وقد أحكم الإمام الشاطبي (ت 790هـ) البيان في اعتبار القرآن الكريم “كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك؛ لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي؛ نظرا وعملا، لا اقتصارا على أحدهما؛ فيوشك أن يفوز بالبُغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين في الرعيل الأول، فإن كان قادرا على ذلك، ولا يقدر عليه إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب، وإلا؛ فكلام الأئمة السابقين، والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف، والمرتبة المنيفة”.
فالمتأمل في كلام الشاطبي يجده يعلل كون القرآن أصل الأصول ومنبعها باشتماله على كليات الشريعة في العقيدة والعمل والأخلاق والسلوك والعبر والمواعظ، إلى جنب اشتماله على مقاصد هذه الشريعة في المجالات المذكورة وغيرها، وقد جعل رحمه الله لإدراك هذه الكليات والمقاصد سبيلين مجملين ومهمين وهما: النظر بما يعنيه من معاني البحث والتنقيب والاستدلال وغيرها، والعمل بما يفيده من معاني التنزيل والتخلق والتحقق بمعاني الشريعة.
أما السنة النبوية بما هي منهاج بياني وعملي للقرآن الكريم فلها في نفوس الأمة المصدرية الثانية ترتيبا في الفضل لا في العمل، وعليه فالسنة صنو القرآن الكريم تتماشى مع أحكامه بيانا لمجلها وتقييدا لمطلقها وتخصيصا لعامها، يقول الإمام الشاطبي: “إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب؛ فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، ودل على ذلك قوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]”.
وهذا لا يمنع استقلال السنة بتشريع الأحكام مما لم يرد تفصيله في القرآن الكريم خاصة، فـ “الحق عند أهل الحق أن السنة مستقلة في التشريع”، لكن في إطار وظيفتها العامة، بمعنى أن الأصول الكلية لما شرعته السنة موجود في القرآن الكريم، وخير دليل على ذلك زكاة الفطر التي شرعتها السنة بصيغة تفصيلية، فأصلها الكلي والمجمل في القرآن الكريم بلا شك، وهو مقتضى كلام الشاطبي السابق.
وعليه، فالمصدران المباشران للمعرفة الإسلامية هما الكتاب والسنة، وإليهما المرجع حال الوفاق والخلاف، ولهذا جعل الأصوليون ما تفرع في كتبهم من الأصول والقواعد راجعا صحة وفسادا إليهما، وبهذا يمكن القول: إن توحيد المصدرية الدينية والمعرفية لدى المشتغلين بعلوم الشريعة لا يكون إلا بالكتاب والسنة، ولا يضر بعد ذلك اختلافهم في اعتبار ما تفرع عنهما من طرائق الفهم والاستنباط إذا كان الخلاف فيهما لا يقضي على أصليهما.
وتجدر الإشارة إلى أن الإمام الشاطبي قد استقل -تقريبا- بنظرية منهجية في بحثه الأصولي، وأعملها في غالب مسائل العلم، وخاصة في باب الأدلة بصورة محكمة ومطردة، وبموجب هذه النظرية اعتبر الكتاب والسنة دليلين أصليين وما عداهما من الأدلة الإجمالية أدلة تبعية، لكن بتنصيص وتصريح واع وممنهج.
والذي يلزمنا التقيد به منهجيا هو التأكيد على أن الأصوليين أسهموا في رد الاعتبار للأصلين توحيدا لمرجعية المسلمين في استمداد المعارف الشرعية، وخاصة ما يتعلق بالأحكام الفقهية العملية، وتكثيرا لمحال الوفاق العلمي والفكري للأمة.
إن الأمة كلما اتجهت صوب الكتاب والسنة بفهم أصولي قاعدي رصين، كلما قلت هوة الخلاف اللفظي والصوري بين أفرادها ومؤسساتها، وترشد الخلاف الحقيقي في العلم والفكر والعمل.
- النزعة التقعيدية الكلية للدرس الأصولي.
من تجليات وظيفة تكثير محال الوفاق العلمي في الدرس الأصولي كون هذا العلم مبنيا على نَفَس تقعيدي وتأصيلي، فيمكننا القول: إن علم أصول الفقه علم إنتاج وصياغة القواعد، وذلك لما يلاحظ في أغلب مباحثه من نزوع إلى التأصيل والتقعيد، فمباحثه في أصلها قواعدُ تسعف المستدل بها في تقرير معارفه، والحجاج على صحتها، والدفاع عن أصالتها.
وارتباطا بالمَعلم الأول، فإن الأصوليين ارتبطوا بالأصلين الكبيرين للمعرفة الإسلامية، وانطلقوا من هداهما المنهجي في صياغة قواعدهم وكلياتهم التشريعية والعقدية والأخلاقية، وهي كليات مصوغة بنَفَس أصولي.
فتراهم قد جعلوا من أفراد الآيات القرآنية ومجموعها قواعد أصولية متسمة بصبغة القطعية والاتفاق على مضمونها المعرفي وبعدها المنهجي، من ذلك قواعد التيسير ورفع الحرج، وقواعد رفع الضرر، وقواعد المقاصد والنيات، فهي قواعد مصوغةٌ من منطوق آيات قرآنية ومفاهيمها المعنوية.
وقل مثل هذا بخصوص السنة النبوية، فالأصوليون “إنما بحثوا عن رسول اللهِ المُشَرِّعِ الذي يضع القواعد لِلْمُجْتَهِدِينَ من بعده، وَيُبَيِّنُ للناس دستور الحياة، فعُنُوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام وتقررها”.
فالنزعة التقعيدية التي اتسم بها الدرس الأصولي مرتبطة أشد الارتباط بالوحيين، كتابا وسنة، وهي كذلك قواعد كلية مستقرأة ومستمدة من مقاصد الشريعة وتفاصيل أدلتها وأحكامها ومحكمات العقول التي لا ينازع فيها أحد، ولهذا يرى الإمام القرافي أن الشريعة تشتمل على أصول منقسمة إلى قسمين كبيرين، كلاهما يشكل قواعد كلية منبثقة من الدرس الأصولي، يقول رحمه الله: “إن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفا وعلوا، اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:
- أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام (…)
- والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه”.
ولا شك أن القسم الثاني مبني على القسم الأول ومقرَّرٌ بقواعده، فلا يتصور تنزيل القواعد الفقهية دون نظر أصولي متين، وإلا كانت قواعدَ مجردةً عن نسقها ومرجعيتها الأصولية، كما أن إعمال النصوص الجزئية دون أنساقها القاعدية ومضامينها العلمية الكلية سيؤدي بلا ريب إلى نتائج عكسية، ولهذا يقرر القرافي أن “من جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع، واختلفت وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسُه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب”.
بل يمكن تلخيص هذا المعلم بقولنا: إن الأصل في مسائل الأصول أن تكون قواعد وهي كذلك، لأن الغرض من دراستها تخريج الفروع عليها، وجعلها نصب العين في عملية الاجتهاد بأنواعه المختلفة، ومن ههنا يقرر الإمام الشاطبي أن الأصل في مسائل أصول الفقه هو إفادة ما أضيفت إليه وهو الفقه، وهذا معناه أن طبيعة مسائل هذا العلم وحقيقتها أنها قواعد وليست مجرد مباحث نظرية.
- النزعة التقريبية والتغليبية في البيان الأصولي.
إذا تأملنا المعلم الثاني وجدناه مفضيا إلى هذا المعلم الثالث وممهدا له، وذلك لأن النزعة التقعيدية للدرس الأصولي وإن كانت متسمة بالتجريدية والقطعية بناء على أن القواعد الأصولية كلية وليست أغلبية، فإنها مع ذلك موسومة بالتقريب والتغليب في الترجيحات واختيار الأقوال والآراء الأصولية، وهذا ما سنبينه في هذا المعلم بأدلته وتجلياته البارزة.
لا بد من التذكير أولا، أن المسألة إذا كانت محل خلاف بين الأصوليين، فالأصل إعمال الأدلة والأمارات والاجتهاد لترجيح رأي يطمئن إليه الباحث، وهذا يقتضي منه التسليم بأن غاية ترجيحه لا يعدو كونه رأيا من الآراء، وقولا من الأقوال، أو بعبارة أوضح لا يعدو أن يكون رأيه اختيارا من الاختيارات الموسومة بالظنية فقط.
وهذا لا يعني أن القواعد الأصولية الكلية ليست قطعية في بابها، وإنما الكلام هنا عن التفاصيل والنقاشات الجزئية للمباحث الأصولية.
ولكي نبين هذا المعلم القاضي بكون الترجيحات الأصولية إنما هي ترجيحات واختيارات تقريبية وتغليبية، نورد ما يلي:
- مسلك الأصوليين في اعتبار الأدلة المعتمدة في الاجتهاد، مبني على تقسيمها إلى أدلة نقلية وأخرى عقلية، والناظر في هذه القِسمة يجدها مبنية على التغليب، وذلك لأن الدليل الموصوف بالعقلي كالقياس مثلا أو الاستحسان، لا يمكن تخليته من جوانبه النقلية، لأن الأصل في الدليل كونه نقليا، فالأصلان المباشران، الكتاب والسنة، نقليان، كما أن الأدلة الموصوفة بالنقلية لا يمكن إعدام معقوليتها وتدخل العقل في فهمها وتفسيرها، وهكذا..
- كما أن الأصوليين في بيانهم لمدارس الاجتهاد، يقسمونها إلى مدرستين كبيرتين، وهما: مدرسة أهل الحديث، ومدرسة أهل الرأي، ولا شك أن هذا التقسيم أغلبي مثل الأول.
- اعتماد الأصوليين كذلك للتغليب والتقريب في بيانهم لمدلولات الأدلة والألفاظ في مبحث الدلالات اللغوية والشرعية، فتراهم يحسمون النقاش في قطعيها كالنص، وتتفاوت أنظارهم في ظنيها كالظاهر والمؤول وغيرهما.
- اختلافهم في بعض الأصول والأدلة لا يعدو في أغلب الأحيان أن يكون اختلافا في نسبة الإعمال لا في أصله، فمثلا أصل سد الذرائع، قد اختلفوا فيه لكن من جهة قلة وكثرة إعماله لا في أصل الاحتجاج به، ولذلك من عمل به من المفتين مثلا، يكون قد عمل بالغالب على مناهج الأئمة، لا أنه اختار ما لا دليل ولا عمل عليه.