علاقة المتقين بالمعاصي علاقة معقدة، ليس من السهل إدراكها إلا إذا اغترفنا من معين القرآن الكريم غرفة تروي ظمأ جهلنا، يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(آل عمران:135)؛ فتبدأ الآية الكريمة بـ”الَّذِينَ” وهو اسم موصول، والمقصود بهم في الآية هم “المتقون”؛ لأن الآية قبل هذه الآية هي قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(آل عمران:133)، ثم ذكر صفات المتقين فقال سبحانه: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران:134)، ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ)؛ فالآية إذن، تذكر صفات أشرف درجات المؤمنين المسارعين إلى مغفرة الله تعالى ورضوانه، والموعودين بجنة عرضها السموات والأرض وهم المتقون.
ولكن الغريب أن الآية لا تنزِّه هؤلاء المتقين من المعاصي كما قد يتوقع بعضنا، بل إنها لا تنزههم حتى من الكبائر (الفواحش)، كما قد يتوقعه كثيرون منا، بل الآية لم تكتف بعدم تنزيه المتقين من المعاصي، بل إنها لتُثني عليهم بارتكابها! نعم.. تُثني عليهم بارتكاب المعاصي، لكن في حالةٍ واحدة فقط هي يُتبعونها بالاستغفار الصادق، الذي يستلزم فيما يستلزم عدم العزم على الإصرار. ولا تُثني عليهم بارتكاب المعاصي مطلقًا فهذا لا يمكن أصلاً، ولا تُثني عليهم بعدم ارتكابها مطلقًا أيضًا وهذا هو ما أحببت لفت الانتباه إليه.
ومن هذه المقدمة ندخل في استلهام بعض فوائد هذه الآية، فمن فوائدها:
1- تُبيّن هذه الآية أن المتقين -وهم أصحاب هذا الوصف الشريف- لا ينحصرون في المعصومين فقط، فالمعصومون هم أنبياء الله وحدهم عليهم الصلاة والسلام. ولا ينحصرون أيضًا في الذين يجتنبون الكبائر، ممن لا تتجاوز معصيتهم الصغائر من الذنوب، فليسوا محصورين في الذين لا يرتكبون الكبائر ولا يأتون الفواحش فقط. فهذه الآية توضح أن المتقين قد يقترفون حتى الفاحشة، وقد يقعون حتى في الكبيرة؛ لكن الذي يميز هؤلاء المتقين من أهل الإيمان عن غيرهم ممن يقترفون الآثام صغيرها وكبيرها، هو أن المتقين يسارعون إلى طلب المغفرة، أي إلى الاستغفار الحقيقي بالقلب واللسان.
وذلك أن وصف الفاحشة لا يكون وصفًا لصغائر الذنوب، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ)(النجم:32)، فجعل الله تعالى “اللمم” وهي الصغائر، شيئًا مخالفًا للكبائر والفواحش، مما يبين أن الفواحش جنس من الكبائر أو لقب آخر لها.
2- إن مجرد ارتكاب الكبيرة لا ينافي صفة التقوى إلا مع الإصرار ومع عدم الاستغفار.
ولذلك يكون الكلام الآتي للإمام أبي القاسم القشيري على جماله، وعلى صحته من وجه؛ لكنه ليس هو معنى الآية! وذلك عندما قال -رحمه الله- في تفسيره: “ويقال فاحشةُ كلِّ أحدٍ على حسب حاله ومَقامه، وكذلك ظلمهم. وإن خُطور المخالفات ببال الأكابر كفِعلها من الأغيار.
قال قائلهم شعرًا:
أنت عيني وليس من حقِّ عيني
غضُّ أجفانها على الأقذاءِ
فليس الجُرم على البساط كالذنب على الباب.
ويقال فعلوا فاحشةً: بركونهم إلى أفعالهم، أو ظلموا أنفسهم: بملاحظة أحوالهم؛ فاستغفروا لذنوبهم بالتَّـبَـرِّي عن حركاتهم وسكناتهم، علمًا منهم بأنه لا وسيلة إليه إلا به، فخَلّصهم من ظلمات نفوسهم. وإن رؤية الأحوال والأفعال لَظُلُمات عند ظهور الحقائق، ومن طهَّره الله بنور العناية، صانه عن التورط في المغاليط البشرية”.
فهذا كلام جميل جدًّا؛ لكن لا ينبغي أن يخالف ظاهر الآية الواضح، من أن المتقين قد يقعون في الكبيرة من كبائر الذنوب.
3- تَذكر الآيةُ ظُلمَ النفس بعد ذكر الفاحشة في سياق ما يُوجب الاستغفار، مع أن ظلم النفس اسم شامل لكل معصية صغرت أو كبرت، اقتصر ضررها على العاصي أو تعدّاه إلى غيره.. مما يعني أن ذكر ظلم النفس بعد ذكر الفواحش والكبائر، هو من باب ذكر العام بعد الخاص، فالكبائر نوع من أنواع ظلم النفس، مما يدلنا على المغزى من ذكر الفواحش، ومما يعيننا على اكتشاف السر في ذكر الكبائر، بل في تخصيصها بالذكر، مع إمكان الاستغناء عنها بلفظ “ظلم النفس” الذي يشملها. ومن أوضح ما يبين ذلك المغزى ويكشف سرَّ ذلك التخصيص بالذكر، هو لتصحيح التصور عن علاقة التقوى بارتكاب الكبائر، ولبيان أن الضعف البشري قد يحط المتقي في لحظة جَذْبِه الطيني ودَفْع غريزته الجسدية من علياء الإيمان والتقوى إلى حضيض التمرّغ في وحل الفواحش، وأن ذلك لا يخرجه عن وصف المتقين ما دام يُتبع ذلك بالرجوع إلى ربه والفرار إليه بالاستغفار.
ومن فوائد ذكر ظلم النفس في هذا السياق أيضًا، بيان أن الصغائر تُوجِب على المتقين الاستغفارَ منها أيضًا، وأن المتقين لا يستخفّون بضرورة الاستغفار حتى من الصغائر، بل العبد محتاج للاستغفار -حاجةَ استحبابٍ لا وجوب- في كل وقت، حتى بعد الطاعة؛ لما ينتاب الطاعةَ من تقصير عن حق جلال الله تعالى وعظمته ولا بد، وإعلانًا للعجز عن موافاة الله تعالى حقَّه من الشكر على التوفيق والإعانة على أداء الطاعة.. كما أمر الله تعالى بالاستغفار عقب أداء مناسك الحج، في قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(البقرة:199)، وكما قال تعالى في الأمر بالاستغفار عقب قيام الليل: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المزمل:20). وكان من سنة النبي أن يختم صلاته للفريضة بالاستغفار ثلاثًا.
فإذن، كان الاستغفار مستحبًّا حتى بعد الطاعة، وهي طاعة ترضي الرب U وتقرِّب إليه العبد؛ فكيف سينزل حُكمُه عن الوجوب بعد مخالفة أمر الله تعالى بالمعصية ولو كانت معصية صغيرة!
4- بعد أن ذكر الله تعالى إمكانية مواقعة المتقين للفاحشة وظلم النفس، ذكر ما يجعل المتقين أوّابين لله تعالى بطُهر الإيمان ورِقّة طلب المغفرة (الاستغفار). فكان هذا الأمر الذي يرفعهم من حضيض المعصية إلى سُمُوّ القُرْب من العلي سبحانه هو أنهم (ذَكَرُوا اللهَ). نعم، إنهم فقط (ذَكَرُوا اللهَ)، فلم يقل الله تعالى: تَذكّروا عذابَ الله الأليم وأَخْذَه السريع، ولا قال الله تعالى: تذكّروا جلالةَ من عَصَوْه، وعظمةَ سلطانِ من خالفوه.. ولا غير ذلك من دواعي الردع القوية الحقيقية ومن أسباب الزجر العظيمة، بل اكتفت الآية أن يكون “ذِكْر الله” هو أعظمَ رادع وأشدَّ زاجر. وكفى بذكر الله رادعًا عن معصيته.. وكفى بذكر الله زاجرًا عن التقصير في حقه.
الأمر حقًّا لا يحتاج أكثر من أن تَذْكُـرَ الله تعالى، تَذْكُـرَه فقط؛ لكي تجتنب مخالفةَ أمره.. لا تحتاج إلا أن لا تَغْفُلَ عن ذِكْرِه فقط؛ لكي يدوم أُنْسُك بلذّة القرب بطاعته.. فمجرد تذكّر الله تعالى، يكفي لاستحضار كل معاني التعظيم حُبًّا ورجاءً وخشية.. ولهذا كان كافيًا للعاصي أن يذكر الله، لكي يؤوب إلى رشده ويفرّ إلى ربه. فليست الخشية وحدها هي الرادعة -كما ظن بعضهم- فرُبَّ حياءٍ من مُنْعِم كريم كان أشد في الردع عن مخالفة أمره من خوف عذابه.. ورُبَّ حبٍّ حَجَبَ النفسَ عن كل ما لا يحبه المحبوب، أكثر مِن الحَذَر من عقوبة غضبه.. فذِكْر الله على كل أنحائه أعظمُ مانع عن معصيته، وذِكْر الله لا يجتمع قط مع غفلة الجهالة عن واجب تعظيمه U.
ولذلك كان الاستغفار العاجل السريع، هو النتيجة الـمـتَحـتِّـمة لمن ذكر الله تعالى عقب معصيته: (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)، وهذا نحو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(الأعراف:201).
(*) كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى / المملكة العربية السعودية.