آخر الترحال

عزلة في الداخل وأخرى في الخارج، وكأنني من العابرين السُّراة ليلاً وقد اختفوا في أول جُنْح الظلام مع المطر والضباب الـكثيف.. اغترابٌ متعدِّد.. كم تؤرِّقني هذه الوحدة والـغربة الـتي تـجتاحـني وكـأنه ليس لي عنها مهرب.. وأصرخ في عزلتي.. غريب أينما حللت، أدور في صخب الـذهاب السريع من مكان إلى مكان.. غربة اعتدتها منذ صغري، تنقلات تلو أخرى وقد ضاقت مَلاعبي في آمـالٍ مـشرَّدة.. سَفـرٌ في كل حين، ووجوهٌ بلا عدد، ومدن لا تنتهي، وضجر ملازم، وجمر واحتراق، وسلام بلا أحباب، وحاضر فـي الغياب.. ثم كأنك بلا أثر أو خبر مضخمًا بقلق بال.. يأكلني الاغتراب حتى أقسى الـتيه، يؤلمني الاجترار فـأجـرُّ أقـدامي، وحيدًا بِـلا أصحاب، وحيدًا بلا أحباب، غريبًا بلا أهل.. فما أَضْيَعني!
ثم تَطول بي الطريق نحو الآمال التي قطعتْ أعناق الرجال، كالسراب خانَ من رآه وأخلف من رجاه.. ثم أجرُّ أقدامي مرَّة أخرى مـن سفر إلى سفر؛ سفر في الحنين، سفر في الأنين.. وفي طول الغياب يأخذني ببهجتي يؤنسني يناجيني يهمس لي: طوبى للغريب ومرحى.. ثم يتسربل بي غيابي في هذه الحياة الغريبة منذ حملتْـنا في العربة من بين حقائب ماضيها.. فأغيب.
أنا الضيف، أنا الطيف، أنا الغريب.. أخرج كاليتيم ولم أتخير واحدًا من الأصحاب كي يؤنسني في رحلتي، لأبدأ من جديد فأحاورني: من أنت؟ وما تريد؟ كمن يبحث عن شيء ضائع أو لا وجود له، أو كمن يبحث عن إبرة داخـل كـومة قـش! داخلي يـرتجف بشكل بارد، أتساءل: ما آخر الطريق؟ وهل عـرفتَ أولـه؟ وفي الأخير بقايا ذكريات لا تبكي ولا تبتسم.. سنوات وسنوات بلا عدد ولا حساب، والعمر يمضي مثل السحاب، ولم أُعدّ أي جواب.. فما أضْيعني.
لقد سئل رجل كم أتت عليك: قال ستون سنة، فقيل له: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: أتعرف التفسير؟ إن تفسيرها: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، وأنه مسؤول فليعِد للسؤال جوابًا.
فكيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمـره؟! وكيف يفرح من يقـوده عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى حتفه وموته، وما عاشه كان كالسراب، وما أعـد من جواب؟!
وكارتجاج صدى في بئر تتلاحق الموجات داخل جسدك، لترتدي اغترابَك من جديد.
أنا الغريب، أسأل نفسي، ماذا أفعل هنا؟ أحيانًا توشوش في صدري قصص العابرين في صمت وقد مروا مـن هنا دون أن يقولوا كلامًا، أو يصدروا سلامًا، أو يتركوا وصايا، لكنهم كانوا يحلمون بحياة جميلة، وبمطر دفاق، وبالخبـز والـورود، وكانوا يتمنون، ويودون أن يظل الناس أطفالاً ضاحكين للأبد.. لكن، ها نحن مازلنا نموت على الكآبة، ونحيا على الغِلّ والحقد وسوء الطـوايا والنوايا.
وكارتجاج صدى في بئر تتلاحق الموجات داخل جسدك، لترتدي اغترابك من جديد.
أنا الغريب، أسأل نفسي ومن جديد، ماذا أفعل الآن هنا؟
وما آخر الترحال؟ وكل شيء ينهار يذوب يزول وكأنه لم يكن. كأنـه رسْمٌ على الـماء، أو نقشٌ على الرمال، وهم، محْـضُ سـراب، مُتَـعٌ وحياةٌ مليئةٌ بالتعاسة، والعزلة، ممزوجةٌ بالكدر.. وراحتُها مقرونة بعناء، شدة ورخاء، نعمة وبلاء، ولا يدوم نعيم ولا رخاء.. ثم هي تنتهي بسرعة البرق، متع مآلها الزوال.. فما آخر الترحال؟ هذا هو السؤال.. هذا هو السؤال.
أحفرُ في ذاكرتي.. أنفض عنها غبار الأسفار الطويلة.. ومرة أخـرى أحـط رحالي بشطِّ الـغرباء.. ولم يكن هناك من وجه ليودعني يـوم رحلت حتى يكون هنا وجه ليلقاني ولا منديل يلوح لي.. وكأنني سـندباد هذا الزمان، وكأني أكملت الرحلات السبع.. وها هي العـشر على الأبـواب، وكم أريد، وما عدتُ أخاف الطريق، فأنا الغريب.. ثم نلتقي بعد سنين، فهل سيكون في العيون وجدها، أم نلتقي كالأصدقاء القدامى يودِّعون أو يسلمون في فتور؟!
أشعر بانقباضٍ لا أدري له سببًا عند كل رحيل، وفي كل مرة يتضاعف أكثر وأشعر كأنه الوداع الأخير. ثم أسأل نفسي: ما دمت قد اعتدت وألفت الفراق، فلِم الحزن؟!
ها هو ذا هيكلي.. فيا وحشة الغربة.. ثم هُم قد يسألون: ترى هل عاد من غربته؟ يا لها من غربة طويلة.. يا طولها شوقهم المضطرب والألم، رعشـة مـن وهج الجلال، يتساءلون متى افترقنا؟ متى التقينا؟ أذكر ذاتـي حـين أزورها تبعدني في خصام! فأجـرُّ اغترابي طريدًا وحيدًا غريبًا.. ثم يطول بي الطريق من سفر إلى سفر، سفـر في الحنين، سفر في الغياب.. يأخذني ببهجتي يتسربل بي، وقد أغيب عنه للأبد.. وأنا الذي كنت أقول لنفسي لعل الأرض امتصته كما تمتصُّ الماء جرعة جرعة، لكنه ظهر فجأة كانقشاع البرق، واختفى بعد ذلك تاركًا بكائيات ومرثيات الريـح لمن ودعوا شعاعه وضياءه وبهاءه، ولمن أبدعوا من صبابة الوجد صبابته، ولمن صنعوا تابوتًا من ضياعه للغياب، يقول فيها: ستأتون تباعًا تقتفون أثـري، فأحبابي كلهم مروا من هنا.
هذا الذي عرفته، زمنًا ضاربًا في الغياب، وبحرًا كله بحر يقتفي خطى السـعْد، لكأنـه المحال، وما كان لي إلا بقايا ثرثرة.
هذا أنا وهـذه متاعبي، كـما اليوم، كما الأمس.. وأنت كما أنت، كـل شيء جاثمٌ مثل وحـش كاسر حطَّ على السفْح يترقب نهايته، فيعود للقمـة ليستريح هناك.. كلانا شيءٌ من الاحتمال، قد ننزاح في هدوء، وقد حل الأمس محل الغد، والسماء رمادية، وهذه الريح العاتية تدوي بالشتات، توزِّعني بين مساءات باردة، هي قادمـة لا مـحالة. وما عليّ إلا أن أستبشر.. فقد يتناهى الغيث المدرارُ، وتنحث غمامها عند الوقوع على شبابيك النوافذ.
غريب أينما حللت، أدور في صخب الذهاب السريع من مكان إلى مكان غربة تلو أخرى وقد ضاقت أبوابي ودروبي وملاعبي في آمال وأحلام مشردة.. وها هي الأدعية المرضية، وها هو مدد الصبر، وها هي ذي الإشراقات تكتنفني، وكيف يُسْتوحَش مع الله سبحانه!؟
وغيرذاك الباب،
مُحاولتي الأخيرة لأن أكون سعيدًا!
وقد هيأت للترحال -من وجع الفؤاد- مراكب،
أشمُّ رائحةَ الاخضرار، يتسع القلب،
يسكنني النور من بدايته!
أراه بروحي، وبقلبي أراه ويأسرني،
يحمِلُني إلى آفـاقه الرحْبـهْ،
ولن أخيب، هو الباب الحق حين تُسَد كل الأبـواب.

(*) كاتب وباحث مغربي.