كثيرة هي المجالس التي نعقدها بين الفينة والأخرى، وأحلى وأرقى هذه المجالس كلها مجالس القرآن؛ إنها المجالس الربانية النورانية المربية للنفس والروح.. مجالس مزكية تحضرها الملائكة بإذن ربها ويكفيها هذا رفعة وسموًّا.. إنها المجالس التي لا تعادلها مجالس، فما أحلى الحديث عنها، وما أحلى قراءة المقالات والكتب المتحدثة عنها.. وفي هذا الإطار نحاول تقديم قراءة وعرض لكتاب جدير بالقراءة، إنه كتاب “مجالس القرآن من التلقي إلى التزكية”.
كتابٌ من تأليف الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، حيث كتب موضوعه بأسلوب شيق جذاب، معزز بشواهد من الكتاب والسنة بشكل يجعل القارئ في النهاية مقتنعًا بما رام الكاتب توصيله إليه من أفكار، ونعتبره كتابًا دعويًا بامتياز. وإليك بعض أفكاره مختزلة، مقرين أن أية قراءة لكتاب ما، لا يمكن الاستغناء بها عن الرجوع إلى الكتاب قصد الاستزادة والانتفاع أكثر بما ورد فيه من أفكار قد لا ترد في القراءة المقدمة عنه.
في مقدمة الكتاب حدد المؤلف المستهدفين برسالته، فهي إلى المربين وأهل الفضل والصلاح، ودعاة الخير والفلاح، والشباب الباحثين عن وارد من نور، والتائبين والآيبين. ويتبين من خلال هذا، أن رسالته أساسية لاكتساب الصلاح والإصلاح. بعد ذلك أشار الكاتب إلى أهمية الموضوع، والتجلية في تناوله رسالة القرآن. هذا الأخير (القرآن) الذي أبرز الكاتب كثيرًا من مزاياه؛ فبالقرآن جعل الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم معلّم البشرية وسيدها، وبالقرآن بعث الله تعالى الحياة في عرب الجاهلية.. كما أن القرآن مفتاح لعالم الملكوت، وهو الشفاء والدواء، أحدث انقلابًا ربانيًّا عجيبًا في الإنسان. ويتساءل الكاتب عن الذي حدث لنا نحن أهل هذا الزمن، فلم يكن أثر القرآن باديًا على تصرفاتنا ومعاملاتنا، ليجيب أن السر يكمن في منهج التعامل مع القرآن؛ فمنهج التعامل مع القرآن الكريم كما جاء في الكتاب، “هو ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أمر القرآن”. لهذا، يدعو الكاتب إلى تجديد عهد القرآن ورسالته، والعودة إلى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعد هذا من أهم دوافعه إلى تأليف كتابه المتناول للموضوع.
مجالس القرآن مفتاح المشروع
تحت هذا العنوان، يرى الكاتب منهج تدارس القرآن عبر مجالس القرآن، منهجًا متجددًا دائمًا لا يتقادم، ويعتبر هذه المجالس مدرسة شعبية لنشر ثقافة القرآن، كما يعتبرها منهجًا تربويًّا أسسه معلّم البشرية محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يعتبرها مشروعًا ننطلق فيه من القرآن إلى العمران. وللدخول في فضاء هذه المجالس الربانية الكريمة صورتان:
الصورة الأولى وتتمثل في مجالس القرآن الأسرية، وذلك بتأسيس المجلس داخل الأسرة الواحدة. ويعتبر الكاتب هذه المجالس ضرورية لبناء شؤون البيت؛ فهي وصفة إيمانية جاهزة من صيدلية الرحمان، وأهميتها بناء الأسرة على مفاهيم الإسلام، لأنها قائمة على منهج كتاب الله تعالى، “وما كان أصحاب رسول الله يجعلون أبناءهم وأهليهم بمعزل عن القرآن”. ويعجب الكاتب لمن يطلب العلاج النفسي والاجتماعي، والشفاءُ الرباني بين يديه!
الصورة الثانية وتتمثل في ما سمّاه الكاتب بـ”صالونات القرآن”، ويقصد بذلك “فتح صالون، والبيت للأحباب والأصحاب”، قصد تدارس القرآن الكريم والتأمل في آياته، من أجل تكوين شخصية إسلامية متماسكة نفسيًّا واجتماعيًّا، وبه ينشأ التعارف بمعناه القرآني الذي يبني الثقة بين الناس. فموائد القرآن كفيلة بتغذية روح التكافل والتراحم والمحبة، ونتيجة ذلك بلوغ أعلى المنازل الإيمانية وأرقى المعاني الروحية. فالمجالس القرآنية تبني شبكة روحية فريدة عموديًّا وأفقيًّا. وقد أرفق الكاتب توضيحه لما ذهب إليه، بأدلة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عدم اشتغال القرآن الحقيقي بمعزل عن شروط، على رأسها تهيئة القلب لاستقباله؛ فقلب المؤمن حقًّا هو الذي يشغل قاطرة الإيمان. ويخلص الكاتب مما سبق، إلى أن مجالس القرآن وصالوناته، تعتبر بمثابة مدارس لتخريج مصابيح القرآن في الأمة.
ولإنشاء مجالس القرآن، بيّن الكاتب أن تلك المسؤولية يتحملها كلٌّ من العلماء الربانيون، وأهل الخبرة التربوية، وبعدهم أهل الصلاح ومحبي الإصلاح من المسلمين عمومًا، ولا يجوز إلقاء المسؤولية على البعض دون البعض الآخر.
وبناء على التجربة، أبرز الكاتب أن مشروع مجالس القرآن هو الذي يصنع أساتذته، مؤكدًا أن “هذا سر من أسرار القرآن العجيبة”.
وأوضح في الأخير أن برنامج سبيل الله هو القرآن الكريم، وأستاذ هذا الطريق هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ومقرها الحركي بيت الله U.
جلساء الملائكة
بعد تعريف الكاتب للجليس، أشار إلى كون مجلس القرآن هو الذي يستحق أن تشد إليه الرحال، وتقطع من أجل الوصول إليه المسافات والأميال، وبلغة الكاتب فهذا المجلس “يتضوع منه مسك الروح بما حضره من أهل الله وملائكته. مجالس القرآن -إذن- خير أنواع المجالس على الإطلاق، وقد ذكر الكاتب في هذا أحاديث عديدة، منها الحديث المشهور الذي رواه أبو هريرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي يقول فيه: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه” (رواه مسلم).
فعلى المسلم أن يُسلك نفسه وصاحبه في مجلس من مجالس القرآن، سيرًا من خلاله إلى رضوان الله تعالى. ولبناء النفس وتربيتها، يجب أن يكون ذلك على منهج القرآن، كما عرضه القرآن وهو ثلاث خطوات قابلة للتفصيل وهي:
1- التلاوة بمنهج التلقي
ومن أهم ما أشار إليه الكاتب في هذا الإطار، أن التلاوة بركة وزكاة في نفسها لثبوت الأجر على كل حرف نتلوه من القرآن الكريم، لكن التلاوة لكي تكون مثمرة ينبغي أن تتم بحضور قلبي، وتتلى على أنها كلام الله U. فالقرآن رأس الذكر، ولتحصيله يجب أخذه بمنهج التلقي، والتلقي في اللغة يعني الاستقبال عمومًا، وتلقي القرآن يعني استقبال الوحي على سبيل النبوة كما هو الشأن بالنسبة لسيد المرسلين محمد صلى الله وسلم، وإما أن يكون التلقي بمعنى استقبال القلب للوحي على سبيل الذكر “وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي”. ويشير الكاتب إلى أن ذلك ينبغي أن يكون بالتعامل مع القرآن بصورة شهودية، ويعني بذلك اعتباره وكأنه يشهد تنزله عليه الآن غضًّا طريًّا.
2- التعلم والتعليم بمنهج التدارس
يتعلق الأمر بتعلم وتعليم القرآن الكريم عبر منهج الدراسة والتدارس، ويتم ذلك باستقصاء معاني العبارات ووجوه المعاني، والدلالات للمقاصد والغايات من كل آية أو سورة، وتناول ذلك من خلال التلاوة والتفسير.
3- التزكية بمنهج التدبر
والتزكية حسب الكاتب تعني عملية التطهير للنفس قصد تخليصها من مراعاة غير الله وصولاً إلى مرتبة الإخلاص، ” فالتزكية -إذن- هي أشبه ما تكون بنتيجة للتلاوة والتدارس لكتاب الله، إلا أن هذه النتيجة لن يتم استثمارها على الحقيقة، ولا تحصيلها على التمام إلا إذا التقطت بمنهج التدبر”. وقد شرح المؤلف كلاًّ من التدارس والتدبر لغة واصطلاحًا، كي يبين ضرورة وأهمية هذين العنصرين في منهج التعامل مع القرآن الكريم بغية الوصول إلى أسراره وأنواره.
المنهج العلمي لإقامة مجالس القرآن
أورد الكاتب مجموعة من الضوابط الكفيلة بإنجاح مجلس التدارس نختصرها فيما يأتي:
- الضابط الأول، ويتمثل في ضرورة تجريد القصد لله تعالى.
- الضابط الثاني، ويتعلق بتحين أوقات الانشراح النفسي للقرآن الكريم.
- الضابط الثالث، ويتعلق بمراعاة أدب المجلس.
- الضابط الرابع، وهو عدم عقد أكثر من لقاء واحد أو لقاءين على الأكثر.
- الضابط الخامس، ويتمثل في احترام قواعد تدارس القرآن العظيم.
- الضابط السادس، وهو مبادرة أحد الجلساء من أهل العلم أو أهل الحلم، لتسيير المجلس.
- الضابط السابع، وهو إشراك الجميع في عملية التدارس والتدبر.
- الضابط الثامن، وهو تجنيب الجلساء الدخول في الجدل العقيم.
- الضابط التاسع، وهو الإعراض عن اللغو من القول والابتعاد عنه مطلقًا.
- الضابط العاشر، وهو تحديد أهداف المجلس من التدارس.
- الضابط الحادي عشر، وهو اعتماد تفسير مختصر مما تلقته الأمة بالقبول وأجمع على صحته السلف والخلف.
- الضابط الثاني عشر، وهو قراءة القرآن أولاً، ويمكن أن تتداول القراءة بين جميع الحضور.
- الضابط الثالث عشر، فإذا تمت حصة التلاوة والاستماع إلى كتاب الله، فليشرع في قراءة خلاصة التفسير قراءة مسموعة هادئة مفصلة.
- الضابط الرابع عشر، وهو تناول قدر من الآيات بما يشكل معنى يحسن الوقوف عنده.
- الضابط الخامس عشر، وهو التحقق من إدراك أهل المجلس من إدراك حسن المطلوب.
- الضابط السادس عشر، وهو الدخول في محاولة التعرف على الهدي المنهجي للمقروء بعد اتضاح المعنى.
- الضابط السابع عشر، وهو فتح باب التدبر للآيات، والتفكر في خلق الأنفس والأرض والسماوات.
- الضابط الثامن عشر، وهو قطف الثمار من المدارسة، ومن بينها التعرف على القضايا الأساسية التي تعالجها السورة إجمالاً، والتعرف على المحور الرئيس للسورة.
- الضابط التاسع عشر، ويعتبره الكاتب الضابط الجامع والكلي لضمان سير مجالس القرآن ونجاحها، وهذا الضابط هو الحفاظ على ميثاق القرآن العظيم والالتزام به بقوة.
وختامًا، أشار الكاتب إلى أن القرآن العظيم لا يفتح أبواب أسراره إلا بشرط الإخلاص، وبأخذه بقوة، ويعتبر ذلك شرط الاستقامة في السير إلى الله، وقد كان هذا منهج الأنبياء والصديقين.
(*) كاتب وباحث مغربي.