من المعلوم أن التوجه العلمي السائد في هذا العصر، أصبح يركز أساسًا في مقارباته للكون، على مبدأ المادة القائم على فكرة الكم المهيئة لمشروع الهيمنة. ومن ثم لو راجعنا واقع العلوم من هذا المنظور، لوجدنا أسئلة كثيرة ما زالت تبحث عن نفسها دون أن تجد لها جوابًا.ومن ذلك، النقص الذي ما زالت تعاني منه الرياضيات، والشك الذي ما زال يخيّم على الفيزياء الكمومية، والغموض الذي ما زال يكتنف ميادين البيولوجيا، وخاصة نظرية التطور وعالم الإحساس وما وراء ذلك، ناهيك عن الحجُب التي ما زالت تطال ما فوق الأرض من مستويات الفضاء وما في باطنها، مما ليس للعلم عليه إدراك إلا من خلال المقاربات غير المباشرة. الشيء الذي يجعل مسار البحث العلمي يعاني من نقائص معيبة، سببُها ضيق الرؤية التي انحصرت في زاوية المادة ولم تهتم بما وراء ذلك. فغاب الذوق الراقي في البحث، وبقي التهافت على منافعه المادية.
فالتوجه العلمي السائد بتكريسه لفكرة التجزيء العلمي بهدف التخصص، يكون إنما نفّذ ما أملاه الواقع، لكنه بتوجيهه لهذا التخصص في اتجاه المصالح المادية، يكون أورد العالَم متاهات خطيرة جعلت الفرد ينحصر في حيز ضيق من مجال المعرفة حجبه عن باقي المعارف. فهو بذلك جزّأ شجرة العلم إلى أغصان متباينة، وفرض على كل باحث أن يتشبث بغصن واحد منها دون أن يلتفت بنظره إلى الغصن الآخر، حتى يتم توجيه البحوث إلى الوجهات التي تمليها مصالحه.
لكن العلم هو أشمل من ذلك بكثير، وأبعد من أن ينحصر في زوايا محدودة بمحدودية التخصص المفروض. ذلك لأنه رؤية شمولية جامعة ومتوازنة بين الحقائق من شتى التخصصات، القصد منها إيصال الباحث إلى الحقيقة الواحدة التي يحتضنها الكون. أما تلك التخصصات التي فرضها الواقع العلمي السائد، فما هي إلا شُعَب من كلية جامعة ذات موضوع علمي واحد عنوانه الحقيقة. ومهما كانت حقائق تلك التخصصات جزئية غير منسجمة مع هذا العنوان، فإن معارفها ستبقى شاذة مبتورة بعيدة كل البعد عن الكتاب العلمي الجامع للكون، وعن أبعاده اليقينية المطمئنة لنفس الإنسان التي تمكنه من المساهمة الهادفة في بناء حضارته.
فإذا كان ما أنجزه العلم في القرن الأخير -مما لم تستطع البشرية تحقيقه على مدى عدة قرون من تاريخها- يستدعي الدهشة والانبهار، فإن من دواعي التبصر والاعتبار، أن يقف الإنسان وقفة تأمل، ليزن بميزان الأمانة والمسؤولية مضامين ما تمخض عن هذه الإنجازات، ويستحضر بعين المشخص مغزى ما آلت إليه تطبيقاتها. فالعلم ذلك المشعل الذي لا ينطفئ، هو دليل الإنسان في حياته، وبقاء عمله بعد مماته، فإن هو احتضنته أيد عارفة به، أشع بنوره وأضاء، وإن هو وقع في أيد العابثين، ألقى بشراراته فأحرق. والعالِم النافع، هو العارف بعبء الأمانة وجسامة المسؤولية، أما الخارج عن هذا الإطار، فيعتبر مفرطًا وظالمًا لنفسه وللإنسانية؛ لأنه بعمله اللامسؤول، قد يورد العالم مآسي وويلات لن يكون الخلاص منها بالشيء الهين.
من هذا المنطلق يجب تقويم نتائج العلم الحديث.فالمصالح التي توجه مساره، باتت تركز أكثر فأكثر على هذا التجزيء وعلى تجزيء المجزأ، لدرجة أن البحث العلمي تحددت معالمه برسم دوائر عزلت الباحث عن باقي المقومات الراقية للطبيعة، وألزمته التقيّد بمحدودية منافعها المادية، فتصدّر العالَمَ إنسان المطامع الدنيوية، وغُيب عن ساحته صاحب النظرة الذوقية.
هذا ما آل إليه واقع العلم اليوم لما غيّب عن ساحته الفكرية حقيقة المسار الموروث عن الماضي، والمرتبط ارتباطًا جذريًّا بأبعاد الحياة الإنسانية ومستقبل شعوبها.فضرب على هذا الموروث بطوق من حديد جعله يتنكر لكل الأعراف الإنسانية، بل ويخون بكبريائه وسخريته الأمانة العلمية. فنهل من علوم السابقين، ونسب إلى نفسه كل الابتكارات، دون أن يعترف بفضل الأولين، متناسيًا أن ما وصلت إليه إنجازاته فيه نصيب كبير من إرث الماضي. فكان ذلك كافيًا لفرض قطيعة جذرية مع الماضي قصد صنع مستقبل مبهم، تساق فيه العلوم إلى واقع تملي توجهاته مطامع الإنسان وغرائزه.
في ظل هذا التوجه الخانق، ظهر عالم متقدم يستحوذ على كل شيء، وعالم متخلف سمي عالمًا ثالثًا عالة على من سواه. وبسبب هذا التوظيف المفرط للبحوث العلمية في خدمة مطامع السيطرة والتسلط، حلت بالعالم نكستان أثرت في مصيره تأثيرًا عميقًا؛ الأولى تجلت في حدوث الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين أنتجتا تصاعدًا مهولاً لم يسبق له مثيل لوسائل تدمير الأرض والإنسان، والثانية تمثلت في الاستعمار الذي خلف -وما يزال- تشنجًا خطيرًا في أوضاع العالم، وتناميًا مهولاً للأحقاد الاجتماعية والسياسية.
هكذا في عالم غيبت عنه القيم الإنسانية المستوحاة من النظرة الشمولية وحكّمت فيه المصالح والأهواء النفعية، وقع تبذير الطاقات فيما لا يُجدي بنفع على البشرية، كالسباق على التسلح الذي لبّس الأرض غطاء نوويًّا قادرًا على محو الحضارة الإنسانية، والقضاء على العنصر البشري في هنيهة من الزمن. فلئن كان مفعول قنبلة هيروشيما وناكازاكي قد أحدث كارثة بشرية وبيئية في اليابان سنة 1945، فإن سنة 1962 شهدت توقيع بروتوكول الموافقة على صنع القنبلة النووية.فشرّع العالم لنفسه هذا العمل تشريعًا جعل السباق على التسلح يتصاعد، حتى بلغت ميزانيته ما يعادل عدة أطنان من المتفجرات فوق رأس كل إنسان يقطن الأرض. والعالم المتقدم بكل بحوثه واهتماماته العلمية، مشغول بروعة التسلح، بينما الملايين من سكان العالم الآخر، يموتون مرضًا وجوعًا واضطهادًا.
وها هي المؤشرات الأولى على آفة هذا التوجه العلمي المعوج بدأت تظهر من مخلفات ما أنتجته يد الإنسان الأثيمة، لما كانت الانطلاقة العلمية غير رزينة، ونية البحث غير سليمة. إذ بعد انهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة، وجدت الدول المصنعة نفسها -والعالم معها- أمام تحدٍّ كبير بسبب ما تشكله هذه الترسانات الهائلة من الرؤوس النووية من خطر على الأرض والبشرية. فالتخلص من هذه الأسلحة، صار هاجسًا يوميًّا في حياة الناس. والفعاليات الإنسانية والبيئية كلها، تطالب بإزالة هذه الآفة التي تهدد حياة الناس ومستقبل البشرية. وأخيرًا أدرك العالم هذا الخطر، وقرر التقليل من عدد الرؤوس النووية. لكن ذلك اصطدم بعائقين كبيرين، أولهما مادي حيث يتطلب تدمير رأس نووي واحد ما يزيد على المليون دولار، والثاني بيئي يكمن في كيفية التخلص من النفايات المترتبة عن هذه السموم، خاصة وأن المواد المشعة التي تحتوي عليها، لا تتلاشى بسهولة مع الزمن وليس هناك ثمة إمكانية للتخلص منها.
هذا ما جناه العلم على البشرية لمّا جُرد من مقوماته الأخلاقية. فلربما وصل العلماء المسلمون في عهد النهضة الإسلامية إلى شيء من هذه الاكتشافات قبل غيرهم. لكن ما يمليه الضمير الحي، وما تقتضيه ضوابط الحكمة، قد يكون أوجب وأد هذه المهلكات في مهدها، ضمانًا لأمن الأرض وسلامة ساكنيها. فقد كان جابر بن حيان -وهو أب الكيمياء باعتراف العالَم- يقول: “لا تعلّموا الكيمياء إلا لمن تأمنون دينه وخلُقه”. وكأننا بصدد وصية من أب في زواج ابنته هو مطالب بوضعها في أيدي أمينة. وذلك أسمى تعبير عن مدى مسؤولية العالِم على تحصين العلم ضد أي عبث قد يؤذي الناس أو يفسد معايشهم. وقبل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي في الدعاء، بأن نسأل الله علمًا نافعًا.
لأجل ذلك، حرص الإسلام كل الحرص على الأخلاق في العلم، لإعداد الأمة التي ستحمل الأمانة وتؤدي الرسالة؛ لأن الاستقامة العلمية، هي التي تصون الحضارة من الدمار، وبدونها لا تنهض الأمم ولا تقوى الهمم مهما بلغت من العلم. فوا أسفاه على ما آل إليه العلم لمّا جرد من مقوماته الإيمانية، ويا حسرتاه على ما فرط فيه الإنسان من عطاء جامعات قرطبة وبغداد وفاس وغيرها.. يوم كانت العلوم الإسلامية تشع بنورها فوق القارات الثلاث بثقافة ترتكز على دعائم الحكمة والإيمان، لا على تقنيات الدمار والطغيان.
فلا عجب أن تكون عجلة الفكر المتحكمة في تطور العلوم وتقدم المعرفة تدور بوتيرة متصاعدة، بحيث نجد ما أنتجه العقل البشري في القرنين الأخيرين، لم ينتجه على مدى امتداد التاريخ. ولا غرابة أن تأتي منجزاتها بكليتها من عند غير المسلمين، فذلك كان مقدرًا بأجله في كتاب حتى يتحقق وعد الله الذي أخبر بذلك في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(فصلت:53). وهو ما نراه يتحقق في آفاق الاكتشافات العلمية التي تأتي الواحدة تلو الأخرى، معلنة بصدق ما سبق أن أخبر به كتاب الله من حقائق كونية تتجلى كل واحدة منها في حينها، فقول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)(الأنبياء:30)، يدل على هذا المنحى، بحيث نجد الخطاب القرآني موجهًا لهؤلاء، وهو استفسار علمي جاءت الإجابة عنه اليوم على أيديهم كما وعدت بذلك الآية السابقة، حيث نجد أن الذين كشفوا النقاب عن ظاهرة فتق الرتق هم غير المسلمين، فسموها بالانفجار العظيم (Big Bang). ومثل ذلك كثير مما وصل هؤلاء إلى تحصيله كما فصلناه بالشكل الذي أقره القرآن، بل وحتى بالعبارات التي أوردها في ذكره، والغاية من ذلك أن يتبين لهم الحق من أنفسهم. أما لو كان مشعل العلوم بقي في أيدي المسلمين كما بدأ، وكان غيرهم في موقع التابع، لقال هؤلاء التابعون للمسلمين إذا دعوهم اليوم إلى الدين بحجة هذه الحقائق العلمية الشاهدة على صحة كتاب الله: “إنما جئتم به أكاذيب اصطنعتموها لتبرير ادعائكم”، كما قال أسلافهم من قبل.
وهكذا، فالوقائع التي سجلها العلم في عقوده الأخيرة، والتي سطرنا بعضًا من تداعياتها، تظهر مدى احتياج العلم للدين، وكيف يبقى ميدان البحث العلمي المتنور بالإيمان، مادة خصبة لمد الجسور بينهما، وسد الفجوة التي تفصل الواقع الحالي للعلم عن مساره الإنساني والأخلاقي.
(*) كلية العلوم، جامعة ابن طفيل / المغرب.