إنّ ديننا الإسلامي الحنيف يشجع على العلم ويكرم العلماء ويرفع درجاتهم، فقد بيّن الإسلام مكانة العلماء وفضلهم، وثمّن وجودهم، فهم في الأمة حفظ لدينها وصون لعزتها وكرامتها، حيث إنّهم ورثة الأنبياء في أممهم.
وعالمنا الدكتور محمد بلاسي أحد المميزين في اللغة، والمميزون في اللغة معدودون، وتميزه نتاج الخبرة والكفاءة لا نتيجة التوصية والأقدمية، يقرأ اللغة عن علم ويدرسها عن فقه، حتى لقب بـ (تشومسكي) العرب.
نشأ على مصنفات القدماء وعكف على معطيات الحداثة، وبهذا سلكت مؤلفاته “الألفية” سبيل الذيوع، ولم تترك من أبواب الشهرة بابا إلا طرقته وألحت في الطرق حتى أسمعت العليّة، فتواصلوا معه، وصار رجاؤهم فيه موصولاً، وظنهم حسنا، فأدرجوه مع علمائهم خبيرًا يتجملون بعلمه، وصار مع خبرائهم عالمًا يتنبل بمجالستهم.
هذا التميز هو الذي أهله “للدروس الحسنية” في المغرب، و”المجالس السلطانية” في عمان، فاستقدموه وأكرموه وأحسنوا نزله، وبين القراءة والكتابة يروي رقائق الشعر ويحفظ مقتطفات الحكمة، ويروض قريحته على كتابة القصة، ويعصر عقله مقالة تنشر وكتابا يذاع، وظن أنه بهذا قد حاز السعادة والسيادة، فقد كان يحرث في أرض صلدة يعترضها جنادل تنغص عليه الرؤوس وتوجد عليه القلوب. قد يكون في التميز عزاء ورجاء، ولكن تميزه المتفرد نزل على بعضهم داء لا يهادن.
الدكتور بلاسي سليل أسرة شامية الأب تركية الأم، وهو بهذا مزاج عقليتين، لكنه قبل هذا كله نبعة مصرية من أيكة الزقازيق، حسن منبته وطاب جناه، وكان مغرسه أقرب إلى النيل، فنهل وعلّ، لأن الماء كان يطلبه وهو ضاجع وادع، فأبوه – عليه رضوان الله – كان من المتصوفين بالفطرة، يرتاح للندى ويهتز للبطولة ويطرب للبيان، ويحفظ القرآن بقراءاته ويحفظه ويكافئ من يحفظه. وكان من مياسير المساتير، تجارة رابحة وبضاعة مزجاة، وكانت يداه فيهما كالمصرفي الماهر في المصرف الكبير، تسيلان فضة في العطاء ولا تفيضان ذهباً في الأخذ، فهو يؤمن أن السعادة في الإعطاء خير منها في الأخذ، وأنّ خير ما في الدنيا هو ما انتقل معه إلى الآخرة.
في هذا المناخ نشأ الدكتور بلاسي وتفتق ذهنه وتوجهت ميوله، ودرج على كبر النفس وبعد الأمل، وأخذ تميزه يتحرك من طور الكمون إلى طور الذيوع .
أيا ما كان الأمر، فقد عرفت الدكتور بلاسي -عن قرب-، وبلغت الصلة بيني وبينه حدّ الألفة، فأزالت الكلفة، وكأني من غدوة تصادفه ببساطة نفسه وبسطة جسمه يتأبط حقيبته ويتهـادى في مشيته، فتظنه منشغلا بنفسه وهو في الواقع يلحظك لحظات الصقر ثم يطارحك الحديث بجرسه العربيّ وأدائه المتئد ولهجته الشرقاوية، تنفلت على لسانه فتزيده بساطة وظرفا وشخصية عالمنا شخصية قوية مهيبة، عزز من هيبتها قامته الفارعة، وملامحه الجادة، واعتداده البالغ بنفسه، وورث عن والده الحزم وحب النظام والانضباط، كما ورث عنه حب العزلة، فأتاح له ذلك مساحات من الوقت شاسعة يقضيها في القراءة والكتابة في نهم عجاب، إلا أنه –مع هذا كله- لا يصبر على منظر مؤلم أو شكاية ضعيف.
وكلمتي هذه تحليل لسيرته، كنت خلالها أحذف من سيرته الحاشدة ما أراه استطرادًا وأضع في الاعتبار أنّي راوية لا مؤرخ، هناك متسع وهنا مضيق، فالسيرة تاريخ قوامه التفصيل والرواية أدب تكفي فيها اللمحة.
ومجمل القول: “إن أخانا الحبيب إلينا، الأثير لدينا، العزيز علينا، العالم، الداعية، الثائر، المكافح للظلم، الواقف دائمًا ضد الضلال والباطل، والطغيان والفساد -بمبادئه ومثله، من العلماء الدعاة المعلمين.
عاش حياة حافلة بالعطاء، سواء في ميدان التدريس، وتربية الأجيال، والدعوة إلى الله على بصيرة.
عالمٌ ليس ككل العلماء، فهناك أناس حصّلوا العلم، ووصلوا إلى أعلى الدرجات في العلم، ولكنهم رضوا بأن يكونوا في ركاب الظالمين، وأن يحنوا ظهورهم ويطأطئوا رؤوسهم للظالمين، أما هو كالطود الأشم الراسخ الراسي، رفض أن ينحني رأسه إلا لله في ركوعه وسجـوده، فآثر أن يكون دائما لله، ومع الله، ومجاهدًا في الله حق جهاده. ملتزم بالحق، ومقاوم للمبطلين المتلونين الذين يتلونون تلون الحرباء، لا يداهن الباطل، ولا يخشى في الله لومة لائم.
هو من العلماء الذين أحسنوا فهم الإسلام الوسطي، وتمسك بمنهج الاعتـدال، ورفض الإفراط والتفريط، يدعو إلى الحق، ويشيع الخير، ويذود عن الحمى، ويقاوم كل من يريدون تحريف الدين، وتزييف الوعي، والبعد عن حقيقة القرآن والسنة، فهو من هؤلاء الذين أثنى عليهم رسولنا المعلم – صلى الله عليه وسلم– حين قال: “إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير”.
سيظل الأستاذ الدكتور محمد بلاسي حيث يكون، خاصة في جامعة الأزهر الشريف، وفي كلية اللغة العربية بالزقازيق علامة فارقة بل فصلاً قائماً بذاته لا تقرأ فيه غيْر الجد ولا تجد وراءه سوى التميز.