التربية الجمالية في الإسلام 

التربية الجمالية كما يعرفها علي القاضي في كتابه أضواء على التربية الإسلامية : “تعبير يقصد به الجانب التربوى الذى يرقق وجدان الفرد وشعوره، ويجعله مرهف الحس مدركاً للذوق والجمال، فيبعث ذلك في نفسه السرور  والارتياح، ويرتقى وجدانه وتتهذب انفعالاته، وكل هذا يساعد على قوة الارادة وصحة العزيمة” (1)

ولعل الثمرة التي  تنتجها شجرة الجمال في الإسلام، يحتاج إليها المسلم في شؤون حياته العامة والخاصة، لأنها تكسبه القدرة على الإبداع والاتقان في العمل والصنعة، فكلما زاد الإحساس الجمالي عندهم زادت قدرتهم على الابداع الجمالي .

وفى ضوء ما تقدم نخلص إلى أن التربية الجمالية الإسلامية تقيم علاقة وثيقه بين الانسان والكون مبناها التعاطف والحب والرحمة والتكافل الحميم الذي يؤكد روح الود والانسجام بين كل منهما .

أسس التربية الجمالية في الإسلام 

حظى الإسلام بأسس التربية الجمالية منذ الوهلة الأولى التي خاطب فيها الكيان البشرى بلسان عربى مبين، وتجلت كلماته بشحنات وجدانية خاصة وقدرة على استثارة الصور الخيالية والمعاني القيمة .

وهذا الأسلوب الفني المنزل من قبل الله سبحانه وتعالى، يؤكد أن الإسلام منهج تربوي جاء ليهدي النفس كمالاتها عن طريق إحدى أنواع التربية التي جاء بها، وهى التربية الجمالية التي  جاءت في الإسلام على طريقين هما :

أولاً: طريقة التأمل في المخلوقات تمثيليًا

ويقصد بذلك دعوة القرلآن الكريم للنظر والتدبر في آيات الكون ومفردات الطبيعة والانفعال بها، لأن ذلك يربى عند الإنسان شعورًا جماليًّا يتمثل في الانسجام الدافئ بينه وبين الطبيعة، ويقوده – من خلال جمالها – إلى معرفة جلال الله تعالى، ومن خلال تنوعها يدرك وحدانيته سبحانه .

ويقول تعالى:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ)(الزمر:21)

وقوله سبحانه:(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)(الملك:19) .

هذه الايات وغيرها تسعى إلى توضيح  أن كل الأشياء تصب في نظام واحد يفضى بالجمال إلى الجلال .. فقد يكشف جمال قوقعة صغيرة، أو جمال طير رقيق من جلال الله وعظمة خلقة، وهذا ما يجب أن يعيه المصور المسلم حتى يتمكن من تدبر الجمال في فلك الجلال، وأن يجعل من الأول جسر عبور إلى الثانى حتى تصبح الجماليات بحسب المنهج الإسلامي الحقيقي موضوعًا لمستوى أخر من الادراك بالانتقال من الحسي إلى الوجداني (3)  فهذا الانتقال يخاطب النزعة الجمالية في الانسان ويذكى روحها ويقوى اعضائها فهو بمثابة التربة الخصبة تمد بذورها بما يؤهلها للإنبات والنمو حتى ثصبح أشجار ذات ثمار يانعة .

ثانيًا: طريقة تأمل الموجودات تجريديًا

ويقصد بذلك قراءة آيات الكون من منظور عقلي معنوي للمعاني والقيم المجردة المستترة خلف المحسوسات وغير المحسوسات، وهى قراءة جادة ونافذه يسمو فيها الإسلام بملكات العقل، ويرقق بها مشاعر ووجدان الكائن البشرى ليتحسن صور الجمال المختلفة والمتنوعة فيما حول هذه الايات .

ومن هذه الآيات التي  يستحب فيه القرآن العقل إلى مقامات جماله التجريدية قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)(آل عمران:103) .

وقولة سبحانه:(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(لقمان:34) .

تلك الآيات وغيرها تخاطب الملكة التجريدية، وتقرر فيها قيمًا ومعايير أخلاقية، ومعانى وحدانية الله وقدرته وعلمه، كما تأخذ العقل إلى رحلة روحية يشعر فيها بقدرته المحدودة أمام قدرة الخالق جل شأنه، ومن ثم يأخذ الإنسان في استكمال قيمته الأخلاقية وتوسعه في قدراته العقلية خاصة بعد علمه أن نصيبه من العلم لم يزل قليلاً .

في ضوء ما سبق  نجد أن الرؤية الإسلامية للقيمة الجمالية رؤية خصبة وحيوية، ويؤدي  بالضرورة إلى ثراء وتنوع الخبرة الجمالية ” فهناك طرق متعددة للادراك الحسي والمعنوي، والتعبيري والحدسي، يتجسد في الخبرة الجمالية الحريصة على أن تخاطب الناس على قدر عقولهم، على اختلاف مشاربهم وميولهم، أو وشعورهم أو ثقافتهم، فتضمن الخبرة بدورها ضربًا تربويًّا للارتقاء بالنفس المتلقية من مستوى إلى آخر”(4)

وهذا يجعلنا نقرر أن الجمال في الرؤية الاسلامية هو “تدريب للذات على الترقى من المحسوس إلى المجرد ، ومن المتناهى إلى اللامتناهى، ومن الجميل الفيزيقى إلى الجليل الميتافيزيقى”(5)

وهذا التنوع في النظرة التأملية التي  دعا إليها الإسلام من خلال إحدى صور منهجه التربوي تستجيب له الفطرة الإنسانية وتهش له، وتسعد به النفس وتسكن إليه ، لأنه يقضى على الألفة والعادة؛ فهما يفسدان التطلع إلى تذوق الجمال والتمتع به، وهذا يؤدى إلى تبلد المشاعر والأحاسيس، ومن ثم جاء الإسلام بهذا المنهج المتميز من التربية الجمالية..

الهوامش

(1) اضواء على التربية في الاسلام ، لعلى القاضى ، دار الانصار ، القاهرة ، 1979 م ، ص : 60 .

(2) فلسفة فن التصوير الاسلامى ، لوفاء ابراهيم ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، 1992 ، ص : 25 .

(3) المرجع السابق ، ص : 35 .

(4) المرجع السابق ، ص : 36 .

(5) المرجع السابق ، ص : 37 .