إنّ الإدراكات العادية الّتي يحصّلها الإنسان عن طريق الحسّ أو عن طريق التفكر والاستدلال، هي ثمرة لإعمال أدوات المعرفة والحسيّة والعقلية، فإدراك المبصرات والمسموعات وغيرها، موقوف على إعمال الحواس. كما أنّ الوقوف على الأُصول الفلسفية والعلمية، نتاج إعمال الفكر والعقل، وبالجملة فإنّ كلَّ ما يدركه الإنسان نتاجُ أدوات المعرفة بأشكالها المختلفة، حسيّة كانت أو عقلية أو وُجدانية، وأمّا الوحي الّذي هو مصدر الأديان الإلهية والرسائل السماوية، فهو يجسد الوسيلة التي يتصل بها الله جل وعلا بالإنسان، ذلك أن الله سبحانه أرسل رسله من أجل توجيه الناس وإرشادهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم في العاجل والآجل. وإن القرآن الكريم هو وحي من الله فمنه بدأ وإليه يعود، وهو حجة الإسلام الخالدة إذ استطاع أن يقهر العرب ببلاغتهم وشعرهم وفنونهم، حيث جاء على قوانينهم واستعمالاتهم، مع هذا كله شهدوا أنهم لم يعهدوا كتابًا مثله من قبل فوقفوا أمامه موقف المتحير المستسلم.
وبعد انتشار الاسلام في كل أقطار العالم صار القرآن محطة اهتمام الباحثين، ومحورًا أساسيًّا للدراسين، مؤملين في بيان قراءاته، ومضامينه، ومعانيه، وأوجه إعجازه، ولم يتبادر لكبيرهم أو صغيرهم أدنى شك في مصدرية هذا القرآن. ولكن في عصرنا الحديث ومع ظهور التيارات الإلحادية، والحركات الاستشراقية بدأ التشكيك يتسلل ويتسرب إلى القرآن، حيث ظهرت تفسيرات جديدة لم تسمع من قبل لظاهرة الوحي، فقالو إنه كتاب خاص بالنبي بعد أن عاش تجربة روحانية مثالية عالية على مستوى الصفاء فاستطاع من هذ التجربة أن يأتي بهذا الكتاب العظيم، وقال البعض أن الوحي هو حالة من الصرع تصيب النبي، وقال آخرون هو أنه إلهام شعري، إلا أن أبرزها وأكثرها انتشارًا ما قاله أصحاب نظرية النبوغ حيث نفوا الوحي قطعًا، وقالو هو حالة من النبوغ والعبقرية عاشها النبي ومن قبله من الأنبياء السابقين إذ امتلكوا عقولاً مشرقة هدتهم إلى الصلاح فأرادوا هداية الناس معهم.
الوحي في فكر المستشرقين
يعود اهتمام المستشرقين بالوحي إلى العصور الوسطى، محاولين إيجاد تفسير لهذه الظاهرة الربانية يتوافق مع أهداف الاستشراق، ويبعد الوحي عن حقيقة صدوره الإلهي، وإن تناولهم لقضية الوحي يعد من أخطر القضايا، إذ نجدهم يبذلون كل الجهود في وضع كل الاحتمالات للتشكيك في مصدرية القرآن ومنشئه، فتارة يقولون أنه حالة مرضية، وتارة أنه شعوذة وتكهن، وتارة أنه نبوغ بشري عاشه النبي ومن سبقه من الأنبياء إذ تميزوا بكمال الرقي في العقل البشري، من ثم ظهر ما سمي عند المستشرقين بنظرية النبوغ.
نظرية النبوغ في الفكر الاستشراقي
إن الأساس الذي قامت عليه هذه النظرية هو عدم وجود جهة ما يتصل بها النبي حتى يأتينا بالوحي، بل هو من عنديته لا غير، وأن الأنبياء قبله ليسوا إلا أناسًا يمتلكون عقولاً مشرقة ومشرفة تهديهم إلى ما فيه صلاحهم سعادتهم، فوضعوا القوانين وسنوا السنن وشرعوا الشرائع لهداية الناس إقامة الحياة ومواكبة تطوراتها، فتميزوا بالعبقرية والنبوغ وصفاء الروح وقوة الإرادة. ويقول المستشرق الألماني ثيودور نولدكه” إن محمدا حمل طويلاً في وحدته وحمل ما تسلمه الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثم أعاد صياغته بحسب تفكيره، حتى أجبره أخيرًا الصوت الداخلي الحازم على أن يبرز لبني قومه”
كما يقولون بأن النبي محمد استعان بعبقرتيه واعتمد على الكتب السابقة وما فيها من أفكار، فاستفاد من الديانات السابقة عليه كاليهودية والنصرانية، لاتصاله باليهود والنصارى اللذين التقاهم في أسفاره وخلواته، واطلاعه الواسع بمجريات أحداث التاريخ للرسل والأنبياء، فبعبقرتيه ورؤيته النقدية استطاع أن يغربل كل ما تلقاه ويبقى ما يخدم تصوراته.
وحاصل مذهبهم أنّه يتميز بين أفراد الإنسان، أشخاص يملكون فطرة سليمة وعقولاً مشرقة، تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع، وعمران الدنيا، والإنسان الصالح الّذي يتميز بهذا النوع من النبوغ هو النبي، والفكر الصالح المترشح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، والقوانين الّتي يسنها لصلاح الاجتماع هي الدين.
تحليل نظرية النُبوغ
إنّ تفسير النبوة بالنبوغ ليس تفسيرًا جديدًا، وإن صيغ في قالب علمي جديد، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليون يحسّون بجذبات القرآن وبلاغته الخلابة فينسبونه إلى الشعر الذي كان الحرفة الرائجة عندهم، ويتبارز فيه النوابغ منهم والعباقرة، فكانوا يقولون كما جاء في التنزيل قوله تعالى: (بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَة كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ)(الأنبياء:5) ويرد عليهم القرآن الكريم بقوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ)(الحاقة:41) وبقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)(يس:69).
إنّ العودة إلى هذه النظرية والاهتمام بها ونشر اعتقادها بين جموع المسلمين ينبع من الإحساس بالصَّغار أمام الحضارة المادية المُدهشة، المرتبطة بأنواع:
أولاً: الاكتشافات والاختراعات في مجال الطبيعة، والقائلون بها جماعة من المسلمين الذين تعلقوا بهذه الحضارة ناسين شخصيتهم الإسلامية وهويتهم الدينية، فلجأوا إلى تفسير عالم الغيب والنبوة والدين والوحي بتفسيرات ملائمة للأُصول المادية، حتى يَجْبرُوا مركّب النقص في أنفسهم من هذه الزاوية، ويصيحوا على رؤوس الأشهاد بأنّ أُصول الدين لا تخالف الأصول العلمية الحديثة.
ولو صحّت هذه النظرية، لم يَبْقَ من الاعتقاد بالغيب إلاّ شيء واحد، وهو الاعتقاد بوجود الخالق البارئ، وأمّا ما سوى ذلك، فكلُّه بأكمله نتاج الفكر الإنساني الخاطئ، وبالنتيجة لا يبقى إذعان بشيء ممّا أتى به الأنبياء من الأصول والمعارف في الدنيا والآخرة. وهذا في الواقع نوع من إنكار الدين، لكن بصورة لا تخدش العواطف الدينية.
ثانيًا: إنّ قسماً ممّا يقع به الوحي ويخبربه النبي صلى الله عليه وسلم، الإنباء عن الحوادث المستقبلية، إنباءًا لا يخطئ تحققه أبدًا، فهل يجرؤ نابغة من نوابغ المجتمع على الإنباء بنزول العذاب قطعًا بعد أيام ثلاثة ويقول: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب)(هود:65)، أو يخبر بهزيمة جيوش دولة عظمى في مدة لا تزيد على تسع سنين ويقول: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنى الأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ)(الروم:1-4)
إنّ النوابغ وإن سَمَوْ وعلو في الذكاء والفطنة، لا يخبرون عن الحوادث المستقبلية إلاّ مع الاحتياط والترديد، لا بالقطع واليقين وأمّا رجالات السياسة، اللاعبين بحبلها لمصالحهم الشخصية، سواء صدقت تنبؤاتُهم أم كذبت، فإنّ حسابَهم غيرُ حساب النوابغ.
ثالثًا: لو كان لهذه النظرية نصيب من الحق أو لمسة من الصدق، فما لنا لا نرى حملة الوحي ومدعي النبوة ينبثون بشيء من ذلك، بل نراهم على العكس، ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه، ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً.
رابعًا: لو كانت السنن التي أتوا بها من وحي أفكارهم، فلماذا يغررون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى. فهذه النسبة، إن دلّت على شيء، فإنما تدل على أنّهم كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراكَ هذه السنن والمعارف، إدراكٌ وراءَ الشعور الفكريُ المشترك بين جميع أفراد الإنسان، وأنّ الطريق الّذي يصلون به إليها، غيرُ طرق الإدراك المألوفة.
إنصاف بعض المستشرقين وإقرارهم بحقيقة الوحي
رغم كل الدعاءات والمحاولات من أجل تشكيك في نزول الوحي من عند الله، يأتي الانصاف من بعض المستشرقين أنفسهم، إذ اعترفوا بنزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وصرحوا بصدقه، بعد دراسات عميقة تميزت بالعدل والانصاف، ولم يكتفوا بالاعتراف فقط بل كانت لهم ردود وكتابات تدل على صدق النبوات والرسالات وأن الوحي من عند الله عز وجل بعيد كل البعد عن النبوغ أو العبقرية ونورد منها ما يلي :
يقول المستشرق ادوارد مونتيه:”كان محمد نبيا صادقا، كما كان أنبياء بني اسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى الرؤيا، ويأتيه الوحي”، كما تصدت المستشرقة الايطالية لورا للأقلام المغرضة حيث دافعت عن النبي صلى الله عليه وسلم وفندت كل الادعاءات التي تشاع وتنشر عنه. وقد وقف المستشرق السويسري حنا مواقف نبيلة في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد دراسة الوثائق التاريخية، ومن جانبه أكد المستشرق جون وانتبورت أن الدراسات التاريخية تسقط كل الأكاذيب التي أشاعها أعداء الإسلام حيث يقول : “بقدر ما نرى صفة محمد بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصحيحة…فلا يسعنا أن نتهمه”.