يحوز الدارس الاجتماعي الأمريكي “رودناي ستارك”(1) مكانة مرموقة في أوساط المهتمّين بعلم الاجتماع الديني في الحقبة المعاصرة، بموجب ما أسهم به في تطوير الطروحات السوسيولوجية الجديدة بشأن متابعة الظواهر الدينية، ضمن مجموعة علماء الاجتماع الذين ينادون برفع الحواجز عن كافة أشكال الإيمان ضمن ما يُعرف بـ”تحرير السوق الدينية”. فضلاً عن انشغال هذا التوجه بانتقاد سائر أصناف الاستئثار، والمونوبولات (الاحتكارات)، التي تقف حائلاً دون الانتشار الحر للاعتقادات الدينية في العالم.
يتلخّص كتاب ستارك “انتصار الإيمان” الصادر بالإيطالية في السعي للإجابة عن سؤال: لماذا عالم اليوم أكثر تديّنا بخلاف ما ساد سلفًا؟ وهو ما يسير على نقيض ما يروج أحيانًا بأن عالمنا هو عالم هجران العقائد والأديان. فمن خلال بحثه يخلص “رودناي ستارك” إلى أن عالم اليوم يشهد مدًّا إيمانيًّا ليس له نظير، بما يدحض الأطروحات التي سادت منذ ستينيات القرن الماضي عن اكتساح العلْمنة واللاّتدين وهيمنة التفسّخ الديني على المجتمعات، على اعتبار أن التملّص من الدين هو ما يطبع سير العالم.
فعلى مدى أجيال ساد الاعتقاد -وأحيانًا الاحتفاء- باكتساح العلمانية العالم في أوساط المؤرخين والدارسين الغربيين، غير أن الكثير من الباحثين في الوقت الراهن، تنبّهوا إلى تعذر تواصل مساندة تلك الأطروحة. والإشكال المطروح: لماذا ساد ذلك الزعم وما الحجج التي استند إليها؟ يشكك “ستارك” في المرجعية التي استندت لها العلْمنة قائلاً: “إن عديد الإحصائيات التي تحدّثت عن انحدار التديّن كانت خاطئة، بسبب أن مفهوم الدين كان محصورًا بحدود الأديان الممأسَسَة، أي الأديان المنتظِمة وفق منظور عقدي ونظام هيكلي، وجرى التغاضي عن الزخم الروحي الطليق، ولم يُدرَج في الحسبان سوى التمظهر الشكلي المعبّر عن الدين”.
الملاحظ أن الأوساط التي تغيب فيها الأديان الممأْسَسة، أو تتراجع فيها الحرية الدينية، تشهد فورة دينية موازية لكافة أصناف الماورائيات والغيبيات وأشكال القداسة.
يفكّك “ستارك” في كتابه النقدي ادعاءات اللاتديّن التي وجَدت رواجًا طيلة فترة الحداثة، والتي مفادها أن يكون المرء متديّنا يعني ألاّ يكون عقلانيًّا، وهي ادعاءات مغرضة انبنت على مقولة “موت الإله”، التي تعبّر في الواقع -كما يقول المؤلف- عن خدعة أنتجتها الحداثة، نعيش تهاويها اليوم بشكل مدوٍّ.
في القسم الأول من الكتاب حاول “ستارك” تقديم عرْضٍ لحالة الإيمان في العالم، وهو بمثابة التقرير العام، لِيَلي ذلك قسم تناول فيه بالوصف والتحليل والرصد الكمّي، أوضاع كل من أوروبا وأمريكا اللاتينية والبلاد العربية والإسلامية، تلاها حديث عن منطقة ما وراء الصحراء في إفريقيا، ثم اليابان والصين، ثم تطرق إلى أوضاع الدين في بلدان النمور الآسيوية، مرورًا بالانتعاشة الدينية في الهند، ليختم المؤلف كتابه بفصل عن أوضاع الدين في الولايات المتحدة الأمريكية.
نشير في البدء إلى أن “ستارك” قد اعتمد في مؤلف “انتصار الإيمان” على إحصائيات ومعلومات في دعم ما ذهب إليه، مستوحاة من استقصاء غطّى مليون شخص في 163 دولة (استطلاعات مؤسسة غالوب العالمية 2005)، التي أسفرت نتائجها عن أن أربعة من خمسة أشخاص، عبّروا عن انتمائهم بشكل اعتقادي إلى أديان ممأْسَسَة، وبين الخُمس المتبقي كثير يدينون بمعتقدات غير تابعة لدين معيَّن. وهو ما يعني أن 81% من سكان المعمورة يصرّحون بانتمائهم إلى أديان قائمة، لها أجهزة تسيير وأنظمة شعائر جلية، وأن 50% من أتباع تلك الأديان يقرّون بمشاركتهم في أداء شعائر أديانهم بشكل جماعي مرة على الأقل خلال الأسبوع. ومما يرد في الإحصاءات، صرّح بالتردد على محل عبادة مرة خلال الأسبوع 56% في إيرلندا، و48% في إيطاليا والدنمارك، و46% في الولايات المتحدة، و39% في البرتغال، و35% في النمسا، و23% في بلجيكا. في مقابل ذلك تأتي سيراليون في مقدمة الدول الإسلامية بنسبة 88%، ثم جيبوتي بنسبة 84%، تليها بنغلادش وتشاد بنسبة 82%، ثم الكويت بـ81%، فأندونيسيا بـ80%. نلاحظ أن بعض الدول الإسلامية والعربية لم ترد في هذا الإحصاء، كما نشير إلى أن بعض النسب لا تكشف عن الواقع الحقيقي للتردد على محلات العبادة. ففي تونس بلغت نسبة التردد 36%، غير أن الإحصاء لا يورد أن الفترة التي أجري فيها الإحصاء كانت المساجد ودور العبادة عامة، خاضعة لرقابة دقيقة من قِبل السلطة (أي إبان فترة النظام السابق قبل اندلاع الثورة)، وكان جل من يرتادها يُصنَّف بأنه متديّن، ما يعني من وجهة نظر النظام حينها أنه قريب من التوجهات الإسلامية المسيَّسة، ما جعل كثير من الناس يتحاشون التردد على المساجد تجنبًا للشبهات.
وفي مجمل الإحصاءات التي يوردها الكتاب، نتبيّن أن 74% من الذين شملهم البحث، قد صرّحوا بأن الدين يلعب دورًا هامًّا في حياتهم اليومية، وفي توجيه خياراتهم المعيشية، وأن 56% يعتقدون في تدبير الله شؤون العالم. ضمن هذا الكم العددي للمؤمنين، تبقى ثلاثة بلدان فقط شملها الاستقصاء، وهي الصين وفيتنام وكوريا الجنوبية، صرّح فيها المستجْوَبون -بنسبة 20%- أنهم لا يعيرون الدين اهتمامًا. لكن ينبغي فهم ذلك بمعنى الانتماء الفعلي إلى دين ممأسس كما أشرنا آنفًا، سيما وأن 5% فقط في فيتنام قد صرحوا بإلحادهم، و20% في الصين وكوريا الجنوبية. لكن الملاحظ أن الأعداد بالنسبة إلى الصين تبقى غير دقيقة، نظرًا إلى عدم سماح الدولة لوكالات الاستطلاع الأجنبية بإتمام أعمالها في ما يتعلق بتحديد الانتماءات الدينية، لذلك اعتمد الاستطلاع على وكالة صينية (هوريزون ألتيدي)، اشتغلت على 7021 عيّنة خلال العام 2007 استمدت منها نتائجها.
في غمرة انتقاده لتطور العلمانية المزعوم، يأسف “ستارك” لغياب إنجاز استطلاعات إبان خمسينيات القرن الماضي، حتى يتيسّر تبيّن البون الشاسع بين أشكال الاعتقاد والممارسات الدينية كما كانت وما أصبحت عليه، ويضرب مثلاً على ذلك بقوله: “خلال الخمسينيات كان في الصين خمسة ملايين من المسيحيين، وفي الوقت الراهن ثمة ما يقارب المئة مليون! وخلال الخمسينيات من الفترة ذاتها، كانت تتردّد على القدّاس في أمريكا اللاتينية حشود قليلة لا تتخطى الـ20%، واليوم باتت النسبة تتخطى 50%”.
إن ما راج من أحكام مغلوطة بشأن تدين القرون الوسطى، امتدّ أيضًا إلى مطلع العصور الحديثة، فقد روّجت العلمانية إبان موجة الحداثة -وبشكل مخادع- أن رواد التنوير قد أخرجوا الإنسان من “عصر الظلمات”.
ويتساءل “ستارك” كيف يمكن الوثوق بأبحاث لم تراع الحياد بشأن اللاتدين!؟ فعلى سبيل المثال حُجَج اللاتدين في روسيا الشيوعية هي حجج واهية، ولا يمكن أن تعبّر عن تطور عفوي للاّتدين في بلد يُلزم طلاّبه بالتردد على دروس “الإلحاد العلمي”، على أمل التسريع في خلق الإنسان الشيوعي المتحرر من أوهام الدين. مع ذلك لم تشفع ستون سنة من تلقين الإلحاد لبلوغ ما هو منشود، ولم تسفر النتائج خلال العام 1990 سوى عن 6,6% ممن صرحوا بإلحادهم، وهي نسبة تفوق بقليل نسبة الإلحاد في الولايات المتحدة (4,4%).
والملاحظ أن الأوساط التي تغيب فيها الأديان الممأْسَسة، أو تتراجع فيها الحرية الدينية، تشهد فورة دينية موازية لكافة أصناف الماورائيات والغيبيات وأشكال القداسة؛ ففي روسيا يفوق عدد المتطبّبين بخلفياتهم الروحية والدينية، أعداد الأطباء، كما نجد في فرنسا التي تتبنّى علمانية مشطّة 38% من الفرنسيين يعتقدون في التنجيم، ونجد في سويسرا 35% يعتقدون أن بعضًا ممن يقرأون الطالع بمقدورهم الاطّلاع على الغيب، وفي اليابان يبارك تقريبًا كافة أصحاب السيارات عرباتهم باستقدام راهب من الديانة الشنتوية أثناء اقتناء سيارة جديدة.. وهي جميعًا مظاهر من الميول القداسية تخفي نزوعًا نحو الدين.
يبيّن الباحث “رودناي ستارك” أن إحدى الحجج التي يتحجّج بها أنصار انتشار العلمنة، تتعلّق بنسبة التردد المتدنّية على الكنائس في أوروبا الحديثة. ويُفتَرض أن ذلك يشكّل سندًا للتراجع مقارنة بحِقب سالفة، أي ما يعني التخلي عن الاعتقادات الدينية أو رفضها. ليس ذلك الأمر صائبًا -كما تبيّن لستارك- إذ لم يحصل تراجع، لأنه وباختصار ما كان الناس يترددون بكثرة على الكنائس إبان العصور الوسطى أو بشكل حازم. ولدحضِ تلك المقولة يعود “ستارك” إلى جذور القول بتراجع الدين مع رجل الدين الأنغليكاني “توماس وولستون” سنة 1710، وقد ذهب إلى تواري أثر الدين من أوروبا بحلول القرن العشرين. والحال إبان القرون الوسطى، ما كان الناس في إيطاليا أو غيرها من دول جنوب أوروبا يترددون على الكنائس بكثرة، وإن ذهبوا إلى الكنائس، لم يكن ذهابهم بالانضباط اللازم أو الشغف المرجو. يستخلص ستارك تلك المعطيات من جملة من الأبحاث التاريخية.
وفيما يورده المؤرخ الإنجليزي “كيث توماس” بشأن التدين الشكلي في العصر الوسيط “كانت العامة تتدافع لحجز المقاعد في الكنائس، وتتزاحم بشكل محرج فيما بينها، حيث يتمخّط البعض ويبصقون على أرضية الكنيسة، كما تنشغل النسوة بالتطريز، وتصدر عن البعض تصرفات تنمّ عن سوء خلق”، وهي سلوكات تنبي عن فتور التدين، والأمر لا ينحصر بجنوب أوروبا، بل شاع في ألمانيا أيضًا إبان فترة الإصلاح. ففي لايبسيغ (1579-1580) أثناء عظة الراعي، كان هناك من يلعب الورق أو يزدري المقدسات، وفي دوقية ناساو الألمانية (1594) كان كثير ممن يترددون على الكنيسة مخمورين، ومنهم من يغالبه النعاس أثناء العظة، حتى أن بعضهم يخرّ أرضًا، وفي هامبورغ (1581) ثمة من يصطحب كلبه داخل الكنيسة.
إن عالم اليوم يشهد مدًّا إيمانيًّا ليس له نظير، بما يدحض الأطروحات التي سادت منذ ستينيات القرن الماضي عن اكتساح العلْمنة واللاّتدين وهيمنة التفسّخ الديني على المجتمعات.
يقول “ستارك”: “إن ما راج من أحكام مغلوطة بشأن تدين القرون الوسطى، امتدّ أيضًا إلى مطلع العصور الحديثة، فقد روّجت العلمانية إبان موجة الحداثة -وبشكل مخادع- أن رواد التنوير قد أخرجوا الإنسان من “عصر الظلمات”، وفكّوا أسر البشرية من براثن الاعتقاد الديني”. في الواقع كثير من “فلاسفة الأنوار” ما كان لهم دور في الاكتشافات العلمية حينها، وجرى التغاضي عن أن الكثير هم من رجال الدين، أو من المؤمنين التقاة. فقد تناول “إسحاق نيوتن” قضايا اللاهوت أكثر من تناول قضايا الفيزياء، وكرّس “يوهانز كيبلر” جانبًا كبيرًا من اهتماماته، لصياغة تاريخ حول نشأة العالم. وفي دراسة حديثة عن 52 نفرًا من العلماء، إبان حقبة “الثورة العلمية” (1543-1680)، كشفت أن 31 كانوا متدينين (كثير منهم من رجال الدين)، وأن 20 من بينهم متدينون بشكل متوسط، فقط عالم الفلك “إدموند هالي” ما كان متدينًا.
وفي تناول بعض الحالات من تاريخنا الراهن، يقول “ستارك”: “عادة ما يصنِّف الدارسون إيزلندا كأعلى بلد علماني أو كأكثر بلد فاتر التدين، ويغفلون عن أن 34% من الإيزلنديين يعتقدون في تناسخ الأرواح، وأن 55% يؤمنون بوجود “الهولدفولك” (روح خفية)، لذلك غالبًا ما يقع الانحراف بمدّ الطرق السيارة، لأنه يُخشى أن يُلحِق مسارها أذى بالهضاب أو المرتفعات التي تسكنها تلك الروح”. كما الإيزلندي الذي يتهيّأ لإقامة بيت، عادةً ما يجنّد “مكتِشفًا للأرواح” قبل الشروع؛ للتثبّت من أن المأوى لا يلحق أذى بـ”الهولدفولك”. كما أن نصف الإيزلنديين يتردّدون على المنجِّمين.. ويعود خطأ التوصيف الحقيقي لحالة التدين في إيزلندا -وفق رودناي ستارك- إلى اعتماد مفهوم الدين الممأسَس، والتردد على القداس ونسبة التعميد، وهي في الواقع معايير مضلِّلة، في حين ينبغي اعتماد التدين بشكل عام، بعيدًا عن المفهوم الحصري. والأمر ذاته في ما ينطبق على الصين، حيث يصرّح 77% من المستجْوَبين أنهم ليسوا متديّنين -بمفهوم الانتماء إلى دين مهيكَل- في حين يتردد تقريبًا كافة هؤلاء المصنَّفين في عداد “غير المتدينين” على المعابد التقليدية، ويؤدون التراتيل ويتبرعون بالزكوات للآلهة لِنيْل بركاتها، أو على أمل تيسير ما يصبون إليه.
في الواقع إن ما ذهب إليه “ستارك” لم يأت من فراغ، فقد تراجع كثير من أنصار التوجه العلماني في الولايات المتحدة، لعلّ أبرزهم عالم الاجتماع “بيتر بيرجر” منذ أن كتب مقالة صدرت في مجلة “كريستيين سانتشوري” سنة 1997، أورد فيها: “أرى أن ما خلصتُ إليه رفقة جمع من علماء الاجتماع المهتمّين بالدين، إبان حقبة الستينيات بشأن العلمنة كان خطأً.. قسمٌ كبيرٌ من عالمنا لم يتعلْمن، بل بالأحرى هو بالغ التدين”. ليتحول “بيرجر” عقب ذلك باتجاه الحديث عن التعددية الدينية المتعايشة مع الحداثة، كما في كتابه الأخير الصادر خلال العام الفائت “الهياكل المتعددة للحداثة”.
وفي تناول “ستارك” للتكتلات الدينية الكبرى، يبرز أن التطور في أعداد المسلمين (مليار ونصف المليار)، وهو مرشح لتجاوز عدد المسيحيين (ملياران ومئتا ألف)، يعتمد بالأساس على الخصوبة العالية في أوساطهم، في وقت يعتمد فيه تمدد المسيحية على نشاط التبشير الحثيث؛ لكن يلوح أن الخصوبة لدى المسلمين بدأت تشهد تراجعًا في بعض البلدان، مثل إيران وسوريا والأردن وتونس. وفي توصيف لتطور التبشير في إفريقيا يقول “ستارك”: “التهمت المسيحيةُ بطنَ إفريقيا (إفريقيا ما وراء الصحراء) في ظرف وجيز”. وأما ما يورده بشأن أوروبا فيلخّصه في التالي: “إن تبقى بعض الكنائس مهجورة، علامة على الإكليروس الكسول، أوروبا هي قارة “المؤمنين غير المنتمين” بحسب توصيف عالمة الاجتماع الإنجليزية “غراس دايفي للوضع”.
(*) أستاذ بجامعة روما / إيطاليا.
الهامش
(1) رودناي ستارك، عالم اجتماع أديان من مواليد 1934، يدرّس في جامعة بايلور في التكساس. أصدر مجموعة من المؤلفات، منها “نظرية الدين”، “مستقبل الدين”، “مدن الله”.