كانت السماء صافية، والربيع ساحرًا.. انتشر حيث كنت أجلس قرب روضة الحبيب عَبَقٌ من الأريج والعبير، ورائحة الفُل واليَاسَمين.. مَرَّ بي أحدُ أصدقائي القدامى، قال: أنت اليوم سعيد جدًّا، هذه المشاعر الجميلة، وهذه المسرات الحسية، وهذه البهجة والسرور.. من أين تأتي بها؟ وأنا أمتلك أموالاً وأولادًا وشهرة في الأنام، لكن ما أحسست يومًا بهذا الشعور والإحساس، وهذا الفرح الذي أراه على مُحَيَّاك! قل لي: ما سر هذا؟ وهل رغم ما في هذه الحياة من عقبات كأداء، تعيش مسرورًا هكذا؟
قلت: يا عزيزي لقد علّمني الحب أن الحياة مليئة بالأحجار، لكن يجب أن لا أتعثر بها، بل أصنع منها سلّمًا يقودني للنجاح.. فمن وسط الدُّلجة والحُلكة وبراثين الظلام، يبزغ الفجر ويشرق النور.
أما عن سبب هذه البهجة والسرور، فإن اليوم يوم ذكرى مولد رسول الله عليه وسلم؛ يوم عمَّت فيه المسرات قلوب المحبين، وبدا السرور على وجه الكون والحياة.لقد زرعت ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاكرتي، ذكريات لن تنضب بسهولة.
قال الصديق: أنا غريب عن هذا، أرجوك زدني.. كلامك نفذ إلى قلبي.. حدثني عن هذا الحبيب الذي يبتسم له ثغر الكون، ويخضر له زهر الربا، ويبعث الروح به في الحياة.
قلت: إطلالته رائعة، طلعته بهية، وجهه أبهى من البدر، كأن شمس الضحى تجري في ملامحه.. جماله سماوي، بهاؤه أزلي، نفَسه أطيب من الطيب.. نظراته ربانية تحيي موات القلوب، ابتسامته لؤلئية تضرب في أعماق الفؤاد.. صوته عذب وبريء، كلماته رقيقة، عيونه سوداء صافية كالبلّور من أروع ما صاغت يد الله، تلمع كالبرق تفيض بالرقة والحنان، لا تعرف القسوة أو الجفاء.
حدق عينه من خالص العين، تضرب أهداب عينيه خدوده النورانية.. مقرون الحاجبين كأنهما هلالين مشرقين، ناعس الطرف، كحيل العين، براق الثنايا.. جبينه يلح مثل مصباح الدجى المتوقد.. كفاه كالسندس والإستبرق.
مربوع القامة في غير سمنة، بشرته بيضاء مشربة بالحمرة.. فاق بدر السماء حسنًا وبهاء، بل اجتمعت فيه كل المحاسن.. نسيم الفجر برقته، والعسل بطن كفيه.. إن مر بحي حلّت به الأنوار، أو هلّ به أزهرت الأغصان.
إذا نطق حيّر العقول بجوامع كلمه، وإذا سكت أبهر الألباب بهدوئه وسكينته، يشع من كلامه النور في كل اتجاه.. كامل الأوصاف، بل الحسن فيه اكتمل، جمع الله له بين جمال الباطن والظاهر، وهو فوق الوصف.. إنه اصطفاء إلهي بحت. سبحانه؛ يصطفي من يشاء ويختار.
خلقت مبرأ مــن كــل عيـــب
كأنك قد خلــت كما تشــاء.
تغير وجه صديقي المتفائل وقال -وهو يكاد يطير من شدة الفرح- والدموع تنساب من عينيه على خدّيه: أشعرتني بخصابة الروح بذكرك هذا النبي العظيم، ومثل تحفة فنية رائعة أضفيت الانسجام والهدوء على حياتي الروحية والنفسية.. لقد هزني حديثك، وبعث فيّ الأمل.. فالدنيا بخير ما دامت روحانية هذا الحبيب العظيم والمصطفى الأمين تسري فيها.
قلت: ذكْر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يهز الإنسان الحي.. حبه يحرر من الخوف والضياع.
قال: كنت قبل سماع حديثك عن هذا الرسول الكريم أعاني من كسوف الروح، والآن بدأت الحياة تسري في كياني، والسعادة في قلبي.. لقد ألهبتَ مشاعري وهيجتَ عواطفي.. فأرجوك زدني عن حبه وصفاته حتى كأني أراه، فربما لا أعيش إلا لحظات..
ألح عليّ ووجهه غارق في الدموع.. بدأ عطر ذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم يملأ المكان.. والقلوب تتحرك، تحس بشيء غريب؛ وكأن الحبيب الطبيب صلى الله عليه وسلم قادم. فكان الأمر كذلك؛ إذ طلع هلال شهر ربيع الأول، وأشرقت شمس الثاني عشر منه، وأشرقت معه ذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه حي بيننا بطلعته البهية.
فإذا بصديقي، بالحديث عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وشمائله وأخلاقه الكريمة، يجد نسيمًا عليلاً ومنظرًا جميلاً يأسر كل القلوب، ويزيل كل الهموم والكروب، ويملأ القلب فرحًا وسعادة ونشوة وسرورًا.
وقال بصوت شاد مثير: لم أعرف الحب ولا كنت ممن يدخل الحب قلبه، لكن من يسمع أخلاق نبي الأمة ومنقذها وصفاته، يهيم ويعشق.. ولم أكن ممن يؤمن بسحر الجمال السماوي، حتى فاجأني اليوم سحر جماله.
كنت أنتظر شخصًا يدخل حياتي فيمنحني السعادة والبهجة طوال العمر، فكان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الشخص الراقي الذي اقتحم حياتي، وأضرم نيران الحب في أعماقي.. وكأن قلبي كان في انتظاره منذ زمان.
هو الآن صلى الله عليه وسلم أصبح كل شيء في حياتي.. أصبح عمري ومستقبلي وحاضري وأحلامي، وأصبح سعادتي ومنيتي وأملي، أصبح مَن ينبض له قلبي.. أصبح الآن قمر يضيء سمائي، أصبح هو الحب والحبيب.. وهو الكنز الذي كنت أبحث عنه، لقد لقيتُ به الطريق الصحيح والصراط السوي.
ثم أنشد يقول:
وددت بأن الحب يجمع كله
فيقــذف فــــي قلبـــي وينفـلــق الصـــدر
لا ينقضي ما في فؤادي من الهوى
ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر
لكن الدموع منعته من إتمام قوافيه هذه.
وقفل عائدًا إلى بيته، والسعادة الكبرى التي عاشها في روضة الحبيب وفي ذكرى الربيع، والفرح والسرور تغمر قلبه.
(*) أستاذ بجامعة محمد الأول / المغرب.