فى مرثية حزينة يقدم “أحمد عبد المعطى حجازى” قصيدته “سلة ليمون” وهى قصيدة تموج بالعاطفة والإحساس؛ كأنه أفاض عليها من روحه فتلبست بها لتخترق بعدها قلب وعقل من يقرأها.
بأسلوبه المعهود وطريقته الجذابة يتكلم “أحمد حجازى”؛ ولكنه فى هذه المرة يحاول كل جهده أن يستنطق الإنسان الذي فيه ليُخرج منه إنسانيته ويستنطق بعدها الإنسانية ليُخرج منها الإنسان. لقد أدرك شاعرنا الحقيقة وأراد أن يُرجع للإنسانية عذريتها التي فقدتها عبر قرون طويلة (أبان الحرب العالمية الأولى والثانية).
ولعله استطاع أن يُرجعها إلى وريقاته القليلة تنتظر من يضخ فيها الدم لتقوم بعدها بواجبها الإنساني، ولعلنا أيضًا نستطيع أن نفعل هذا خلال السطور القادمة.
إن قصيدة “سلة ليمون” لهي تجربة فريدة في تاريخ الشعر العربي وفي تاريخ “أحمد حجازي” الذي استطاع بكل براعة أن يصور أحلامه ووطنه المكلوم وأن يحمل على كاهله خطايا العدوان ليبيع كل هذا بثمن بخس “عشرون بقرش- بالقرش الواحد عشرون”.
لقد جاء “أحمد حجازي” إلى المدينة تاركًا قريته وهو وحيد لا يملك إلا موهبته، ولم يكن له مسكن ولا وظيفة ولا أصدقاء يعرفهم ويعرفونه، كل شيءٍ تركه فى قريته الصغيرة وراءه، وجاء إلى المدينة متصورًا أن موهبته سوف تكفل له ما ينقصه من عناصر الحياة ولكنها خذلته كعادتها، فظل يعيش على فتات ذكريات قريته. وهنا تظهر فلسفة الشاعر في الرحيل عن الأوطان إلى رحاب العالم المتسع محذرًا الشباب من الخيال وصدمة الحقيقة.
يقول أحمد حجازي:
سلّة ليمون
تحت شعاع الشمس المسنون
والولد ينادي بالصوت المحزون
“عشرون بقرش”
“بالقرش الواحد عشرون ! ”
ويبدأ مرثيته الحزينة بالأسلوب الإنشائي “سلة ليمون!” ماذا كان يقصد “أحمد حجازي”بسلة الليمون؟ أكان يقصد أحلامه الهاربة في رحاب الفضاء؟! أم كان يقصد قريته التي تعيش بداخله والتي فارقت جسده هاربة منه؟ ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل جاء شعاع الشمس الحاد ليقوم بدوره في تحطيم ما تبقى من مظاهر الحياة داخل جسده. ويقرر الشاعر أن يبيع ما تبقى بداخله من حب الخير والجمال والهدوء والقيم الإنسانية الرفيعة التي حملها معه عند خروجه من القرية بصوت محزون خال من أدنى مظاهر الحياة. ويبدأ المزاد “عشرون بقرش- بالقرش الواحد عشرون!” ما أقسى أن تضطر لبيع مبادئك من أجل أن تتأقلم مع ظروف الحياة الجديدة التي تصطدم اصطدامًا مباشرًا مع فطرتك السامية، أن تبيع نفسك وقيمك وإنسانيتك من أجل دراهم معدودة تكسب من خلالها كل الصفات السيئة لموافقة المجتمع. إن “أحمد حجازي” لم يكن وفيًّا للعهد ولا لقريته ولم يكن وفيًّا أيضًا لهذا الإنسان الذي يعيش بداخله؛ بل لم يكن وفيًّا لطفولته “فإذا كنتم صغارًا فاحلفوا ألا تموتوا”. ولكن هل يستمر الشاعر على هذا النمط أم أنه سوف يفيق في نهاية الأمر؟
ثم يبدأ الشاعر في التدرج من الانحطاط إلى العلو مرة أخرى، من بيع القيم ونسيانها إلى اكتسابها مرة أخرى وتذكرها والمحافظة عليها. فتذكر “سلة الليمون” وكيف غادرت القرية ومتى؟!.
ويصور هذا مكملاً أنشودته بقوله:
سلّة ليمون، غادرت القرية في الفجر
كانت حتّى هذا الوقت الملعون،
خضراء، منداة بالطلّ
سابحة في أمواج الظلّ
كانت في غفوتها الخضراء عروس الطير
أوّاه !
من روّعها؟
أيّ يد جاعت، قطفتها هذا الفجر!
حملتها في غبش الإصباح
لشوارع مختنقات، مزدحمات،
أقدام لا تتوقّف، سيّارات؟
تمشي بحريق البنزين!
مسكين!
لا أحد يشمّك يا ليمون!
والشمس تجفف طلّك يا ليمون!
والولد الأسمر يجري، لا يلحق بالسيّارات
عشرون بقرش
“بالقرش الواحد عشرون”
ويكرر ما بدأ به في بداية القصيدة “سلة ليمون” ويصفها بأنها غادرت القرية في الفجر، ثُمّ أُفْقِدَ الشاعر صوابه فوصف هذا الوقت المبارك بـ”الملعون”؛ لأنه وقت خروجه من القرية المتمثل في “سلة ليمون” فكأن الطبيعة أرادت أن ترجعه لصوابه غاضبة عليه، فما كان من الشمس إلا أن سلطت أشعتها الحادة عليه لتقضي على ما تبقى فيه من حياة. ثم يصف الليمون في هذا الوقت بأنه لا زال يحتفظ بلونه الأخضر مبلل بقطرات الندى يسبح فيها مع أمواج الضوء الخافت وقت الفجر، وهي هادئة، ناعسة، مستسلمة لأي شيء كعروس الطير.
وقد أخذت الذكريات تظهر أمامه بوضوح حتى لم يجد شيئًا يعبر عنه في هذا الوقت غير أن يصرخ بصوت لا يُسمع، أن يتألم دون أن يتأوه، أن يصرخ بكل معاني اللغة في صورة تشبه النزيف الداخلى”اُوّاه!”.
وها هو الشاعر يستيقظ من غفوته ليستعيد نشاطه الذي فقده، وأحلامه الهاربة منه في رحابة الفضاء، ليترجم هذا الصراخ الداخلي إلى طاقة ظاهرية يستعيد بها ما فقده. ويبدأ بسؤال “من رَوَّعهَا؟” وهو سؤال نستطيع من خلاله أن نستعرض فلسفة الشاعر في حل المشكلات بالسؤال عن السبب الرئيسي الذي أدى إلى المشكلة.
فيقول من استطاع أن يقنعه بالتخلي عن الجمال الداخلي ليعيش في مجتمع لا يحترم ولا يعترف إلا بالظاهر، ثم يتحدث عن الأداء (الآلة) أي يد كانت جائعة آثمة محبة لسفك القيم والمبادئ استطاعت أن تقتلعها في هذا الوقت المبارك (الفجر)، كأنه عاد بعد أن هدأت ثورته يستجدي بهذا الوقت أن يُرجع إليه ما فقده، ثم يصف اقتلاعها واليد التي فعلت هذه الجريمة الشنيعة في حق إنسانيته في ظلمة آخر الليل شأنها شأن اللصوص والخاطئين. حملتها لتسير بها في شوارع مختنقة بتصرفات الناس الفاسدة وقيمهم الضائعة وشخصياتهم المنحلة مختنقة بهم ومزدحمة كذلك، أما الناس فيها فعلى عجل لا أحد ينتبه لشيء فأقدامهم لا تتوقف وسياراتهم كذلك تمشي بما يخرج من داخل نفوسهم من وقود أسود لا بياض فيه، ثم يعود “أحمد حجازي” بعد أن وصف لوحة رائعة لحالة القرية متمثلة في سلة الليمون ولحالة سلة الليمون وما تحملة من قيم ومبادئ تغذي بها من القرية إلى المحور الرئيسي “مسكين!”. “لا أحد يشمك ياليمون” لا أحد يعترف بهذه القيم حتى أضحى الناس من كثرة ما يستنشقون من وقود سوادهم لا يستطيعون استنشاق عبير بياضهم المهزوم.
ولابد أن تتدخل الطبيعة في هذا الوقت، فقد تفاعل الفجر ببركته مع الشاعر فاستجدى من الشمس أن تخفف من وطأة آلام الليمون، وعاد الولد إلى سيرته الأولى وإلى طبيعته وأخلاقه وقيمه العليا السامية التي وقفت حائلة دونه ودون أن يصل إلى السيارات وما فيها من سواد النفوس.
وهنا يأتي الشاعر إلى النبضات الأخيرة ليختتم القصيدة:
سلّة ليمون!
تحت شعاع الشمس المسنون
وقعت فيها عيني،
فتذكّرت القرية!
واستسلم الشاعر في النهاية ليردد بصوته المحزون أيضًا أنشودته الحزينة مثله “عشرون بقرش- بالقرش الواحد عشرون!” ووضع السلة على الأرض وتأمل في عيون الليمون ليرى فيه قريته وأحلامه وقيمه الإنسانية الرفيعة التي كان يمتلكها، فقد عاد الشاعر إلى صوابه وقرر أن يواجه الحياة كما هو وليس كما تريده أن يكون.