يؤثر مضمون تراث الأمة من فكر وعقيدة وعادات وتقاليد وقيم ونماذج وسلوك.. في تشكيل نمط ومنهج الفكر والوجدان خاصة بين الأطفال والشباب، وذلك من خلال وحداتها الاجتماعية، بدءًا من الأسرة ومرورًا بالتربية المدرسية والمؤسسات الثقافية المتنوعة في التأليف والترجمة والنشر والأعمال الفنية والأدبية والمسرحية والسينمائية، ثم المؤسسات الدينية الرسمية والأهلية في مجالات الوعظ والدعوة والإرشاد وكافة ممارسات الشعائر الدينية في دور العبادة.. وأخيرًا المؤسسات الإعلامية في ساحات الصحافة والإذاعة والتلفزيون الذي يهيمن الآن -وبشكل رئيسي- في بث المعلومات والأنباء والأفكار، وأعمال الترويح التي تتفوق برامجها على غيرها من برامج أخرى -بسبب جاذبيتها- أكثر من البرامج الثقافية التي تخاطب العقول.
الأجهزة الإعلامية وتشكيل الفكر الإنساني
يتأثر تشكيل الفكر الوجداني بمدي قوة المؤثرات الثقافية والإعلامية على الشخصية، خاصة بين الأطفال والشباب، وقد يخفت أثر المؤسسات التعليمية والدينية في حالة انتشار هيمنة الأجهزة الإعلامية الجماهيرية، خاصة لو كانت مناهج التعليم والبرامج الدينية لم تتحرر من أفكار الجمود والتقليدية في الوقت الذي يتغير فيه العالم بشكل لم يسبق له مثيل. ونظرًا لوهن تأثير الوحدات الاجتماعية الرئيسية كالأسرة والتربية المدرسية والمؤسسات الثقافية والدينية، فإن تشكيل الفكر والوجدان أصبح في مهب التغييرات الثقافية، خاصة ما تحرر منها وانحاز نحو الثقافة الغربية العلمانية، ورد فعل ذلك من انتشار فكر تقليدي محافظ، وصل إلى درجة الجمود والبعد عن الوسطية.
ولا تقلّ احتياجات الفكر والوجدان أهمية عن احتياجات البدن والصحة والغذاء، وقد يترتب على عدم الوفاء بأي من هذه الاحتياجات، البحث عن نظم ومؤسسات بديلة تقوم بإشباعها وتصبح مصدرًا للثقافة والمعلومات التي يثق بها الشباب، غير قيمة.
الخطاب الموجه للتوعية الحضارية، عليه أن يضع في الاعتبار فئات الأعمار كلها، وأن يراعي تباين المستويات التعليمية والثقافية، وأن تكون هذه التوعية صادرة من اتجاهين، بحيث تتاح الفرص للحوار وتبادل الأفكار، ويتطلب ذلك ضرورة التأكيد على حرية الرأي.
أبعاد الأزمة التربوية
نحن إزاء أزمة تربوية وثقافية تنعكس غالبًا على شخصية الأطفال والشباب، مما قد يؤدي إلى إهدار الإمكانات والطاقات المختزنة في صدورهم وعقولهم وأنشطتهم، ومن ثم كان لا بد من ترشيد الأفكار والأفعال والأقوال في إطار الوحدات العليا للمجتمع، وبعبارة أخرى تحقيق التنمية البشرية التي لا تستطيع وحدة اجتماعية بذاتها القيام بها، كالأسرة أو المدرسة أو الجهاز الإعلامي، بل لا بد من تناسق الجهود على أساس من وحدة الهدف والمعرفة العلمية بأبعاد هذه الأزمة، حيث لا يجوز أن يهدم جهاز إعلامي -مثلاً- ما يبنيه جهاز ثقافي آخر في مجال القيم التي تعارف على احترامها المجتمع، والتزم بها لضبط سلوك الأفراد وإيقاع الحياة.
وينبغي بناء على ذلك، أن تتفق هذه الأجهزة الاجتماعية والإعلامية والثقافية والدينية على كلمة سواء تبغي المصلحة المشتركة للجميع دون تحيز ولا تمييز، وبعبارة أخرى، الاتفاق على الحد الأدنى لتدعيم مقومات الشخصية المتكاملة للأطفال والشباب في صور أهداف مشتركة، غير مختلف عليها مهما تباينت المشارب والأفكار، وأن تحتكم كل أمة من الأمم -مهما بلغت درجة حضارتها- إلى فكرة رئيسية أو مجموعة من الأفكار المناسبة والقيم المبتغاة التي تقاس بها درجة التزام الأفراد حكامًا ومحكومين، فإن درجة الالتزام تشتد عندما يكون الدين محورًا للعقيدة والأفكار أو الأيديولوجية بتعبير آخر، سواء كانت هذه الأيديولوجية معلنة أو مضمرة في صدور الناس.. وإذا ظهر تيار فكري مناقض -لم يشتد عضده- فلا سبيل للمجتمع إلا أن يقاومه أو يعارضه، ويدلنا على ذلك الاستقراء التاريخي لمجموع الحضارات التي خاضت الإنسانية تجاربها. فالبرغم من ارتقاء الدين المصري القديم إلى فكرة التوحيد في عهد “أخناتون”، ما لبث أن أجهضت التجربة حتى صحح الله مسار التاريخ الإنساني بالديانات السماوية إزاء حقيقة الحضارة وغيرها من حضارات الديانات الوثنية.
علاج الاستغراق المادي
بالرغم مما تشتهر به الحضارة الغربية الحديثة بالاستغراق في المادية والعلمانية، إلا أن مظلة الفكر الديني (المسيحي) ظلت تنشر ظلالها على ربوع كثيرة من المجتمعات الغربية؛ ونذكر في هذا الصدد، ما أفاد به المصلحون الاجتماعيون بالولايات المتحدة الأمريكية إبان القرن التاسع عشر، عن أهمية تشكيل عقلية الأطفال على أسس المبادئ المسيحية والحرية أو الليبرالية، معتمدين على ذلك أيضًا -تحت دعوة المهاجرين إليها- في تنشئة أبنائهم على هذه الأسس، حتى يتحقق الانسجام بين مشارب المواطنين الأمريكيين والوافدين، وحتى يؤكدوا على عدم الاعتماد على الأسرة فقط، بل يجب التركيز على دور المدارس وأماكن العبادة والعمل.
ولم تقتصر هذه الدعوة على المصلحين الاجتماعيين في القرن التاسع عشر فقط، بل هناك من علماء النفس من دعم هذه الفكرة وعلى رأسهم رائد علم النفس الارتقائي “ج. ستانلي” (G. Stanley) (1903)، الذي أفاد بأهمية الدور الرئيسي والمركزي للدين المسيحي في تشكيل الهوية، أو الشخصية الوطنية الأمريكية، وأن ذلك لا يتأتى إلا بالتربية الحضارية بمعناها الواسع، والتي تعتمد في عصرنا الراهن على المنظمات غير الحكومية، أو الأهلية في مجالات التعليم والثقافة والتربية الدينية والحركة الكشفية، وغير ذلك مما يسهم في عملية التنشئة الحضارية. ولن تقتصر هذه التربية الحضارية على الطفولة والشباب فقط، بل تمتد إلى فئات الأعمار الأخرى، حيث يمكن تغيير الاتجاهات الفكرية للكبار -رغم صعوبة ذلك- بشكل عام. فالخطاب الموجه للتوعية الحضارية، عليه أن يضع في الاعتبار فئات الأعمار كلها، وأن يراعي تباين المستويات التعليمية والثقافية، وألا تكون مثل هذه التوعية صادرة من اتجاه واحد نحو الملتقي، بل يجب أن تكون ذات اتجاهين، بحيث تتاح الفرص للحوار وتبادل الأفكار وردود الأفعال، ويتطلب ذلك ضرورة التأكيد على حرية الرأي. ويمكن أن يتحقق ذلك في ساحة العمل الثقافي والإعلامي في الصحافة والإذاعة والتلفزيون، من خلال التمكين من إبداء الرأي الحر في الصحف، وتبادل الحوار والنقد البناء في الإذاعة والتلفزيون، وليس ذلك على سبيل الانتقاء المتحيز للمحاورين، بل الانتقاء الموضوعي المعتمد على الكفاءة والقدرة في حالة الحوار المتخصص، ومشاركة مختلف الاتجاهات الفكرية في حالة الحوار الجماهيري.
أصول التخطيط التربوي
من الأهمية بمكان، ألا يقوم المتخصصون في أحد ميادين التربية والثقافة والإعلام والدين، بالتخطيط الثقافي والإعلامي والتربوي والديني، مستقلين عن نظرائهم في هذه المجالات، كما أن هناك آخرين في مجالات الأمن والقانون وميادين أخرى في العلوم الإنسانية يجب مشاركتهم، وأخذ آرائهم موضع الاعتبار؛ إذ الوعي الديني والقانوني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والفني.. كل ذلك يتكامل في وعاء التنمية الحضارية، ومن ثم يجب فتح الأبواب للمشاركة الإيجابية بالفعل لا بالمشاهدة أو الاستماع فقط. ويمكن عند إعداد المخططات التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية والدينية، دعوة مَن يكوّن الفئات العمرية والتعليمية والدينية من جماهير المستفيدين، للمشاركة في هذا الإعداد، ولا يكون ذلك من خلال المجالس البرلمانية فقط، بل المجالس المحلية ومجالس الآباء والهيئات غير الحكومية للخدمات والعمل الاحتماعي والنقابات المهنية المختلفة.
المشاركة الشعبية وتصحيح المسار التربوي
إن أولى الاعتبارات في ذلك كله، ألاّ يحتكر شخص بعينه أو جماعة أو وزارة أو هيئة، حق التصور للإصلاح أو تصحيح المسار الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي.. فالشعب هو صاحب المصلحة الأولى، وهو الحريص على التمسك بالثوابت الحضارية، وهو صاحب الحق في تعديل المتغيرات الحضارية، ومن ثم فإن فُرصَ المشاركة الشعبية يجب أن تجد لها سبيلاً في تصور وإعداد الخطط الثقافية والإعلامية والتربوية والدينية، ويعني ذلك أن العمل الديمقراطي لا يقتصر فقط على العمل السياسي، بل يجب أن تسري روح الشورى والمشاركة في العمل الاجتماعي بمعناه الواسع والشامل، للخدمات والتنمية التربوية والثقافية والإعلامية والدينية.
أما الأمر الثاني فهو أن تراعى الأهمية الإستراتيجية في اختيار المشروعات التربوية والثقافية والإعلامية والدينية، طبقًا لمبدأ الأولويات. فإلى جانب مكتبات الأطفال ومكتبات الأحياء والمسارح المحلية، يجب أن تكون مشروعات محو الأمية، ومكافحة التسرب الدراسي، وتقليص عمالة الأطفال، واستثمار وقت فراغ الشباب، لها السبق في رصد الميزانيات والاهتمام في البرامج الإعلامية وخاصة برامج التلفزيون، بل يمكن من خلال المنهج التكاملي أن تتواكب الجهود التربوية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والدينية في أماكن دور العبادة، والمكتبات، وفصول محو الأمية.. ويستخدم في ذلك، ملحقات المساجد والمدارس والساحات الشعبية، وبعض الأندية الملائمة، ومكتبات الأطفال وقصور الثقافة .
إن مثل هذه الجهود المتكاملة يمكن أن تحقق -من خلال الاتصال والإعلام المباشر- نتائج أكثر عمقًا، مما تحققه وسائل الاتصال غير المباشر، كالإعلام الجماهيري رغم انتشاره وهيمنته وعمق نفوذه.
(*) كبير أئمة بوزارة الأوقاف المصرية / مصر.