حظى الخط العربي بأهمية لم تكن مبالغًا فيها، فهو فن متفرد عن غيره تميز به العرب، وظل خالدًا عبر القرون بأعلى المستويات الجمالية والفنية، حيث يمكن اعتباره التراث الوحيد الذي استمر كمطلبًا للعرب والمسلمين يمارسونه في كل المناطق وفي كل العصور، فوضعوا له المعايير والضوابط؛ لذا أوجب الموثق بأن يراعي الخط وأحكامه “وينبغي له إذا فرغ من كتابتها أن يعيد النظر فيها لتفقد ألفاظها وأحكام فصولها، وينبغي له إذا سافر إلى جهة لا يعرف اصطلاح أهلها أن لا يتصدى للكتابة إلا بعد أن يعرف اصطلاحها، ونقودها، ومكيالهم، وأسماع الأصقاع، والطرق، والشوارع”.
جمالية الخط العربي في الأندلس
وفي الأندلس استمر الحرف العربي ثمانية قرون، كان خلالها مثالاً يحتذى للنهضة العلمية الرائعة التي خلّفها العرب في الأندلس، والتي أصبحت فيما بعد أنموذج للمجتمع الإسلامي المثالي لمن أراد أن يعمل بروح الإسلام. فكثرة الابتكارات والاختراعات العجيبة، فازدهرت الأندلس، ونسي المجتمع الذي عاش فيها قروناً طويلة اللغة التي سادت في الأندلس قبل دخول المسلمين، مما دفع ملوك أوروبا لإرسال أبناءهم إلى المدارس الأندلسية لتعلّم العلوم، والعودة بعد إتقانها لبلادهم، ما جعلهم يبذرون في أوروبا بذور العلم لنهضة تتناول كافة وجوه الحياة.
تلك المعطيات أعطت للخط العربي في الأندلس قيمة جمالية وهو ما يتضح من خلال الهدية التي تلقها الملك فريدريك الثاني من أبيه والتي هي عبارة عن ثياباً مطرّزة الأذيال والأردان بخط عربي بديع واضح، يقول فيه الخطاط بعد أن انتهى من نسجه وتطريزه: ” بمصنع الملك مقر الشرف والحظ السعيد، مقر الخير والكمال، مقر الجدارة والمجد، في مدينة صقلية عام 528هـ”
فلا غرو أن يحتل الأدب واللغة وغيرها من علوم الأدب مرتبة عالية من مراتب العلوم فقد اشتغل الأندلسيون بالعلوم في بداية الحركة العلمية التي بلغت ذروتها في عصر الخلافة، خاصة وأن الكثير من علماء الأندلس اتصفوا في سيرتهم العلمية بلون من ألوان الأدب كالبلاغة أو قول الشعر وغيرها، فانتعشت أسواق الكتب في سائر المدن الأندلسية، وأصبح في كل مدينة سوق لبيع الكتب ومزاد لبيعها بالمزاودة (بازار) وأصبح المخطوط العربي تحفة من التحف التي يزيّن بها الأثرياء قصورهم، ومادة أساسية لطلاب العلم الذين جعلوا غرفة في بيوتهم ذات رفوف وخزن كمكتبة خاصة لهم ليقتنوا تلك الكتب والمخطوطات، فضلاً عن ذلك تواجدت عشرات المكتبات العامة في كل مدينة، يرتادها الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء.
البصمة الخطية
واُعتبر الخط من السمات والمعطيات التي تدل على الأشخاص، وتؤكد نتائج ودلائل ما استند علىها القضاة والحكام كبراهين لإصدار الأحكام بين المتنازعين والخصوم، الأمر الذي استلزم وجود فئة من العارفين بالخط تركزت أعمالهم في إظهار صحة الخطوط وكشف المزور منه عن طريق مطابقة الحروف والكلمات بأخرى كتب من ذي قبل، وكذلك قبول الشهادات التي يستقوها من الشهود العدول؛ ألا وهم خبراء الخطوط.
ففي الأوقات التي ينكر بعض الأشخاص فيها بأن الخط الموقع به على الوثائق والعقود وغيرها من الأوراق المهمة هو من خطهم، يتم اللجوء في هذه الحالة إلى شهادة الشهود لتكون هي الفيصل في الحكم على هذا الخط، فلابد لهم من فحص الخط والوقوف على صحته من عدمه ومن ثم مواجهة الموقع، كما جاء في النازلة عن ابن رشد “فتشهد البينة أنه خطه لا يشك الشهود فيه لمعرفتهم به ووقوفهم علىه”.
حيث كانت الشهادة على الخطوط وصحتها وما يتعلق بالتوقيعات من الأمور المهمة في إنهاء المنازعات، وإثبات بعض الحقوق والقضايا الفقهية المرتبطة بالشهود العدول ومن يتصفون بذلك، خاصة في الأمور المتعلقة بالبيوع والرهن وشهادات وغيرها، فانقسمت الشهادة على الخط إلى قسمين، أولها الشهادة على خط المقر صاحب الخط، ثانيها الشهادة على خط الشاهد وتأتي في المرتبة الثانية بعد الشهادة على خط المقر نظرًا لأهميتها في فض المنازعات والخصومات، حيث جاءت الأحكام بأنه “كل من جازت الشهادة على قوله وإن لم يشهد جازت الشهادة على خطه”.
مكاتب لتوثيق الخطوط
كل هذا أوجب وجود دكاكين للموثقين (العدول) في أنحاء البلاد، يكتبون الوثائق للناس ويشهدون علىها لتقريب وتسهيل الأمور على الفقراء والمحتاجين من أبناء المجتمع، ويتقاضى هؤلاء الموثقين أجورًا من طالبي الشهادات والوثائق، ماعدا تلقي شهادة اعتناق الإسلام، كما كانوا يتغاضون عن دفع رسوم التوثيق إذا ثبت تعسر الأزواج. وكان يشرف علىهم ويراقب عملهم قاضي التوثيق الذي يتبعونه؛ إذ كل قاضي توثيق يتبعه مجموعة من العدول ويصادق على وثائقهم إن كانت سليمة من الخطأ، أو يردها علىهم لتعديلها أو تبديلها.
وخضعت عملية الفحص من قبل خبراء الخطوط للوثائق بالتدقيق لإثبات صحة الخطوط الموقعة وكذلك الكلمات والمصطلحات المرسومة بها حتى تثبت صحتها، لأنه في كثيرًا من الأحيان وجدت وثائق يقع فيها بتر أو محو أو ضرب في مواضع العقد الأصيلة التي تدور حولها النازعات مثل عدد الدنانير أو سنة ضربها خاصة فيما يتعلق بالرهون والبيوع، أو في تاريخ الوثيقة ما لم يضر بالوثيقة ولا يوهنها في حال عدم وجود ما يشير لهذا الخطأ، فإن وجد لم يضعف من أحقية الوثيقة، وإن كان الخطأ يثير الشك والريبة في تلك المواضع سُئلت البينة فإن حفظت الشيء بعينه الذي وقع فيه ذلك من غير أن يروا الوثيقة مضت وإن لم يحفظوه سقطت الوثيقة.
الموثقين والنزاعات المختلفة
وتشير عملية الفحص والتدقيق لإحدى الوثائق أن تاريخها شابه تصويب ولم يعتذر منه الكاتب، فقال الموثقين والشهود “نرى أن نستفيد البينة التي في الوثيقة إن وافقت أن الإصلاح في الوثيقة حين عقد شهادتهم لم يضرها ذلك، وإن شكت فيه ولم تأت ببينة غير ما تشهد بذلك سقط التاريخ”.
هذا وقد كان الخط والشهادة علىه لا تجوز إلا على خطوط جليلة معروفة لا يقدر على التزوير علىها، لأن الخط كما قال الفقهاء هو “الخط عندنا شخص قائم ومثال ماثل تقع علىه العين ويميّزه العقل كما يمّيز سائر الأشخاص والصور، فالشهادة على الخط جائزة”، وإن كان صاحب الخط مريضًا أو به علة فإن الشهادة على خطه تكون عن طريق السؤال ثم ينقل عنه شهادته رحمة به وبمرضه، أم المتوفى أو الغائب ففي هذه الحالة تكون الشهادة على خطهم هي الفيصل في الحكم وإن لم يشهدا بذلك.
وفي أحياناً أخرى وقع الخلاف حول خط الشهود أنفسهم وليس صاحب الخط أو المقر به، نظرا لمرور الوقت وكثرة التزوير عليه فكان قول الموثقين فيه هذا “تجوز الشهادة على خط الشهود ولو عرف الشاهد خطه وما عندي من خلاف لأنه الأزمنة حالت وحال الناس فكثر الضرب على الخطوط وقل تميزهم لها”. وقد وردت تلك الحالة في الوثائق الأندلسية وبخاصة في وثيقة لإثبات صحة خطوط وهي مؤرخة في 30 ذى القعدة 889هـ/ 20 ديسمبر 1484م ومضمونها “نظر شهوده إلى شهادة الفقيهين العدليين أبى جعفر أحمد بن محمد بن الشيخ أبى بكر الجياني وشهادة الفقيه أبى عبد الله محمد بن على القيسي وأمعنوا النظر في إشكال حروفهما وبان لهم أنهما شهادتهما موضوعة بخط يديهما وأنهما كان من عدول بسطة المحروسة الذين تمضي شهادتهما في الحقوق واتصلت عدالتهما إلى حين وفاتهما، ومن شهد ما ذكر كما وصف قيد على ذلك في شهادته في أواخر ذي القعدة عام تسعة وثمانين وثماني مائة (20 ديسمبر 1484م)”.
وأحيانًا أخرى وقع الخلاف بين الموثق والقاضي حول صاحب الخط، حين يقول أحدهم أن هذه شهادتي بخط يدي ولا أذكرها، أو يقول أرى كتابًا يشبه كتابي وأظنه إياه، فلست أذكر شهادتي ولا متى كتبتُها”. لأنه في كثيرا من الأحيان أن ينسى أصحاب الخطوط توقيعاتهم على بعض الوثائق والشهادات ولا يتذكرونها، ففي نازلة ذكرها ابن رشد أن ((كتب إلي من مدينة اغرناطة يسأل عن الشهادة على خط يد المقر بالعتق. هل هي عاملة ينفذ العتق بها أم لا؟)).
ويشير البرزلي أيضا لنازلة أخرى عن الشهادة على الخط فقد سئل عبد الجليل الربعي فقيل له: إذا أخبرك أبو عمران الفاسي هذا خط فلان فهل نقطع بهذا الخط ونقول إنه خط فلان من غير اسناد إلى غير ما أخبرك الشيخ لثقتك باخباره وصدقه؟ فأجاب: إذا أخبرني الشيخ أنه شاهد صاحب الخط يكتبه فهو واحد عدل لا يوجب خبره العلم”.
وفي النهاية، فقد تبوأ الخط منزلة متميزة في التراث الحضاري العربي والإسلامي إلى جانب تعبيره ودلالاته عن قيم فنية وجمالية معينة، ينقل إلينا من خلال الكلمة المجوّدة مضمونها ومعناها، وعندئذٍ يلتقي جمال الكلمة مع قدسية المعنى، وتمتزج الثقافة بالفن ويحتفظ أحدهما بالآخر ليصبحا معًا وسيلة من أعظم وأرقى وسائل المعرفة للإنسان.